الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ربي ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتستحب صلاتها أي: صلاة المرأة في درع، وهو القميص وخمار؛ وهو ما تضعه على رأسها وتديره تحت حلقها، وملحفة أي: ثوب تلتحف به، وتكره صلاتها في نقاب وبرقع، ويجزئ المرأة ستر عورتها في فرض ونفل، ومن انكشف بعض عورته في الصلاة رجلاً كان أو امرأة وفحش عرفاً وطال الزمن أعاد، وإن قصر الزمن أو لم يفحش المكشوف ولو طال الزمن لم يعد إن لم يتعمده].
المؤلف هنا أراد أن يذكر العورة ومن انكشف بعض عورته، فبعض عورة الرجل هي ما بين السرة إلى الركبة، وعورة المرأة كلها إلا وجهها. فلو انكشف على الرواية الأخرى غير وجهها ويديها فإنها تكون عورة، ولو انكشفت رجلاها فإنها تكون عورة، لهذا حينما ذكر عورة الرجل وعورة المرأة بين أنه يستحب للمرأة أن تزيد على ما تغطي به العورة، فقال: (وتستحب صلاتها أي: صلاة المرأة في درع) الدرع: هو القميص الذي يغطي الصدر مع الخلف واليدين أي: الذراعين، سواء طال أم لم يطل، والمشهور أنه يطول، مثل الثياب التي نلبسها، فيستحب للمرأة أن تلبس درعاً وهو القميص، وقوله: (وخمار) هو الذي تغطي به الرأس، وتديره على حلقها، مثل ما يفعله العامة الآن، فتأخذ خماراً وتغطي به رأسها مع حلقها، سواء كان هذا الغطاء طويلاً أم قصيراً مثل ألبسة إخواننا وأخواتنا في إندونيسيا، فالعبرة من الخمار هو تغطية الرأس مع الحلق.
قال المؤلف رحمه الله: (وملحفة) الملحفة هنا أي: ثوب تلتحف به، وهي التي يسمونها العامة: الغلالة أو الملاءة، فهذه هي الملحفة، والواجب هو الخمار والقميص إذا كان طويلاً ومغطياً يديها على مذهب الحنابلة، والأولى بالمؤلف حينما أشار إلى القميص على المذهب أن يقول: قميص قد غطيت يداه؛ لأنه يرى تغطية الكفين، أو يقول: وملحفة تغطي سائر العورة ما عدا الوجه، أو يقول: وملحفة تغطي سائر البدن ما عدا الوجه.
أما تغطية بدن المرأة بالخمار والقميص والملحفة فهذا أمر مجمع عليه بأن المرأة يجب أن تصلي وقد غطت رأسها وسائر بدنها.
أما كشف الرجلين، فذهب الحنابلة والشافعية والمالكية وهو مذهب الجمهور إلى وجوب تغطية القدمين، وذهب أبو حنيفة ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية : أن ستر القدمين مستحب وليس بواجب؛ لأن عامة قمص النساء ذلك الوقت لا تغطي اليدين، ولا تغطي الرجلين، وأما حديث ( إذا كان الثوب سابغاً يغطي ظهور قدميها ) فهذا الصواب وقفه على أم سلمة ، ولا يدل على وجوب التغطية؛ لأن ظهور القدم غير الباطن.
أما أمام المحارم فيكره التغطية، وأما أمام الأجانب فهو واجب على الخلاف، لكنه ليس بمكروه.
أعطانا المؤلف في هذا الكلام أربعة أحوال:
الحال الأولى: وهي آخر مسألة وهي: التعمد، إن أخرج شيئاً من العورة متعمداً قل الخروج أم لم يقل فإنها تبطل صلاته؛ لأنه تعمد خروج شيء من عورته، وهذا قول عامة أهل العلم ممن يقول بشرطية ستر العورة؛ فإن أخرج عورته متعمداً بطلت صلاته، ولا خلاف في هذه المسألة، وحكى الإجماع على أن صلاته باطلة أبو عمر بن عبد البر فمن كشف شيئاً من عورته متعمداً، ومن صلى عرياناً متعمداً من غير حاجة بطلت صلاته، حكى بعضهم الإجماع، سواء قلنا بوجوب ذلك أم بشرطيته، فكأن أبا عمر بن عبد البر ينفي دعوى القول بالاستحباب وقلنا: بعض أهل العلم قال بذلك ولكنه محجوج بالإجماع، وعلى هذا فمن صلى وقد أخرج شيئاً من عورته، أو أخرجت شيئاً من عورتها التي في الصلاة، فإن الصلاة تبطل، حكى الإجماع أبو عمر بن عبد البر و الترمذي فقالا: والعمل على هذا عند أهل العلم فمن صلت وقد أدركت وكان شعرها مكشوفاً أعادت الصلاة.
وهذا يدل على أن عورة عمرو بن أبي سلمة كانت تخرج ولكنه من غير تعمد؛ لأنه يسير، ومثل هذا ما يفعله بعض إخواننا الذين يلبسون البنطال، فإذا ركع خرج شيء من عورته السفلى من الخلف، فهذا لم يفحش ولم يطل؛ لأنه لا يظهر في الغالب إلا إذا ركع.
قول المؤلف رحمه الله: (أو صلى في ثوب محرم عليه).
المحرم إما أن يكون محرماً لكسبه، أو محرماً لذاته، أو محرماً لوصفه، أما المحرم لكسبه فهو مثل الثوب المغصوب، فهو محرم لكسبه، فهنا أشار المؤلف إلى أن من صلى في ثوب مغصوب لم تصح صلاته.
ومثله من صلى في ثوب محرم لذاته مثل ثوب الحرير في حق الرجل، فهو محرم لذاته، والمحرم لوصفه مثل أن يكون فيه نجاسة، أو يكون مسبلاً، والمسبل أكثر مثال هنا؛ لأنهم يرون النجاسة شرطاً، لكن نحن نقول: محرم لوصفه مثل: أن يكون قد لبس ثوباً مسبلاً، أو يكون لبس ثوباً وعليه شيء من الذهب في حق الرجل، فهو محرم لوصفه.
ذهب الحنابلة إلى أن من صلى في ثوب محرم تبطل صلاته، وذلك لأمور:
أولاً: لأنهم أجمعوا على أن صلاته في سترة محرمة منهي عنها، والنهي في الأصل يقتضي الفساد.
ثانياً: أن ابن عمر رضي الله عنه قال: ( من اشترى ثوباً بعشرة دراهم وفيه درهم حرام لم يقبل الله صلاته ما دام عليه، ثم أدخل إصبعيه في أذنيه وقال: صمتاً إن لم أكن سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم )، وهذا الحديث حجة في هذا الباب بيد أنه ضعيف؛ فإن في سنده بقية بن الوليد وقد دلس، وأحاديث بقية ليست نقية، فكن منها على تقية، كما يقول مسعر بن كدام .
وذهب عامة أهل العلم إلى صحة الصلاة؛ قالوا: لأن النهي هنا ليس عائداً على ماهية الصلاة، وليس على وصف لا تنفك العبادة عنه، وهو رواية عند الإمام أحمد اختارها الخلال و ابن عقيل .
يقول ابن تيمية رحمه الله: الحنابلة لم يذكروا المسبل، يقول ابن تيمية في الاختيارات: وينبغي أن يكون على هذا الخلاف -يعني في الثوب المغصوب الذي يجر ثوبه خيلاء في الصلاة؛ لأن المذهب يرى أنه حرام. وهذا الذي ذكره أبو العباس بن تيمية هو لازم المذهب، واستدلوا على ذلك بما رواه أبو داود وغيره من حديث أبي جعفر المؤذن عن عطاء بن يسار : أن رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يصلي وهو مسبل إزاره، فلما سلم قال: اذهب فأعد وأحسن وضوءك. قال: ثم صلى ورفع ثوبه فلم يقل شيئاً، فقال الصحابة: يا رسول الله! رأيناك أمرته بإعادة الوضوء ثم سكت؟ قال: إنه صلى وهو مسبل إزاره، وإن الله لا يقبل صلاة مسبل إزاره ) هذا الحديث ليس بصحيح؛ إذ أن الراوي عن عطاء وهو أبو جعفر المؤذن رجل ضعيف، ثم إنه مخالف للمتن، فكيف يأمره بإعادة الوضوء وهو مسبل إزاره؟ وما شأن الوضوء بصلاة الإسبال؟ فهذا دليل على أن الحديث منكر، وهو قول عامة أهل العلم.
وقد جاءت بعض الآثار عن السلف في المسبل إزاره في الصلاة كما روى الطبراني ورجاله ثقات، عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: ( المسبل إزاره في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام )، وعلى قاعدة ابن تيمية رحمه الله: أن النهي إذا كان عائداً لحق الله فإن الصلاة تفسد؛ ولكن الراجح صحة الصلاة مع الإثم.
قال المؤلف رحمه الله: (إن كان رجلاً واجداً غيره، وصلى فيه عالماً ذاكراً أعاد).
يعني: أنه يحرم عليه أن يصلي في الثوب المغصوب إذا كان واجداً غيره. (وصلى فيه عالماً ذاكراً)، يعني: عالماً بالتحريم، ذاكراً أن هذا الثوب مغصوب، أعاد الصلاة.
قال المؤلف رحمه الله: (أعاد الصلاة) الأولى أن يقول: مع الإثم؛ لأنه قال: إن لم يجد إلا ثوباً مغصوباً صلى فيه وأعاد، فقال رحمه الله: (ويصلي عرياناً مع ثوب مغصوب لم يجد غيره، وفي حرير ونحوه لعدم غيره)، فالحرير محرم ومع ذلك لم يأمره بالإعادة.
إذاً نقول: إن كان واجداً غير المحرم حرم عليه أن يصلي فيه وهو عالم ذاكر، وإن لم يجد إلا المحرم نظرت: فإن كان محرماً لحق المخلوق وهو محرم لكسبه كالثوب المغصوب، قالوا: فإنه يصلي عرياناً، ولا يصلي فيه، وإن كان محرماً لذاته يعني: لحق الله أو لوصفه، فإنه يصلي فيه، ويعيد الصلاة إن وجد؛ لأن الحرير يباح له أحياناً كمن به حكة، فصلاته فيه أولى من الصلاة عرياناً، إلا أننا نأمره أن يعيد الصلاة إذا وجد لاختلال شرط فيه، فأمرناه بالإعادة استدراكاً للخلل الذي حصل في شرط من شروط الصلاة.
والراجح: أنه يصلي في الثوب المغصوب ولا يصلي عرياناً؛ لأن لبسه في الصلاة لا ينقصه، والقاعدة: أنه لا بأس باستعمال مال الغير إذا اضطر إليه الإنسان، وهذا وإن كان غاصباً له لكنه في هذه الحال اضطر إليه، ثم إن صلاته في الثوب المغصوب على الراجح أولى من الصلاة عرياناً، والله تبارك وتعالى أعلم.
قول المؤلف: (وكذا إذا صلى في مكان غصب)، يعني: لو صلى في أرض مغصوبة فلا تصح الصلاة على المذهب، والراجح كما قلنا: صحة الصلاة مع الإثم إن كان عالماً.
قال المؤلف رحمه الله: (أو صلى في ثوب نجس أعاد ولو لعدم غيره).
فالمذهب: أن من صلى في ثوب نجس يعني: متنجس، وجب عليه أن يعيد الصلاة؛ لأن طهارة الثوب من الشرطية.
قال المؤلف رحمه الله: (ولو لعدم غيره) يعني: أنه مأمور أن يعيد الصلاة أبداً، سواء كان واجداً غيره أم لم يجد غيره، فإن كان واجداً غيره أثم بالصلاة وأعاد، ولا تصح الصلاة الأولى، أما إن كان عادماً فإنه يجب عليه أن يصلي في الثوب النجس، ويجب عليه أن يعيد إذا وجد استدراكاً للخلل الذي حصل بترك هذا الشرط.
والراجح: أنه إن صلى في ثوب نجس متعمداً نظرت: فإن كان واجداً غيره لم تصح صلاته، وإن كان غير واجد صحت صلاته من غير إعادة؛ لأن الله لم يأمرنا أن نصلي الصلاة مرتين.
وأما مسألة حكم الصلاة في الثوب النجس فهذه إن شاء الله نتكلم عليها لاحقاً.
نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر