الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم آمين، اللهم آمين، اللهم آمين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو، أي: الأذان المختار خمس عشرة جملة؛ لأنه أذان بلال رضي الله تعالى عنه، من غير ترجيع الشهادتين، فإن رجعهما فلا بأس، يرتلها، أي: يُستحب أن يتمهل في ألفاظ الأذان، ويقف على كل جملة، وأن يكون قائماً على علو كالمنارة؛ لأنه أبلغ في الإعلام، وأن يكون متطهراً من الحدث الأصغر والأكبر، ويكره أذان جنب وإقامة محدث، وفي الرعاية: يُسن أن يؤذن متطهراً من نجاسة بدنه وثوبه].
قوله: (وهو أي الأذان المختار خمس عشرة جملة)، هذا هو مذهب الحنابلة فهم يرون أن أفضل الأذان هو أذان بلال ، وإن أذن بأذان أبي محذورة جاز، وذهب الإمام الشافعي و مالك إلى أن أفضل الأذان أذان أبي محذورة ، وأذان أبي محذورة تسع عشرة جملة، وهو مثل أذان بلال إلا أن فيه زيادة أربع جمل، وهي الشهادتان أربع مرات، فيقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، سراً، ثم يرفع، ثم يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، سراً، ثم يرفع فهذه أربع جمل.
وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أن أفضل الأذان أذان بلال ، فيكون الإمام أبو حنيفة و أحمد رحمه الله يرون أن الأذان الأفضل أذان بلال ، قال أحمد رحمه الله: الرسول صلى الله عليه وسلم علم أبا محذورة أذانه، فلما رجع إلى المدينة ما زال يؤذن بلال بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو آخر الأمرين.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم هو مذهب بعض السلف الذي اختاره محمد بن إسحاق بن خزيمة ، و أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن العبادات الواردة على وجوه متنوعة الأفضل فيها أن يفعلها الإنسان جميعاً، فيفعل هذا تارة على حسب الزمان والأحوال، ويفعل هذا تارة على حسب الزمان والأحوال، يقول ابن تيمية : "لأن ذلك أقرب إلى تمام السنة، ولأجل أن هجر بعض السنن وفعل بعضها ربما يأتي بعد زمن يقال للسنة بدعة.
ولأن فعل بعض السنن مرة تلو مرة أدعى لحضور القلب، فهو أفضل من أن يتعود اللسان على لفظ ربما لا يستشعره حين يقوله، مثال ذلك: دعاء الاستفتاح فإن أحمد رحمه الله يرى أن أفضل أدعية الاستفتاح استفتاح عمر بن الخطاب : ( سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جدك، ولا إله غيرك )، وأنت تجد أن الإنسان إذا تعود على هذا الدعاء فبمجرد أنه يكبر يقوله وربما لا يستشعر هل قاله أم لا، فلأجل أنه يتعود على ترك هذا الإلف ويستشعر ما يقول يفعل هذا تارة، ويفعل الدعاء الوارد عن أبي هريرة تارة وهو: ( اللهم باعد بيني وبين خطاياي )، وغير ذلك.
والذي ذهب إليه أبو العباس بن تيمية رحمه الله هو الأفضل وهو رواية عند الإمام أحمد كما ذكر ذلك ابن رجب في القاعدة الثانية عشرة من قواعده الفقهية، وقد كنت قلت من قبل: إن إقامة أبي محذورة خمس عشرة جملة وهذا وهم مني، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التسديد في القول والعمل، والذي يظهر أن إقامة أبي محذورة سبع عشرة جملة، وكان وهماً من عندي قطعاً؛ لأن إقامة أبي محذورة مثل أذان بلال لكن فيه زيادة: قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة، فتكون سبع عشرة جملة؛ ولهذا روى النسائي و أبو داود و ابن ماجه و الترمذي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان تسع عشرة جملة والإقامة سبع عشرة جملة )، زاد أبو داود و ابن ماجه و النسائي في رواية: ( فيقول في الأذان الله أكبر الله أكبر )، فذكر جميع أذان أبي محذورة ثم ذكر جميع إقامته للصلاة.
قال المؤلف رحمه الله: (ويقف على كل جملة) فيقول: الله أكبر ثم يقف، ويقول بعد ذلك: الله أكبر، وفي الشهادتين يقول: أشهد أن لا إله إلا الله ثم يقف، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وهكذا في شهادة أن محمداً رسول الله وفي كل جمل الأذان أما وقفه على كل جملة من غير التكبير فهذا لا أعلم خلافاً في استحبابه، أما التكبير فقد وقع فيه خلاف، فذهب بعضهم إلى أن الأفضل أن يقول: الله أكبر الله أكبر، ثم يقول بعد ذلك: الله أكبر الله أكبر، فيجمع بين التكبيرين، واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح مسلم من حديث عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا قال المؤذن: الله أكبر الله أكبر، فقال أحدكم: الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله، ثم قال: أشهد أن محمداً رسول الله )، ثم قال في آخر الحديث، ( من قلبه دخل الجنة )، قالوا: فهذا يدل على أن المؤذن كان يجمع بين الجملتين في التكبير.
وقال بعضهم: إن الأفضل أن يذكر كل تكبير في جملة، فيقول: الله أكبر، ثم بعد ذلك يقول جملة أخرى، قالوا: لأن التكبير الثاني إنشاء وليس توكيداً، ولو كان توكيداً لكُرر كما تقول: جاء القوم أجمعون أجمعون، فلم تكن الجملة الثانية توكيداً حتى يقال تُكرر.
وقالوا أيضاً: قد روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: التكبير جزم، وهذا فسره ابن المبارك و البغوي في شرح السنة و المحب الطبري و ابن الأثير أنه لا يُمد ولا يُعرب، فيقف عند الراء مسكنة من غير ضم، وعلى هذا فيقولها جملة جملة؛ لأنه لو جعلها جملتين لقال: الله أكبرُ الله أكبرْ، فجعل الراء من غير تسكين، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم وهو موافق للقاعدة -التي تقول: ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يُنزل منزلة العموم في المقال- أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُبين لـبلال ولم يُبين لـأبي محذورة هل يجمع أم يُفرد مع أن الدواعي متوفرة لبيان ذلك، وإنما علمهم جُمل الأذان وكل واحد صاغ ذلك بأسلوبه، وأن عدم تفصيل النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك يدل على أن الأمر فيه سعة فإن شاء جمع وإن شاء أفرد..
والذي يظهر والله أعلم أن ذلك خلاف السنة، ولكنه يصح؛ لأن المقصود من الأذان هو الدعاء والنداء إلى الصلاة، أو الإعلام بدخول وقت الصلاة على خلاف بين الفقهاء، وهذا حاصل خاصة في زماننا فلو جلس أمام الميكرفون وأذن فإن ذلك يؤدي المقصود.
أولاً: لأنه ليس أمراً معتاداً، أما المحدث حدثاً أصغر فربما شق عليه خاصة بعض المؤذنين الذين يأتون في أول الوقت فيخشون لو توضئوا أن يتأخروا، فهذا له مندوحة، أما الجُنب فلا، ثم إنه لو قيل: يحرم على الجنب الأذان ليس ببعيد خاصة وأن المؤذنين يدخلون المسجد، وتكون الحرمة هنا لأجل المسجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع دخول المسجد للجنب، وهذا قول جمهور أهل العلم خلافاً لـابن حزم ، وقد قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ [النساء:43]، ومعنى لا تقربوا الصلاة، يعني: مواضع الصلاة، كما ورد عن السلف رضي الله عنهم.
وعلى هذا فلا ينبغي للمؤذن أن يقيم وهو محدث، والقول بالكراهة ليس ببعيد؛ لأنه وإن لم يثبت بخصوصه شيء لكننا نقول: إن بلالاً ما كان يقيم إلا وهو طاهر، وهذا أمر اعتاد المسلمون عليه، وسيؤدي إلى تأخر المؤذن عن تكبيرة الإحرام وربما عن الركعة الأولى.
قال المؤلف رحمه الله: (في الرعاية: يُسن أن يكون متطهراً من نجاسة بدنه وثوبه)، يعني: لا يلبس ثياباً نجسة، وهذه السنية أخذت بالأصل، والذي يظهر أن هذا على سبيل الأولوية.
قول المؤلف: (مستقبل القبلة) يعني: يستحب للمؤذن إذا أراد أن يؤذن أن يستقبل القبلة، وهذا أمر مُجمع عليه. قال ابن المنذر : وأجمعوا على أن من السنة أن يستقبل القبلة في الأذان.
ومما يدل على استحباب ذلك ما ورد عند أبي داود و البيهقي أن الملك الذي جاء إلى عبد الله بن زيد بن عبد ربه في المنام: ( حين علمه الأذان استقبل به القبلة )، وهذا يدل على أن كل إجماع له مستند من الشرع.
أما وضع الأصبعين في الأذنين فقد جاء فيه حديث عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عون بن أبي جُحيفة عن أبيه: ( أنه رأى
ولهذا يقول ابن رجب : ورواه وكيع عن الثوري عن رجل عن أبي جُحيفة ، وهذا إشعار بتضعيف رواية عبد الرزاق ؛ لأن عبد الرزاق روى عن عون ، ولهذا لم يخرجها البخاري ولا مسلم مع أن البخاري و مسلم أخرجا حديث أبي جُحيفة من حديث عون عن أبيه، فلم يذكروا هذه اللفظة، ورواها البخاري معلقة بصيغة التمريض فقال: ويُذكر عن بلال أنه أذن وأُصبعاه في أذنيه، وهذا يدل على أن البخاري أشار إلى هذا التعليل، وهذا من دقته وعنايته بالبحث في العلل؛ ولهذا جاء عند أحمد رواية: أن السنة أن يضع المؤذن يديه في أذنيه، بأن يجمع أصابعه الأربع من غير الإبهام فيضعها في أذنيه ويؤذن، وهذا جاء في بعض الروايات ولعل ذلك أظهر، والله أعلم، وعلى هذا فالسنة أن يضع يديه، وليس أصبعيه.
وأما قول المؤلف: (لأنه أرفع للصوت) فقد جاء ذلك صريحاً عند ابن ماجه عن أولاد سعد بن القرظ عن جدهم سعد : ( أنه رأى
ولهذا قال المؤلف: (مُلتفتاً في الحيعلة يميناً وشمالاً) وفي رواية وكيع عن سفيان يُحرك رأسه يميناً وشمالاً، هذا هو السنة، يُحرك يميناً وشمالاً.
هل هناك حكمة الظاهرة للالتفات؛ فإذا وجدت الحكمة وجد الالتفات، وإذا انتفت الحكمة في زمن انتفى الالتفات؟ فنقول: إن المقصود من الالتفات أن يُسمع من عن يمينه ومن عن شماله، وعلى هذا فإذا كان هناك ميكرفون فإنه لا يلتفت يميناً ولا شمالاً؛ لأن التفاته يقلل من صوته. لكن هل الحكمة تعبدية؟ الذي يظهر والله أعلم أن الحكمة هي أن يسمع من عن يمينه ومن عن شماله، وعلى هذا فإذا وجد ميكرفون فإنه لا يلتفت، ومما يدل على ذلك ما ذكره الشوكاني أنه جاء في بعض الروايات: ( أن جماعة كانوا في سفر وأراد المؤذن أن يُبين لهم دخول وقت الصلاة فانطلق إلى أعلى الوادي وأذن لهم من غير التفات )، وهذا الذي يظهر والله أعلم.
وإذا لم يكن عندهم ميكرفون وكانوا في البر فإن السنة للمؤذن أن يلتفت؛ لكي يسمع جماعته ولأجل أن يشهد له كل بر وفاجر، فقد ورد في بعض الروايات: ( فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن جن ولا إنس إلا شهد له يوم القيامة ).
وهل يلتفت في (حي على الصلاة) مرة عن يمينه ومرة عن شماله، ثم في (حي على الفلاح) مرة عن يمينه ومرة عن شماله، أم في (حي على الصلاة) يلتفت عن يمينه وفي (حي على الفلاح) يلتفت عن شماله؟
نقول: لم يُذكر في طريقة الأذان فدل ذلك على أن المقصود أن يُسمع من عن يمنيه ومن عن شماله، سواء جعل حي على الصلاة كلها عن يمينه، وحي على الفلاح كلها عن شماله، أو جعل حي على الصلاة يميناً وشمالاً، وحي على الفلاح يميناً وشمالاً، فكل ذلك جائز من غير استحباب شيء والله أعلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم علم بلالاً و أبا محذورة جُمل الأذان ولم يعلمهم كيف يؤدونه، فقد ورد أنه قال لـعبد الله بن زيد : ( اذهب إلى
وهذه المسألة ما دام أنه لم يثبت فيها سنة، نقول: إن رفع جاز وإن ترك جاز أيضاً؛ لعدم ورود أدلة في ذلك، والله أعلم.
وإذا ثبت هذا هل يقوله في الأذان الأول الذي قبل دخول الوقت أم يقوله في الأذان الثاني الذي بعد دخول الوقت؟
ذهب بعض أهل العلم إلى أن السنة أن يقوله في الأذان الأول الذي قبل دخول الوقت، وهذا رجحه الألباني رحمه الله في كتابه تمام المنة ونصره، واستدل على ذلك بحديث ابن عمر أنه قال: ( إذا أذنت بالأول من الصبح فقل: الصلاة خير من النوم ).
وذهب بعض أهل العلم -وهو الذي يظهر- إلى أنها تقال في الأذان الثاني الذي بعد دخول الوقت، وذلك لأمور:
أولاً: أنه جاء في الحديث الصحيح الذي رواه ابن عمر و عائشة : ( إن
ثانياً: أن حديث ابن عمر : ( إذا أذنت بالأول من الصبح )، إنما قاله لـأبي محذورة وقد علم أبا محذورة أن يؤذن أذاناً واحداً، وأما الأذان الذي قبل دخول الوقت فإنما هو لـبلال ، فيكون أذان أبي محذورة إنما هو في الأذان المعتاد الذي يكون بعد دخول الوقت فيكون قوله: ( أذنت بالأول من الصبح ) يقصد بالأول مقارنة بالإقامة؛ لأن الإقامة تسمى أذاناً، وهذا الذي يظهر والله أعلم.
ولهذا قال المؤلف: (ولأنه وقت ينام الناس فيه غالباً، ويُكره في غير أذان الفجر وبين الأذان والإقامة)، ولكنه قال: (ولو أذن قبل الفجر)، والصحيح والراجح أنه لو أذن قبل الفجر فإنه لا يقول: الصلاة خير من النوم.
ولكن الذي يظهر أن الأذان قبل الفجر لا يُكتفى به، وهذه رواية عند الإمام أحمد واختارها ابن سعدي وهذا هو الراجح والله أعلم، وسوف يأتي بيانه إن شاء الله.
وأما في غير أذان الفجر كما لو تعود الناس أن يناموا بعد الظهر فلا يقل المؤذن في العصر: الصلاة خير النوم؛ لأن هذا غير مشروع، والله أعلم.
أسأل الله أن يرزقنا وإياكم التوفيق والتسديد، وأن يجعلنا على هدي محمد صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر