إسلام ويب

الروض المربع - كتاب الطهارة [27]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اختلف العلماء في مسألة التيمم لغير حدث، والراجح أن التيمم لا يكون إلا لحدث، ويشرع التيمم عند الخوف من استعمال الماء أو العجز عنه، ومن فقد الماء والتراب جميعاً نوى رفع حدثه، وصلى على حسب حاله، ويشترط في ما يتيمم به أن يكون تراباً طهوراً مباحاً غير محترق.

    1.   

    التيمم لغير حدث

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه! وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه! ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

    وبعد:

    قال المؤلف رحمه الله: [ أو نوى بتيممه نجاسة على بدنه تضره إزالتها أو عدم ما يزيلها به، أو خاف برداً، ولو حضراً مع عدم ما يسخن به الماء بعد تخفيفها ما أمكن وجوباً ].

    المؤلف بعد أن تحدث عن مسألة النية في التيمم، قال: (أو نوى بتيممه نجاسة على بدنه تضره إزالتها)، هذه مبنية على مسألة: هل يجوز التيمم لغير حدث؟ من المعلوم أن الحدث -كما مر معنا- وصف قائم بالبدن يمنع من الصلاة ونحوها، فإذا وجدت في بدن الإنسان نجاسة يصعب عليه إزالتها، مثل: أن تكون هذه النجاسة قد وقعت على جرح، والجرح يضره الماء، ويصعب تنظيفه، فهذه نجاسة على بدن الإنسان يعسر إزالتها، فهل له أن يتيمم لها؟

    الحنابلة رحمهم الله يجوزون التيمم لغير الحدث، يعني: لنجاسة على البدن، ويجوزون -كما مر معنا- الاستجمار في غير السبيلين، ومر معنا قول أبي العباس بن تيمية أنه إذا كان حول ذلك فلا حرج، أما ما كان بعيداً فلا، وعلى هذا فالحنابلة بدون جواز التيمم لغير طهارة الحدث.

    والقول الثاني في المسألة: أنه لا يتيمم إلا لحدث، وهذا مذهب جمهور الفقهاء خلافاً للحنابلة.

    وإذا لم يجز التيمم للنجاسة على الثوب -ولم يقل به قائل- فكذلك النجاسة على البدن، وأنتم تعلمون أن الإنسان إذا أراد أن يصلي وجب عليه إزالة النجاسة، ووجوب إزالة النجاسة سواء كانت على البدن، أو على الثوب دليلها واحد، فيقول الجمهور: إذا لم يجز التيمم للنجاسة على الثوب -مع أنه لم يقل به قائل- فكذلك التيمم للنجاسة على البدن لا يصح، إذ لا فرق، وهذا القول قوي، وهو الراجح.

    إذاً: دليل القول الثاني أنه لا يتيمم إلا لحدث قالوا: لأننا متفقون على أنه لا يتيمم للنجاسة التي على الثوب، فكذلك النجاسة التي على البدن، إذ لا فرق، وهذا القول هو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي، واختيار ابن تيمية ، وهي الرواية الأخرى عند الحنابلة.

    1.   

    التيمم لخوف استعمال الماء أو العجز عنه

    قال المؤلف رحمه الله: [ أو خاف برداً ].

    يعني: إذا خاف المرء المرض، أو تأخر البرء، أو زيادة الحمى من شدة البرد فإنه يتيمم ويصلي، كما مر معنا في حديث عمرو بن العاص ، وقلنا: إن حديث عمرو بن العاص عندما قال: ( تذكرت قول الله تعالى: وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فتيممت ثم صليت بأصحابي )، أن في سنده عبد الرحمن بن جبير المصري لم يسمع من عمرو ، وأن أصح منه رواية عبد الرحمن بن جبير عن أبي قيس مولى عمرو بن العاص عن عمرو أنه قال: ( فغسلت مغابني وتوضأت ثم صليت )، فليس فيها ذكر التيمم، وهذا يدل على أن الإنسان إذا لم يستطع أن يعمم سائر بدنه، فإنه يفعل ما يستطيعه؛ بأن يغسل مغابنه أو يغسل رأسه، ويتوضأ ليخفف الجنابة الكبرى.

    وقد روى البيهقي وغيره في تفسير قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً [النساء:43] قول ابن عباس: الرجل تصيبه الجراحة في سبيل الله ويخاف إن هو اغتسل أن يتيمم.

    يقول المؤلف: (ولو حضراً)، في الحضر يفرقون بين عدم وجود الماء، وبين وجوده ولكنه يضر؛ ولهذا قالوا: ولا يتيمم خوف خروج وقت، فالحنابلة يفرقون في السفر وفي الحضر عند عدم وجود الماء، أما الخوف على البدن، فإنه لا فرق في الحضر والسفر، إلا أن في الحضر يزاد فيه الاحتياط، بمعنى: إذا لم يجد ما يسخن به أو خاف إن سخن الماء خرج الوقت، فهنا يفرقون؛ ولهذا قالوا: يجوز له التيمم خوف البرد ولو حضراً مع عدم ما يسخن به الماء.

    ثم قال: (بعد تخفيفها ما أمكن وجوباً)، يعني: تخفيف الحدث، سواء كان أكبر أم أصغر، بمعنى: أنه إن قام وهو في السفر مثلاً، أو في البر، وهو محدث حدثاً أكبر، وليس عنده ما يسخن به، هل يتيمم للحدث الأكبر ويتوضأ للحدث الأصغر؟ نقول: لا ينتقل إلى التيمم إلا بعد أن يغسل ما استطاع من غسل؛ بأن يغسل رأسه، ويغسل مغابنه ما أمكن، ثم بعد ذلك يتيمم لما لم يصبه الماء، ثم يغسل ما استطاع من غسل ثم يتوضأ، وأما أن يتيمم ابتداءً ثم يتوضأ، فلا يجزئه حتى يفعل ما يمكن أن يكون قد زال عنه الحرج، والله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16]، كما صنع عمرو بن العاص قال: ( فغسلت مغابني وتوضأت )، لم يغتسل غسلاً عاماً؛ بل غسل ما استطاع أن يغتسل.

    قال المؤلف رحمه الله: [ أجزأه التيمم لها؛ لعموم: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) ].

    الدليل: ( جعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) يعني: أن التراب طهور، وإذا كان طهوراً جاز به.

    قال المؤلف رحمه الله: [ أو حبس في مصر فلم يصل للماء أو حبس عنه الماء فتيمم أجزأه ].

    إذا حبس الإنسان، ولم يجد ماءً سواء كان حبسه خارج المصر، أو داخل المصر، فإنه يصدق عليه أنه لم يجد الماء، فإن الله يقول: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [النساء:43]، والذي يعجز عن استعمال الماء كالمحبوس فإنه يتيمم.

    1.   

    أحكام فاقد الطهورين وما في حكمه

    قال المؤلف رحمه الله: [ أو عدم الماء والتراب كمن حبس بمحل لا ماء به ولا تراب، وكذا من به قروح لا يستطيع معها لمس البشرة بماء ولا تراب صلى الفرض فقط على حسب حاله ولم يعد ].

    كيفية صلاة فاقد الطهورين

    الحنابلة يقولون: إذا لم يجد الماء ولم يجد التراب؛ فلا ينتقل إلى الرمل ونحو ذلك؛ لأنهم يرون أن التراب هو الذي يصح به التيمم، وما عداه فلا، والقول الراجح في الرمل: أنه يجزئ، فإذا لم يجد التراب، فإنه ينوي الطهارة، فإن حبس في مكان لا تراب فيه، ولا ماء فإنه يصلي على حاله، فلا بد من نية رفع الحدث، ثم يصلي بعد ذلك على حاله. وكذلك إذا كانت البشرة يضرها الماء والتراب، وقرر الأطباء ذلك فإنه ينوي رفع الحدث ويصلي على حاله، وقل مثل ذلك في المريض الذي تمنع بعض المستشفيات إدخال التراب أو الرمل، فإنه في هذه الحال ينوي رفع الحدث، ثم يصلي.

    وبعض المستشفيات الغربية -وهذا في حق الذين يذهبون للعلاج فيها- يمنعون من دخول التراب، أو الرمل، وربما أدخلوا لهم تراباً محترقاً، يعني: تراباً معالجاً، ليس هو الصعيد الطيب، فإذا كان معالجاً فكعدمه -كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله- فعلى هذا ينوون رفع الحدث ثم يصلون على حالهم، إلا أن المؤلف قال: (صلى الفرض فقط على حسب حاله ولم يعد)، وهذا مبني على أن جواز الصلاة هنا من باب الضرورة، والضرورة تقدر بقدرها.

    والقول الثاني: أن له أن يزيد على الفرض، فله أن يقرأ بعد الفاتحة سورة، وله أن يقول بعد سبحان ربي الأعلى: سبحان ربي الأعلى مرتين ويدعو، وله أن يتسنن، ويتطوع، وغير ذلك.

    فالحنابلة قالوا: إذا صلى من غير تيمم ولا ماء، فإنه يفعل الفرض فقط، سواء كان في أداء العبادة نفسها، أو غير ذلك.

    فإذا صلى يقرأ الفاتحة، ثم يركع، لا يقرأ بعدها شيئاً؛ لأن الركن هو الفاتحة، ثم إذا ركع اطمأن، وقال: سبحان ربي العظيم، ثم رفع، وقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد ثم ركع، يفعل الواجب فقط، والدليل هو أن الأصل أن الإنسان إنما جوز له الصلاة هنا للضرورة، والضرورة تقدر بقدرها، والقدر الواجب هنا هو أداء الفرض، والحنابلة إنما قالوا ذلك -كما أشار إلى ذلك بعض متأخريهم- على سبيل الاستحباب، فلو خالف شخص وقرأ بعد الفاتحة لم يحرم، هكذا قالوا، والأقرب -والله تبارك وتعالى أعلم- أن المرء إذا جوزنا له أن يصلي على أي صفة كانت، فإنه طاهر، فيفعل مثل ما يفعله الطاهر، وهذا قول عامة أهل العلم؛ لأن صلاته كاملة ولا نقص فيها، وليس للاقتصار على مجرد الواجبات قياس أو نظر، وهذا اختيار أبي العباس بن تيمية رحمه الله وغيره؛ لأن الله يقول: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].

    وكل من فعل بالطهارة ما أمكنه، فقد أدى الواجب الذي عليه، وعلى هذا فلا إعادة عليه، وله أن يزيد في العبادة.

    حكم إعادة فاقد الطهورين الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ولم يعد؛ لأنه أتى بما أمر به فخرج من عهدته، ولا يزيد على ما يجزئ في الصلاة ].

    وهذا دليل قوي؛ أنه لا يعيد؛ لأن بعض الروايات أنه يعيد، والصحيح أنه لا يعيد؛ لأنه أتى بما أمر به، فخرج من عهدته، ودليل آخر ما رواه ابن عمر عند أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين ) فإذا أدى المرء العبادة على الوجه الذي أمره الله فلا يسوغ أن نأمره مرة ثانية،؛ لأنا إذا أمرناه مرة ثانية، إما أن تكون الصلاة التي صلاها باطلة، فلماذا نأمره أن يصلي؟! وإما أن تكون صحيحة، فلماذا نأمره أن يعيد الصلاة؟! والله تبارك وتعالى أعلم.

    حكم الزيادة على واجبات الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ فلا يقرأ زائداً على الفاتحة، ولا يسبح غير مرة ولا يزيد في طمأنينة ركوع أو سجود وجلوس بين السجدتين، ولا على ما يجزئ في التشهدين ].

    المجزئ، أولاً: المجزئ في التشهد الأول: التحيات لله والصلوات، والمجزئ في التشهد الأخير مع التحيات لله تقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد، أو اللهم صل على محمد فقط، ثم تسلم، هذا مذهب الحنابلة، وهذا عندهم على سبيل الاستحباب، والراجح أنه كالطاهر مثلاً بمثل.

    بطلان صلاة فاقد الطهورين بالحدث

    قال المؤلف رحمه الله: [ وتبطل صلاته بحدث ونحوه فيها ].

    يعني: أنه إذا لم يجد الماء، ولم يجد التراب وهذا عند الحنابلة، ونحن نقول على القول الراجح: ولم يجد رملاً، أو صعيداً عاماً، ثم نوى رفع الحدث، فله أن يصلي به؛ لكن لو أحدث بعد نية رفع الحدث، فإن نيته تبطل، فلا بد أن ينشئ نية جديدة، وكل ما يبطل الوضوء له حكم وقوع الحدث في حقه.

    إمامة فاقد الطهورين في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يؤم متطهراً بأحدهما ].

    يعني: أن من هذا حاله -وهو الذي صلى من غير ماء ولا تراب- لا يؤم من كان طاهراً بالماء، أو طاهراً بالتيمم، فلو افترضنا أن أناساً حبسوا في مكان لا ماء فيه ولا تراب، وأحدهم ما زال طاهراً بالماء، أو ما زال طاهراً بالتيمم، والآخر ليس طاهراً بالماء ولا بالتيمم، ولكنه رفع الحدث، فإن هذا لا يؤم المتطهر؛ لأنه كما أنه لا يؤم من لم يؤد بعض أركان الصلاة بمن يستطيع أن يؤدي كامل أركان الصلاة، فكذلك لا يؤم من انتقص شروط بعض العبادة على من أكمل شروط العبادة، هذا دليل الحنابلة، وكما هو معروف عند الحنابلة أنه من كان قادراً على أداء العبادة وأركانها، فإنه هو الذي يؤم من لا يستطيع أداء بعض العبادة إلا إذا كان إمام الحي.

    والراجح -والله تبارك وتعالى أعلم- أن كل من صحت صلاته صحت إمامته، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله )، كما في صحيح مسلم من حديث أبي مسعود البدري ، فإذا كان الذي لم يجد الماء ولا التراب أحسن قرآناً، فإنه هو الذي يؤم؛ لأن عادم الطهارتين بالنية كواجدهما، والله أعلم.

    1.   

    شروط ما يتيمم به

    قال المؤلف رحمه الله: [ ويجب التيمم بتراب -فلا يجوز التيمم برمل وجص ونحيت الحجارة ونحوها- طهور ].

    اشتراط كون ما يتيمم به تراباً

    (يجب التيمم بتراب)، والتراب هو تراب الحرث، كما روى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس في تفسير قول الله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [النساء:43] قال: الصعيد الطيب هو تراب الحرث، واستدلوا أيضاً على التراب بما ثبت في صحيح مسلم من حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وجعلت تربتها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء )، وهذا مذهب الشافعية والحنابلة.

    واستدلوا على ذلك أيضاً بقول الله تعالى: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، فكلمة (منه) اختلف المفسرون فيها، فبعضهم قال: إن (من) هنا تبعيضية، وعلى هذا فلا بد أن يصيب جزء من الصعيد اليدين، وهو الغبار؛ لأنه يقول: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] (منه) الهاء يرجع إلى الصعيد، و(من) تبعيضية، أي: اجعلوا أيديكم ووجوهكم يصيبها جزء من هذا، وهذا لا يتأتى إلا مما له غبار، وهذا تفسر الشافعية والحنابلة.

    والقول الآخر: أن (من) هنا لابتداء الغاية، أي: أن مبدأ ذلك المسح صائر وكائن بالصعيد الطيب، فكأنه قيل: بأي شيء نتيمم؟ قيل: تيمم بالصعيد، فصارت (من) لابتداء الغاية، وهذا قول مالك و أبي حنيفة ورواية عند الحنابلة، ومما يقوي القول الثاني -وهو أن (من) ابتدائية- أن الله قال في آخر الآية: مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ [المائدة:6] قالوا: إن (من حرج) نكرة في سياق النفي، والنكرة في سياق النفي -كما يقول علماء الأصول- من صيغ العموم، فهو دال على نفي جميع أنواع الحرج، ومن المعلوم أن التراب لا يتأتى لجميع البلاد، فبعض البلاد لا يوجد فيها التراب، وهذا القول أظهر والله تبارك وتعالى أعلم، وعلى هذا فالراجح أن التيمم لا يلزم أن يكون بالتراب؛ بل يجوز بكل ما هو من أجزاء الأرض كالتراب والرمل والحجارة والأرض السبخة.

    والحنفية يقولون: كل ما علا على وجه الأرض، وهذا فيه نظر، والذي يظهر هو ما كان من الأرض أو من أجزائها التي لا تنفصل عنها غالباً؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فأينما أدركت رجلاً من أمتي الصلاة فعنده مسجده وطهوره )، فجعل صلى الله عليه وسلم أي مكان في الأرض صالحاً للصلاة، وللطهارة، حيث أن الرمل والتراب كلاهما من الطهور، وعلى هذا يكون الدليل الثاني للجمهور، الدليل الأول منه.

    الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يسافر -كسفره إلى تبوك- مع قلة الماء، وهو لا يمر في تلك الأماكن إلا على الرمال، فلم ينقل أنه حمل معه التراب، ولو كان التراب واجباً لحمله، ومن المعلوم أنه قد تيمم، فلم يتيمم إلا بما هو موجود، وليس هناك إلا الرمل، وهذا هو الراجح والله أعلم.

    اشتراط كون التراب طهوراً

    قال المؤلف رحمه الله: [ طهور فلا يجوز بتراب تيمم به لزوال طهوريته باستعماله ].

    يقول المؤلف: من شروط التيمم أن يكون بتراب، وأن يكون التراب طهوراً؛ فهم يرون أن التراب قد يكون نجساً، أو طاهراً، أو طهوراً، وقد قلنا: إن الراجح أنه إما طهور أو نجس، وقالوا: إن التيمم بتراب قد استعمل في عبادة فإنه لا يرفع الحدث، فلو أن شخصاً تيمم بتراب، ثم أزاله من مواضع سجوده ويديه وجمع، وجاء آخر فتيمم وأزال الغبار، وما تعلق في أعضاء وضوئه في مكان، ثم جاء طرف ثالث فتيمم من هذا الذي تساقط من أيدي الآخرين، هذا التراب استعمل في عبادة فلا يرفع الحدث هنا؛ لأنه يعتبر طاهراً عند الحنابلة وليس طهوراً، وقد مر معك أن الراجح أنه رافع للحدث، ومتى ما سمي ماء فهو صالح للطهورية ما لم تغير أحد أوصافه بنجاسة بلون أو رائحة أو طعم، وهذا هو الراجح، أن ذلك طهور وليس بطاهر.

    والمؤلف أراد أن يفرق بين التراب الذي أزيل من أثر عبادة، وبين مكان في الأرض كل واحدٍ منهم يضرب به يده، فلو جمعنا رملاً أو تراباً، وقلنا: تعال يا شيخ! نتيمم، فضرب بيديه، ثم قلنا لآخر: عبد الله تعال، فضرب في مكان صالح، ثم قلنا: تعال يا علي، فضرب علي، قالوا: هذا جائز، مثله مثلما لو دخل ثلاثة في مكان ماء فتوضئوا من هذا الماء؛ لأن العبرة هو ما تساقط من الأعضاء وليس ما كان موجوداً فاغترفوا منه.

    مدى اشتراط كون التراب مباحاً

    قال المؤلف رحمه الله: [ وإن تيمم جماعة من مكان واحد جاز كما لو توضئوا من حوض واحد يغترفون منه، ويعتبر أيضاً أن يكون مباحاً فلا يصح بتراب مغصوب ].

    الحنابلة يرون أن الطهارة بماء مغصوب لا يرفع الحدث؛ لأن النهي يقتضي الفساد، وذهب جمهور الفقهاء إلى أن الوضوء بماء مغصوب يصح مع الإثم، فكذلك نقول هنا: إن التيمم بتراب مغصوب يصح مع الإثم.

    اشتراط كون التراب غير محترق

    قال المؤلف رحمه الله: [ وأن يكون غير محترق، فلا يصح بما دق من خزف ونحوه، وأن يكون له غبار؛ لقوله تعالى فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] ].

    (ما احترق، وما دق من خزف ونحوه مثل الزير حالياً، والصناعات الفخارية، مثلاً: لو أن شخصاً محبوساً في سجن فهل نقول له: دق هذا الشيء وتيمم به، الحنابلة يرون أن ما عولج من أجزاء الأرض أو من التراب، فإنه يخرجه عن الطهورية، والأظهر والله أعلم أنه إذا وجد غير هذا فلا يسوغ له أن يتيمم به، وأما إذا لم يجد فإن التيمم به مع نية رفع الحدث أولى من عدمه؛ لأن من الجمهور كالحنفية ومن وافقهم من يقول: إنه من الصعيد الطيب، وكون الشيء يعالج به لا يمنعه، فإذا لم يخرجه عن مسمى الرمل أو التراب، فإنه يصح التيمم به، كما قلنا: لو عولج الماء بوضع شيء فيه، فإنه إذا لم يسلبه مسمى الماء صح الوضوء به، كما لو وضعنا ملحاً على ماء، ولم يسلبه مسمى الماء، فكذلك نقول في التراب أو في ما احترق من الرمل: إذا بقي مسمى التراب والرمل فيه فإنه يصح، والله أعلم.

    اشتراط كون التراب له غبار

    قال المؤلف رحمه الله: (وأن يكون له غبار)، قلنا: إن الراجح أنه لا يلزم وجود الغبار، وأما رواية: (فضرب بيده، ثم نفضها)، كما في رواية البخاري ، فهذا واجب لما نفض، قالوا: فهذا يدل على أن الغبار واجب، نقول: لا، ما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم قضية عين، ولو كان الغبار واجباً لما نفخه، والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ فلو تيمم على لبد أو ثوب أو بساط أو حصير أو حائط ].

    اللبد: بكسر اللام وهو الشيء من الصوف يوضع فوق الدابة، (أو ثوب أو بساط أو حصير أو حائط أو صخرة، أو حيوان، أو برذعته)، والبرذعة: ما يوضع على الحمار، أو البغل ليركب عليه، فهو كالسرج للفرس، (أو شجر، أو خشب، أو عدل، أو غير ذلك مما عليه غبار)، فإنك إذا تيممت ولصق بك شيء جاز؛ لأنه من أجزاء الأرض عند الحنابلة.

    حكم التيمم بتراب خالطه طاهر كالنورة

    قال المؤلف رحمه الله: [وإن اختلط التراب بذي غبار غيره كالنورة فكماء خالطه طاهر].

    يقول: التراب إذا خالطه شيء من عداه من أجزاء الأرض كالنورة، فكالماء إذا خالطه طاهر، فإن سلبه الطهورية وانتقل إلى غير مسمى الماء فلا يرفع الحدث، فكذلك التراب، إذا خالطه غيره، بحيث يكون أكثر من التراب، وخرج مسمى التراب عنه فلا يرفع الحدث كماء إن خالطه طاهر، والغريب أنهم يقولون: إن اختلط التراب بذي غبار غيره كالنورة فكماء خالطه، وهم يقولون: له أن يتيمم على لبد، أو على حصير، أو على شجر له غبار، فهذا مثله؛ لأن ما لصق منه يمكن أن يكون من تراب ومن غبار النورس.

    لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767953181