بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ومنها -أي من شروط الصلاة-: ستر العورة.
قال ابن عبد البر : أجمعوا على فساد صلاة من ترك ثوبه وهو قادر على الاستتار به وصلى عرياناً، والستر بفتح السين: التغطية. وبكسرها: ما يستر به. والعورة لغة: النقصان والشيء المستقبح، ومنه كلمة عوراء أي: قبيحة، وفي الشرع: القبل والدبر وكل ما يستحيا منه على ما يأتي تفصيله. فيجب سترها حتى عن نفسه في خلوة، وفي ظلمة، وخارج الصلاة، بما لا يصف بشرته أي: لون بشرة العورة من بياض أو سواد؛ لأن الستر إنما يحصل بذلك، ولا يعتبر ألا يصف حجم العضو؛ لأنه لا يمكن التحرز عنه، ويكفي الستر بغير منسوج كورق وجلد ونبات، ولا يجب ببارية وحصير وحفيرة وطين وماء كدر لعدم؛ لأنه ليس بسترة، ويباح كشفها لتداوٍ وتخل ونحوهما ولزوج وسيد وزوجة وأمة، وعورة رجل ومن بلغ عشراً].
تفصيل القول في حكم ستر العورة في الصلاة
تعريف العورة في اللغة والشرع
قال المؤلف رحمه الله: (والستر بفتح السين: التغطية. وبكسرها: ما يستر به. والعورة لغةً: النقصان والشيء المستقبح، ومنها كلمة عوراء أي: قبيحة، وفي الشرع: القبل والدبر)؛ لقول الله تعالى:
فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا 
[طه:121] ، فهذا يدل على أن السوءة والعورة هي القبل والدبر.
وأما العورة في الشرع: فكل ما حرم الله كشفه أمام من لا يحل النظر إليه، وعلى هذا فعورة الرجل تختلف عن عورة المرأة، وعورة المرأة تختلف عن عورة الصبية، وعورة الحرة تختلف عن عورة الأمة، وغير ذلك مما ذكره الفقهاء.
ستر الإنسان عورته عن نفسه في الصلاة
اللباس الشفاف الذي يصف لون البشرة
قال المؤلف رحمه الله: (بما لا يصف بشرته) أي: لون بشرته من حمرة وسواد وبياض؛ لأن الستر إنما يحصل بذلك كما قال المؤلف، وعلى هذا فإذا كان الثوب شفافاً يظهر منه لون البشرة من حمرة وسواد وبياض فإن ذلك لا يعد ستراً، وأما إذا كان يرى العضو وتقاطيع العضو ولكن لا يميز بين حمرته وبياضه وسواده فإن الصلاة حينئذ تكون صحيحة، وأشار المؤلف إلى اللون مما يدل على أن تقاطيع الجسد لا حرج في حق الرجل وفي حق المرأة، والذي يظهر أن الرجل لا بأس أن يصلي في سراويل أو في بنطال، خلافاً للمالكية فإنهم كرهوا ذلك، وأما المرأة فالذي يظهر والله أعلم أنه يكره لها أن تصلي في بنطال، بحيث يظهر تقاطيع جسدها؛ لأن ذلك لا يعد ستراً؛ لأن العورة في الصلاة أغلظ من العورة خارجها.
اللباس الذي يصف ويحدد العضو
شروط الساتر في ستر العورة في الصلاة
ثم اعلم رحمك ربي! أن ستر العورة له شروط:
الشرط الأول: أن يكون الساتر مباحاً، فلو تستر بمحرم فقد اختلف العلماء، والمحرم إما أن يكون محرماً لذاته، أو محرماً لكسبه، أو محرماً لوصفه، محرماً لذاته: مثل لبس الحرير في حق الرجل من غير حاجة، ومحرماً لوصفه: مثل أن يلبس ثوباً مسبلاً، ومحرماً لكسبه: مثل أن يصلي في سترة مغصوبة، والمشهور من قول الحنابلة : أن المحرم لكسبه تبطل به الصلاة، وأما المحرم لوصفه مثل: الإسبال، فإن الصلاة عندهم صحيحة، لكن ابن تيمية أشار ولم يصرح لكن على قاعدة أن النهي إذا كان عائداً لحق الله فإنه يدل على الفساد، أشار إلى عدم صحة الصلاة، وهو قول بعض مشايخنا المعاصرين وإن كان قد تراجع عنه، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم أن الساتر المحرم لكسبه أو لوصفه أو لذاته تصح الصلاة به مع الإثم؛ لأن هذا النهي خارج ماهية الصلاة، والنهي إذا كان عائداً على ماهية العبادة أو على وصفها الذي لا ينفك عنها فإنه لا يدل على البطلان كما هي قاعدة الشافعية والمالكية والصحيح من مذهب الحنابلة كما أشار إلى ذلك ابن رجب ، وعلى هذا فالمباح واجب ولكنه ليس بشرط.
الشرط الثاني: ألا يصف البشرة؛ لأن ما يصف ليس بستر، ولهذا وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالعارية كما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صنفان من أهل النار لم أرهما بعد، ثم قال: ونساء كاسيات عاريات مائلات مميلات رءوسهن كأسنمة البخت المائلة، لا يرين الجنة، ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا )، فوصف النبي صلى الله عليه وسلم اللبس الذي يصف بالعري.
الشرط الثالث: أن يكون طاهراً، وسوف يأتي تفصيل ذلك؛ لأن المالكية أوجبوا ذلك من غير شرط طهارة البدن.
هذه الشروط في الستر، وبعضهم يضيف: ألا يكون مضراً، ولكن هذا لا علاقة له بالصلاة، لكنه يمنع من الخشوع، فيكون مكروهاً لا واجباً؛ لأن بعض الناس أحياناً لو لبس بعض البجامات الصوف تجده لا يقر له قرار في الصلاة، أو لبس مشلح وبر تجده يتحكحك، هذا يدل على أنه يكره عليه أن يصلي؛ لأن صلاته ربما ذهب خشوعها، والله أعلم.
الستر بالورق أو الجلد غير المنسوج
قال المؤلف رحمه الله: (ويكفي الستر بغير منسوج).
النسج: هو ضم الشيء إلى الشيء، ولا يلزم أن يكون منسوجاً، فلو غطى جسده بورق، أو جلد، أو نبات جاز ذلك.
ستر العورة بالحصير والحفرة
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجب ببارية) البارية: هو الحصير، أو ما يسمى بالعسبان، فورق العسبان هذا ينسج فيكون بارية، والحصير هو من غير لف لكن ضم بعضه إلى بعض، وتركيبه بشيء.
قال المؤلف رحمه الله: (وحفيرة) يعني: يصلي بحفرة من الأرض، ولهذا لا يجب أن يغطى ببارية، ولا حصير، ولا حفيرة.
ستر العورة بالماء الكدر والطين
قال المؤلف رحمه الله: (وطين، وماء كدر) هذا إذا لم يجد السترة خلافاً لـ
ابن عقيل الحنبلي فإنه قال: إذا لم يجد سترة فإنه يأتي بماء وطين ويغطي به مكان عورته وهي من السرة إلى الركبة، وذهب
الآمدي من الشافعية إلى عدم ذلك، يقول
ابن تيمية : وهو الصواب المقطوع به، وقيل: إنه هو المنصوص عن
أحمد ، ولهذا قال: (ولا يجب ببارية وحصير وحفيرة وطين وماء كدر لعدم) يعني: لعدم وجود السترة؛ قال: (لأنه ليس بسترة)، لو قال: لأنه ليس بسترة، بالكسر لأنه أشار إلى أن بالكسر يكون ما يستر به، وبالفتح التغطية، والواجب في الصلاة؟ ما يستر به بالكسر؛ لأن ما يستر به يحصل به التغطية والستر، وأما التغطية ربما يكون عن الأنظار لكن ما يلزم الستر، ولهذا الحفرة تغطية وليست ستراً.
الحالات التي يباح فيها كشف العورة
قال المؤلف رحمه الله: (ويباح كشفها لتداو وتخل ونحوهما).
وقد أشرنا إلى أن كشف العورة يجوز لحاجة كالتداوي، وقضاء الحاجة، وليعلم أن كشفه لعورته المقصود به إذا كان من غير تغطية، يعني من غير سَتر أو سِتر، وأما إذا كان بسِتر فهذا كاف بالإجماع، وأما إذا كان بسَتر مثل أن يكون مع أهله وقد كشف عورته وغطى بلحاف فهذا يحصل به التغطية، فأما في الصلاة فلا بد فيه من السِتر بالكسر، وأما خارج الصلاة فيكفي فيه السَتر، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولزوج وسيد وزوجة وأمة) يعني: يباح لكل من جاز له الكشف والنظر إلى عورته؛ لقول الله تعالى:
وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ
[المؤمنون:5-6].
مدى صحة القول بأن المرأة كلها عورة في الصلاة إلا وجهها وكفيها
قال المؤلف رحمه الله: (وعورة رجل ومن بلغ عشراً).
هنا المؤلف يريد أن يدلف إلى عورة الرجل والأمة والمرأة والحرة في الصلاة، ويخطئ كثير من الناس حينما يقولون: إن المرأة كلها عورة إلا وجهها وكفيها في الصلاة، وهذا هو مذهب الحنابلة في الصلاة دون غيرها، وينقلون ذلك عن المالكية والشافعية والحنابلة، فعورة المرأة في الصلاة غير عورتها خارجها، وكذلك الرجل، فهنا المؤلف يتكلم عن عورة الرجل في الصلاة.
ولعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
ستر العورة في الصلاة بين الوجوب والشرطية
السؤال: هل ستر العورة في الصلاة شرط أم واجب؟
الجواب: الآية واضحة؛ لأن الله يقول:
خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ
[الأعراف:31] ، وجاءت بإجماع أهل العلم على منع من صلى أو طاف عرياناً، وإذا كان النهي في ذلك فقال بعضهم: في الاستدلال أوجه، منها: ما ذكره شيخنا محمد يقول: إن الأمر بالشيء في العبادة يدل على الوجوب، وهذا قوي، ولكن فيه إشكال.
الثاني: قال بعض العلماء: انعقد الإجماع على الأمر بالستر، والأمر بالشيء نهي عن ضده، والنهي يقتضي الفساد، هذا قول صاحب الكشاف.
الثالث: طريقة الشرطية، قالوا: من المعلوم أن ستر العورة إما أن يكون واجباً في الصلاة، أو واجباً للصلاة، ومن المعلوم أن ستر العورة إنما هو واجب للصلاة فلو لبس سروالاً قصيراً إلى نصف الفخذ وحده من غير الصلاة فله ذلك؛ العورة قلنا: القبل والدبر، لكن في الصلاة، ليس له ذلك.
إذاً الستر للصلاة وليس في الصلاة، فإذا كان للصلاة دل على أن هذا المأمور خارج الصلاة، وكل مأمور به خارج الصلاة فهو من الشرط، ونحن فرقنا بين الواجب والشرط، وقلنا: هذا داخل الصلاة، وهذا خارج الصلاة، فالذي يظهر والله أعلم أن ستر العورة شرط، لكن أخذنا بقاعدة الشوكاني أو قاعدة بعض المالكية : أنه لا بد من الدليل على النهي في العبادة كالوقت مثلاً هل هناك دلالة على عدم صحة الصلاة خارج الوقت؟
ابن تيمية يقول: ما تصح الصلاة، والجمهور يقولون: تصح الصلاة بعد الوقت، لكن الأرجح أن الصلاة صحيحة، والإجماع قائم على أن الصلاة قبل الوقت لا تصح، لكن ليس هناك دليل صريح.
إذاً: الذي يظهر والله أعلم أن كل مأمور به للصلاة فإنه يكون من الشرطية، والله أعلم.
الصلاة في السروال الطويل الذي يلبس داخل المنزل
السؤال: الصلاة في الثياب الداخلية مثل السروال الطويل وتحته سروال قصير، هذا السروال الطويل لا يشف البشرة، هل له أن يصلي به؟
الجواب: روى الحاكم من طريق أيوب السختياني ، عن نافع ، قال: (كساني عبد الله بن عمر ثوبين، فرآني أصلي في ثوب واحد، قال: أولم أكسك ثوبين؟ قلت: نعم. قال: أرأيت لو بعثتك في حاجة إلى الناس أكنت خارجاً إليهم هكذا؟ قلت: لا. قال: فالله أحق أن يتجمل له أو يتزين له).
وذكر هذه الرواية ابن تيمية عن ابن عمر أنه رأى نافعاً حاسر الرأس. وهذا لم أجده مرفوعاً ولا موقوفاً، والمعروف ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حاسر الرأس ) ورد ذلك عن علي كما رواه ابن عساكر في تاريخه، فهذا يدل على أن الأولى بالإنسان إذا كان في البيت ألا يصلي بالسروال الطويل؛ لأن هذا مما لا يعتاد أن يخرج به، لكن له أن يلبس بنطالاً وبدلة؛ لأنه يخرج بها.
الأقوال الواردة في حكم ستر العورة في الصلاة
السؤال: ما هي أقوال أهل العلم في حكم ستر العورة؟
الجواب: ثلاثة أقوال:
قول عامة أهل العلم بالشرطية.
والقول الثاني: الوجوب، وهو قول بعض المالكية واختيار الشوكاني كما في السيل الجرار.
والثالث: السنية، وهذا القول قال به بعض المالكية، ولكن لم ير أبو عمر بن عبد البر هذا القول معتبراً به؛ ولهذا حكى الإجماع في بطلان صلاة من كشف عورته عامداً، الله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.