الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
قال المؤلف رحمه الله: [ ويعفى في غير مائع وفي غير مطعوم عن يسير دم نجس، ولو حيضاً أو نفاساً أو استحاضة، وعن يسير قيح وصديد من حيوان طاهر لا نجس، ولا إن كان من سبيل قبل أو دبر. واليسير: ما لا يفحش في نفس كل أحد بحسبه، ويضم متفرق بثوب لا أكثر.
ودم السمك، وما لا نفس له سائلة كالبق والقمل، ودم الشهيد عليه، وما يبقى في اللحم وعروقه ولو ظهرت حمرته طاهر ].
فالدم الذي يصيب الشيء، إما أن يصيب مائعاً أو سائلاً، فإن وقوع النجاسة في هذا المائع تنجسه، ولا يعفى عن يسيره، أما إذا وقعت في بقعة أو وقعت في ثوب، فإن المؤلف يقول: يعفى عن يسيره أي: يسير الدم، سواء كان هذا الدم حيضاً، أو كان نفاساً، أو كان استحاضة، أو قطعت أصبعك فخرج هذا الدم اليسير، أو المسفوح، وهو الدم الذي يخرج من حيوان مع بقاء حياته؛ فإنه يعفى عنه.
هذه الأشياء إنما تعفى إذا كان هذا الدم جاء من حيوان طاهر، كبني آدم وما يؤكل لحمه، فإن خرج من حيوان نجس فلا يعفى، وإن خرج الدم من السبيلين من قبل أو دبر فلا يعفى أيضاً؛ لأن حاله وحكمه حكم البول والعذرة فلا يعفى عن يسيرهما.
إذاً الذي يعفى من يسير النجاسة عند الحنابلة هو الدم، واستدلوا على ذلك بأدلة:
الدليل الأول: قول الله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً [الأنعام:145]، وجه الدلالة: أن الله سبحانه وتعالى حكم بنجاسة الدم المسفوح، والمسفوح هو الكثير، كما أشار إلى ذلك الإمام القرافي في فروقه.
الدليل الثاني: ما رواه البخاري في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما كان لإحدانا إلا ثوب واحد تحيض فيه، فإذا وجدت على ثوبها دماً من دم الحيض؛ مصعته بريقها وقرصته وحكته ) وجه الدلالة: أن المصع بالريق والحك لا يزيل أجزاء النجاسة، فدل ذلك على أن يسيره معفو عنه، و عائشة إنما ذكرت ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم حاضر على قاعدة: ( كنا نعزل والقرآن ينزل )، بمعنى: أن كل فعل يفعله الصحابة في حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينكر فإن ذلك دليل على أنه له حكم الرفع.
ومما يدل على ذلك: أن ابن عمر رضي الله عنهما كان يصلي فعبث ببشرة له؛ فخرج منه دم يسير ولم يخرج من الصلاة، وقال الحسن البصري كما عند البخاري معلقاً بصيغة الجزم: ما زال المسلمون يصلون بجراحاتهم. وهذا على معنىً من معاني أهل العلم: أن هذا الدم كان يسيراً، وبعض أهل العلم قال: إن دم الحيض والنفاس والاستحاضة الذي يخرج من قبل المرأة نجس؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما سألته أسماء عن دم الحيض يصيب الثوب قال: ( تحته ثم تقرصه ثم تنضحه بالماء ثم تصلي فيه )، والذي يظهر والله أعلم أن هذا الحديث دليل على أن الدم نجس؛ ولكن ليس فيه دلالة على أن اليسير غير معفو عنه، وحديث عائشة واضح في هذا، والله أعلم.
وقول المؤلف: (من حيوان طاهر)، معلوم أن ما يؤكل لحمه من الحيوانات فإن الدم الذي يكون في اللحم أو يكون في السلخ طاهر؛ لأنه جزء من أجزاء الذبيحة، وأجزاء الذبيحة مأكولة فهو داخل فيها؛ ولكن المؤلف أراد الحيوان الطاهر بني آدم، أو الدم المسفوح الذي يخرج من حيوان مأكول اللحم.
معلوم أن دم الحيض والاستحاضة والنفاس يخرج من القبل، فلماذا جوزه هناك قال: (ولو حيضاً أو نفاساً)، وقال هنا: (لا إن كان من سبيل قبل أو دبر)؟
الجواب: جمعاً بين الأقوال: أن المقصود هو خروج دم من قبل أو دبر غير دم الحيض والنفاس، فلو خرج من المرأة دم فإنه إذا لم يكن حيضاً أو نفاساً أو استحاضة؛ فإنه يكون نجساً، وهذا مبني على قاعدة عندهم: هل الدم الفاسد كالاستحاضة أم لا؟
بعضهم يقول: ليس كالاستحاضة، وبعضهم يقول: إن الدم الفاسد الذي يخرج من المرأة هو استحاضة، سواء سميناه استحاضة أو لا، وهو الذي يمشي أو ينقطع. وهذا هو الراجح: إنه لا فرق بين دم الاستحاضة والفساد، وقال بعضهم: إن قوله: (لا إن كان من سبيل قبل أو دبر)، هو في حق الذكر، والذي يظهر والله أعلم: أن الخارج من قبل أو دبر إذا كان هو دم؛ فإنه يعفى عن يسيره، مثل: الدم الذي يخرج من مريض البواسير، فإن كان يسيراً، فالذي يظهر والله أعلم أنه يعفى عنه، كدم الحيض والاستحاضة، وقد جاء في البخاري : ( أن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كانت تصلي، وإن الطست ليكون تحتها )، يعني: أنه يتقاطر دم الاستحاضة من تحتها، وهذا يدل على أنه يعفى عن هذا الأمر، والله أعلم.
ولهذا أشار الحنابلة إلى أن الموسوس غير داخل في هذا، وكان الإمام أحمد يرى هذا، فكان بعض طلابه يريدون بياناً أوضح، في رواية قال: شبر في شبر، يعني: شبر هنا في شبر، يعني: طولاً وعرضاً، هذا إرادة الكثير، وهذا الذي قاله أحمد كأنه نوع من التقريب وليس التحديد، وعلى هذا فالقطرات التي تراها في ثوبك من الدم الذي يسقط أو يتساقط من أصبعك المجروح لا حرج فيه إذا كان يسيراً.
المؤلف يقول: (ويضم متفرق بثوب)، فلو كان ثوبك عن يمين جهة الرجل فيه دم، واليسار فيه دم، والكمان فيهما دم، فإذا اجتمعت هذه النقاط والقطرات التي في الثوب فكثرت، فإننا نقول: يجب إزالته، يعني: ويضم متفرق من دم ونحوه في ثوب ونحوه، فإن فحش وكثر لم يعف، وهذا معنى قول المؤلف: (لا أكثر) يعني: لا أن يكثر.
المسألة الثانية: يقول المؤلف: (وما لا نفس له سائلة) النفس: هو الدم، و(سائلة) يعني: تسيل إذا جرح أو قتل، ومن المعلوم أن البق -وهو صغار البعوض- والقمل وكذلك العقرب والخنفساء وبعض الحشرات إذا قتلت، هذا الدم الذي فيها لا يسيل، فيعفى عنه؛ لأن النجاسة هنا محكومة بميتتها لأجل الدم الذي فيها، فإذا لم يكن فيها دم فهو طاهر، وهذا بإجماع أهل العلم.
قال المؤلف: (ودم الشهيد عليه).
دم الشهيد اختلف العلماء في حكمه، فالحنابلة يرون أن دم الشهيد إذا كان عليه فهو طاهر؛ لحديث: ( أن دم الشهيد يكون يوم القيامة اللون لون الدم والريح ريح المسك )، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يدفن الشهيد بدمه، ولو كان نجساً لأمر بإزالته، وقد قال: ( اغسلنها بماء وسدر )، فدل على أن الميت يجب غسله بإجماع أهل العلم، فلما لم يأمر بغسل الشهيد، فدل على أن دمه طاهر.
وقول المؤلف: (عليه)، دليل على أن الدم الذي يكون من الشهيد، إذا وقع في غيره من إخوانه فإنه يكون نجساً؛ لأن الطهارة محكومة حال وجوده عنده أو فيه، وقد يقول قائل: لماذا فرقتم؟ نقول: أرأيت الدم الذين يكون في جسدك من داخلك، أليس هو طاهر؟ ولكنه إذا خرج صار نجساً، ولهذا صارت ميتة الآدمي طاهرة، ( إن المؤمن لا ينجس )، وهذا مثله، والله تبارك وتعالى أعلم.
يقول المؤلف: (وما يبقى في اللحم وعروقه، ولو ظهرت حمرته طاهر).
نعم الدم الذي يكون في اللحم بعد خروج نفس الحيوان يكون طاهراً؛ لأنه كأجزاء الحيوان، ومعلوم أن أجزاء الحيوان من يده ورجله ونحوهما طاهر، فكذلك الدم طاهر، فهو من أجزاء الذبيحة، وقد روى الإمام أحمد عن عائشة أنها قالت: (كانت القدور تغلي باللحم وإن خيوط الدم تكون على القدر فكانوا يأكلون ولم يكن ينهى عن ذلك )، والأصل أن هذا الدم كأجزاء الذبيحة، والله تبارك وتعالى أعلم.
إذاً: الاستجمار يجوز أن يستجمر الإنسان في سبيليه بالحجارة ونحو ذلك، ولو كان الماء موجوداً، شريطة أن يستوفي العدد كما مر معنا، بأن يكون بثلاثة أحجار منقيات، أو ثلاث مسحات منقيات، فإذا حصل الإنقاء بثلاث فإن المحل يكون طاهراً، وهذا بإجماع المسلمين، كما قال ابن القيم رحمه الله؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سن لهم الاستجمار ولو مع وجود الماء، فدل على أنه طاهر، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أتى أحدكم الغائط، فإنه يجزئه أن يمسح بثلاثة أحجار فإنهن منقيات ).
وعلى هذا: فالرطوبة التي تحصل في الفرج معفو عنها، والله تبارك وتعالى أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر