وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
وبعد:
أقول: فإن طبيعة الدروس مثل البحر, مد وجزر, وطبيعة طالب العلم في أول الأمر تجده مثل السعفة, سريع الاشتعال, سريع الانطفاء.
ولهذا بعد التأمل ترى أن جميع الفضائل المناطة بها المكارم في الدنيا والآخرة ما نالها كل أحد, ولو سلكها أكثر الخلق؛ لأن السلوك شيء, والصبر على تحمل لأوائها وكدها شيء آخر؛ ولهذا حفت الجنة بالمكاره, وحفت النار بالشهوات, بعض طلاب العلم يريد أن يبرز على أقرانه، وأن يشار إليه بالبنان بمجرد أن يحفظ وهو في بيته بعض المتون وينتهي, ولكن دون هذا خرط القتاد, فلا بد من التأمل والتأني والصبر وتحمل المشاق، كما يقول محمد بن شهاب الزهري. العلم ذكر لا يحبه إلا الرجال.
وأقول أنا: العلم علم الوحيين والفقه فيهما, علم الفحل لا يناله إلا فحول الرجال.
فلا بد -يا إخوان- من الصبر, ثم الصبر، ثم الصبر:
سأصبر حتى يعلم الصبر أنني صبرت على شيء أمر من الصبر
فلابد من عناية النفس, والنظر فيما ناله أئمة الدين وعلماء الإسلام, وأن يتذكر الإنسان ألا يشغله عن طاعة الله ولا عن طلب العلم شيء من حظوظ الدنيا, ولولا عناية الله بعبده لما حصل ما حصل, ولا شك أن طلب العلم نعمة وأي نعمة.
ولكن هذه النعمة تحتاج منك إلى عناية، وإلى غرس، وإلى تأمل وتنظيف، هذه النخلة التي تستظل بظلها ربما يأتي جذع يضر بها أو نحو ذلك, فلولا عنايتك بها لتشذيب جذوعها لما طالت, ولما كثر ظلها, وكثر شجرها، وكثر ثمرها؛ ولهذا كل شيء يحتاج إلى عناية, وإلى صبر وتحمل، وهكذا هو العلم يحتاج منك إلى صبر وتحمل وعناية علك أن تنال ما ناله الأولون, كما قال يحيى بن أبي كثير : لا يستطاع العلم براحة الجسد.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين, وأن يمنحنا وإياكم رضاه، والعمل بسنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.
في أول الدرس كنت أرى جمعاً غفيراً، ولا أكتمكم -قلتها لكم قبل ذلك- كنت أضحك في داخلي فأقول: أعلم أن هذا الجمع لن يستمر؛ لأن الدروس مثل السعفة, ومثل ... تظهر ثم تختفي؛ ولهذا الأعمش سليمان بن مهران إمام القراء وإمام المحدثين في زمانه جاءه أحد طلاب العلم يريد أن يحظى منه بحظوة، فقال: يا شيخ! احمد الله على هذا الجمع, فهذا إن دل فإنما يدل على حسن النية, وكثرة العلم, فضحك سليمان , فقال: لا يضيرك, هؤلاء الجمع ليسوا على سواء؛ ثلث يموت, وثلث ينشغل بالدنيا, وثلث لا يصفوا لهم ما أرادوا.
هذا أمر معروف؛ ولهذا أنصح نفسي وأنصح إخواني أن يكثروا من اللجأ والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى أن يمنحهم الفقه في الوحيين، والله أعلم.
ذكر المؤلف الموجب الثالث من موجبات الغسل, وذكر إسلام الكافر, والكافر هنا سواء كان أصلياً أم مرتداً إذا أسلم, وسواء وجد منه حال كفره ما يوجب الغسل، مثل أن يكون قد جامع ولم يغتسل بعد, أو احتلم أو أنزل، أو لم يوجد منه ذلك, هذا مذهب الحنابلة وقول عند المالكية، واختاره ابن المنذر ، ونصره الشوكاني رحمه الله.
واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود والترمذي والنسائي وأحمد من حديث قيس بن عاصم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمره حينما أسلم أن يغتسل بماء وسدر ), وهذا الحديث صححه ابن خزيمة وابن حبان, وابن المنذر .
والدليل الآخر ما رواه عبد الرزاق في مصنفه, قال: أخبرنا عبيد الله وعبد الله أبناء عمر , وقد سبق أن قلنا: إن المصغر والمكبر ضعيف, عن سعيد المقبري عن أبي هريرة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
والقول الآخر في المسألة، نسبه الخطابي إلى أكثر أهل العلم: أن الأمر بالاغتسال على سبيل الاستحباب, وهذا قول عند الحنابلة, ولعل هذا القول أظهر جمعاً بين الأحاديث لأمور:
أولاً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أسلم على يديه وفي زمنه خلق كثير, وقد كانت الوفود تأتي تباعاً يشهرون إسلامهم, ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال، ولو كان الغسل واجباً في حق من أسلم لأمرهم بذلك, إذ إنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
وكون النبي صلى الله عليه وسلم أمر قيس بن عاصم بالاغتسال دليل على الاستحباب, وكونه لم يأمر الخلق الغفير دليل على عدم الوجوب.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم ( أمر
ثالثاً: الرسول صلى الله عليه وسلم أمر قيس بن عاصم أن يغتسل بماء وسدر, والقاعدة أن الأصل في الأوامر الوجوب، هكذا قواه الشوكاني ونصره، لكن الرسول أمره أن يغتسل بماء وسدر معاً, فلو كان هذا على سبيل الوجوب لأوجبنا عليه أن يغتسل بالسدر؛ لأن الأمر يقتضي الوجوب, فلما لم يكن الأمر بالسدر واجباً دل على أن الأمر في الماء ليس واجباً.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويستحب له إلقاء شعره، قال أحمد : ويغسل ثيابه ].
يقول المؤلف: (ويستحب له إلقاء شعره)؛ لحديث أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من أسلم بقوله : ( ألق عنك شعر الكفر واختتن ), وهذا الحديث ضعيف لا يفرح به, وعلى هذا فالاستحباب حكمٌ شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي.
والرسول صلى الله عليه وسلم حينما أسلم أبو قحافة والد أبي بكر، لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة -كما في صحيح مسلم وغيره- إلا بأن يغير الشيب.
أما غسل الثياب فقد سبق أن ثيابهم طاهرة، فيكون غسلها على سبيل الاستحباب, هذا لو قيل: إن غسلها حسن؛ لأن الكفار لا يستنزهون من البول فكان حسناً, أما الاستحباب فهو حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي.
المؤلف ذكر أن الميت إذا مات وجب غسله, وقد ذكر صاحب الإنصاف المرداوي : أن الموت موجب للاغتسال في الجملة بلا نزاع, ودليل الاغتسال ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حق ابنته كما في حديث أم عطية : ( اغسلنها بماء وسدر ), وقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث ابن عباس في الرجل الذي وقصته ناقته: ( اغسلوه بماء وسدر, وكفنوه في ثوبيه, ولا تغطوا رأسه؛ فإنه يبعث يوم القيامة ملبياً ).
وقول المؤلف: (غير شهيد ومقتول ظلم), الأقرب -والله أعلم- أن المقتول ظلماً يغسل؛ لأن الذي لا يغسل هو قتيل المعركة, أما لو جرح ثم مات بعد انتهاء المعركة فلا يأخذ أحكام الشهيد كما حصل لـسعد بن معاذ .
وعلى هذا فالمقتول ظلماً يغسل على الراجح، والله أعلم.
يقول المؤلف: إن الحيض والنفاس من موجبات الغسل, وهذا أمر مجمع عليه, نقل الإجماع صاحب المغني وابن المنذر والنووي وخلق كثير, لما جاء في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها, أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر امرأة سألت عن الغسل: فقال: ( لتأخذ إحداكن خرقتها فتتطهر وتحسن الطهور حتى تبلغ أصول شعرها ) .. الحديث، فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم بالاغتسال, وقول الله تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ [البقرة:222].
والمؤلف يقول: [ فيجب بالخروج والانقطاع شرط ], يعني: أن خروج الدم دليل على وجوب الاغتسال؛ لكن شرطه هو انقطاعه, فيتوقف الوجوب على حصول شرطه وهو الانقطاع؛ لأن انقطاعه يبدأ به الوجوب.
قال المؤلف رحمه الله: [ ولا خلاف في وجوب الغسل بهما، قال في المغني، فيجب بالخروج، والانقطاع شرطه، ولا ولادة عارية عن دم فلا غسل بها، والولد طاهر ].
يعني لو حصلت ولادة بلا دم أصلاً, وهذا يحصل عن طريق العملية القيصرية, وللأسف الشديد صارت الآن موضة كما سألت عن ذلك, حيث إن المرأة لا تريد أن تلد إلا عن طريق العملية القيصرية بعمل فتحة على البطن, ثم بعد ذلك يخرج الجنين سليماً, وكأن الأمر صار طبيعياً, أحياناً يحصل دم وأحياناً لا يحصل.
المؤلف يقول: (لا ولادة عارية عن دم فلا غسل)؛ لأنه لم يحصل دم, ولو نزل الدم بعد ذلك فيجب, وأفادنا المؤلف في ذلك على أن نزول الدم لإلقاء نطفة أو علقة أو مضغة لم تخلق, ولم يتبين فيها خلق إنسان، فإنه لا يجب به الغسل؛ لأنه دم فساد, وهذا أيضاً شبه إجماع, ونقله بعضهم بلا نزاع، والولد طاهر بلا إشكال. والله أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر