الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويكره فيها شد وسطه كزنار، أي: بما يشبه شد الزنار؛ لما فيه من التشبه بأهل الكتاب، وفي الحديث ( من تشبه بقوم فهو منهم )، رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح. ويكره للمرأة شد وسطها في الصلاة مطلقاً، ولا يكره للرجل بما لا يشبه الزنار.
وتحرم الخيلاء في ثوب وغيره في الصلاة وخارجها في غير الحرب؛ لقوله عليه السلام: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه ) متفق عليه. ويجوز الإسبال من غير الخيلاء للحاجة.
ويحرم التصوير -أي: على صورة حيوان- لحديث الترمذي وصححه: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصورة في البيت وأن تصنع )، وإن أزيل من الصورة ما لا تبقى معه حياة لم يكره، ويحرم استعماله -أي المصور- على الذكر والأنثى في لبس وتعليق وستر جدر، لا افتراشه وجعله مخدة، ويحرم على الذكر].
وهذه الحالات لا بد أن نعرفها، فكثير من الناس إذا قرأ كتب السير، وكتب حياة الصفوة: ككتاب صفة الصفوة، أو حلية الأولياء، تمر عليه مواقف أغرب من الخيال، فيتصور أن الإخلاص لا يتأتى إلا بهذه الحالات التي نقلت عن السلف، وكذلك الخوف والرجاء، وليس كذلك، فإنما نحن متعبدون بقول الله وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال الله: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فهو الأسوة وهو القدوة بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام، ولهذا تجد أن كل واحد يستطيع أن يقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم، سواء من تعود على الشدة أو على غيرها، بخلاف بعض السلف فإنك ربما لا تستطيع أن تقتدي به ثلاثة أيام، مع ثناء الناس عليه، وكثرة ذكر العلماء في زمانه له، وهذا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد : ( إن لله قلوباً في سبيله ألين من اللبن، وإن إبراهيم و
فهذا يدل على أن الإنسان له حالات معينة، ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم جمع الله له هاتين الصفتين بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
والمقصود من هذا: أن مشابهة النصارى في أعيادهم أو عباداتهم مكروه.
قال المؤلف رحمه الله: (ويكره) والأولى أن يقال بالتحريم؛ لأن المشابهة في العبادة لغير أهل الإسلام أعظم من المشابهة في الاختصاص؛ لأننا منهيون أن نتشبه بأهل الكتاب فيما اختصوا فيه لأجل التمييز والتميز، فأما مشابهتهم في عباداتهم فهذا أشد لأمرين: لأن هذا مما اختصوا فيه ولأن هذا في عبادة مخالفة لعبادة الشرع، فصار النهي من وجهين، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد و أبو داود و الطحاوي في مشكل الآثار من حديث ابن عمر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل الشاهد فيه: ( ومن تشبه بقوم فهو منهم )، وهذا الحديث تكلم فيه بعض أهل العلم، وصححه العراقي و أبو العباس بن تيمية ، وقال: سنده جيد، والعلم عند الله.
وقال ابن تيمية : أقل أحوال هذا الحديث يفيد التحريم، وإن كان ظاهره يفيد الكفر، وعلى هذا فالذي يظهر أن شد الوسط كهيئة الزنار محرم.
أولاً: لأن المشاركة والموافقة في الهدي الظاهر تورث توافقاً وتشاكلاً في الأخلاق والأعمال، يقول ابن تيمية رحمه الله: وهذا أمر محسوس؛ لأن اللابس ثياب أهل العلم يجد من نفسه نوع انضمام إليهم، واللابس للباس أهل التصوف يجد انجذاباً إليهم وهكذا.
ثانياً: لأن المخالفة في الهدي الظاهر توجب تنافراً وعدم انسجام مع المخالف، ولهذا تجد أنك لو تخالف صاحبك في ملبسه وفي طريقته لعد ذلك عدم رضاً به، وعدم محبة له، وهذا ما قصد إليه الشارع من مخالفة أهل الكتاب، وقد فطن أهل الكتاب لهذا الأمر، كما ثبت ذلك في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك أنه قال: ( إن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يجامعوهن في البيوت، فجاء
قال المؤلف رحمه الله: (رواه أحمد وغيره بإسناد صحيح) على هذا فالصحيح أن مشابهة النصارى في ذلك محرمة.
الحنابلة يرون أن شد وسط المرأة بحيث تظهر عجيزتها مكروه في الصلاة مطلقاً؛ لأن المرأة مأمورة بأن تلبس ثياباً فضفاضة، ولهذا كره المالكية أن تلبس المرأة البنطال أو السروال؛ لأن ذلك يظهر تقاطيع جسدها، فلا بد أن تلبس شيئاً واسعاً.
وكذلك كره الحنابلة أن تلبس المرأة ثوباً يظهر فيه تقاطيع جسدها، ولهذا قال: (ويكره للمرأة شد وسطها في الصلاة مطلقاً)، وأما خارج الصلاة فلا بأس، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا بأس به؛ لأن شد وسط المرأة لا يلزم منه إظهار العجيزة كما يقولون، ثم إنه عهد عند الصحابيات، وصح أن هاجر أم إسماعيل اتخذت منطقاً، وكانت أسماء بنت أبي بكر تسمى ذات النطاقين ، وكان هذا معروفاً متداولاً بين النساء، فإذا كان ذلك خارج الصلاة مع مرورهن على الرجال دل ذلك على أنه في الصلاة لا بأس به، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يكره للرجل بما لا يشبه الزنار) كما مر معنا.
الخيلاء: هو الفخر والكبر والإعجاب، وهو محرم سواء كان في ثوب، أو عمامة، أو سراويل، أو قميص، أو كان الخيلاء في المشية والتبختر، كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( كان فيمن كان قبلكم رجل يتبختر في مشيته، إذ رأى أو نظر في عطفيه فأعجب بنفسه فخسف الله به.. ) الحديث.
كذلك حينما ( رأى النبي صلى الله عليه وسلم
وأما الخيلاء التي يحبها الله فالخيلاء في الصدقة، والخيلاء في القتال.
الواقع عند الحنابلة أن الحرمة تفيد أن الخيلاء كبيرة، وقد نص على ذلك صاحب كشاف القناع بقوله: ويحرم وهو كبيرة إسبال ثوبه.
والقاعدة عند جمهور السلف ومنهم الحنابلة على أن ما ختم بلعنة أو غضب أو نار أو نفي إيمان أو نفي طريقة أنه من الكبائر، ولهذا يحرم في الصلاة وخارج الصلاة.
واستثنوا الحرب لما جاء عند أبي داود في قصة أبي دجانة.
واستدلوا على التحريم وكونه كبيرة بما في الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة ) وكذلك بحديث ( ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم وذكر منهم المسبل إزاره ) فقد رواه مسلم عن أبي ذر ، ومعنى ( المسبل إزاره ) ورد في رواية: (خيلاء)، وكذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
والقول الثاني في المسألة: هو التحريم إذا كان من غير خيلاء، وهو قول المالكية ، وقواه ابن العربي في عارضة الأحوذي، وهو رواية عن الإمام أحمد ، واختارها جمع من أصحابه كـأبي العباس بن تيمية ، وأشار ابن مفلح في الآداب الشرعية: أن نص أحمد في رواية المروزي أو في رواية إسحاق أن ذلك يكره، قال: وظاهره التحريم لأن أحمد كثيراً ما يطلق الكراهة على التحريم؛ ولأجل أنه ذهب إلى رجل من أهل الحديث يريد أن يكتب عنه، فرأى سراويله إلى شراك نعليه فترك الحديث عنه، فقيل له في ذلك، قال: رأيت سراويله إلى شراك نعليه، فهذا يدل على أن أحمد يرى التحريم.
والذي يظهر والله أعلم دون النظر إلى كلام الناس أننا نجد أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في الإسبال مشتملةً على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الإشارة إلى إسبال الثوب خيلاء، كما في حديث ابن عمر : ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة )، وهذا واضح ولا إشكال فيه، حتى أن الشافعية أشاروا إلى ذلك، وفي حديث أبي ذر كذلك: ( ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم، وذكر المسبل إزاره ).
القسم الثاني: الإشارة إلى أن ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار، وهذا الحديث رواه البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، وهذا يشير إلى أن مجرد الإسبال محرم ولو لم يكن خيلاء.
وفي حديث عبد الله بن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى
القسم الثالث: الإشارة إلى أن أصل الإسبال مخيلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إياك والإسبال فإنه من المخيلة )، فهذا يفيد على أن الإسبال عن قصد لا ينفك عن المخيلة.
هذه ثلاث طرق، والجمع بينها وقع فيه خلاف بين أهل العلم، فذهب الشافعية والحنابلة إلى أنه إن كان بخيلاء محرم، وإن لم يكن بخيلاء مكروه، وحملوا كل حديث في النهي على الكراهة، وما جاء فيه أنه في النار أو غير ذلك من الوعيد حملوه على الخيلاء، كما في حديث أبي هريرة : ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، وحملهم على ذلك ما جاء في الحديث المتفق عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة. فقال
والجواب على هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم جوز حالة أبي بكر من غير نهي، فدل على أن من جر ثوبه من غير خيلاء جائز بلا كراهة، وأنتم تقولون بالكراهة، فحالة أبي بكر فعلها من غير كراهة ولا نهي، فقولكم بهذا الحديث على أن إسبال الثوب خيلاء محرم، وإذا كان من غير خيلاء مكروه، مع أن أبا بكر قد جوز له النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل، قول ليس بجيد. هذا أولاً.
ثانياً: إن أبا بكر رضي الله عنه كان إزاره يسترخي وليس هو الذي يرخيه وفرق بين الأمرين، ففرق بين أن يكون إزارك أو بنطالك يسترخي فترفعه، وبين أن يكون الإرخاء منك ولهذا قال: ولكني أتعاهده، مثل أن تكون في الحج فإن إزارك مع الاستمرار والعمل يسترخي فتتعاهده.
ثالثاً: أن ثمة أحاديث أشارت إلى الحرمة من غير خيلاء، وأحاديث أشارت إلى أن الله لا ينظر إلى المسبل خيلاء، فدل على أن الحكم مختلف.
وأما قولكم: أن ما لم يشر إلى الخيلاء مطلق تقيده أحاديث الخيلاء كحديث: ( من جر ثوبه خيلاء )، قلنا: إن كلام أهل العلم في حمل المطلق على المقيد يكون في حال لم يختلفا في الحكم أو في السبب، فإن اختلفا في الحكم أو في السبب لم يصح حمل المطلق على المقيد، وهنا اختلف الحكم، فمن أسبل ولم يجر ثوبه خيلاء حكمه النار، ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، متفق عليه.
وأما من جر ثوبه خيلاء فحكمه ( لا ينظر الله إليه، ولا يزكيه، وله عذاب أليم )، إذاً الحكم مختلف، فلا يصح حمل المطلق على المقيد عند علماء الأصول.
رابعاً: أن طريقة الصحابة رضي الله عنهم هي المنع مطلقاً، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه ( أنه رأى رجلاً يصلي وهو مسبل، فقال: المسبل إزاره في الصلاة ليس من الله في حل ولا حرام )، والحديث أخرجه النسائي وغيره، وقد روي مرفوعاً وموقوفاً، ولكن الأصح رواية الموقوف، والله أعلم.
وابن تيمية رحمه الله في الاختيارات قال عندما ذكر كلام الحنابلة: ويظهر من ذلك على قاعدة المذهب: أن من صلى وثوبه مسبل لا تصح صلاته؛ لأن النهي عائد على الصفة أو على الذات أو على الكسب؟
على الصفة، ومثال النهي العائد على الذات الحرير والنجس، ومثال النهي العائد على الكسب المغصوب.
وعلى هذا فيقول ابن تيمية رحمه الله على قاعدة الحنابلة : أنهم لم يفرقوا بين هذه الأشياء الثلاثة، فيكون النهي هنا تبطل به الصلاة لكونه عائداً على الصفة، ولكن الحنابلة لا يبطلونها، والله أعلم.
ويجوز الإسبال من غير الخيلاء للحاجة كما مر معنا.
وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أن الإسبال محرم إذا كان من غير خيلاء، وكبيرة إذا كان بخيلاء، وقد أطلت في هذه المسألة؛ لأنها انتشرت، وبدأ البعض يحتج بأقوال الرجال إذا كانت موافقةً لواقعهم، وأحياناً يحتجون بعمومات النص، ولا عبرة بالمخالف.
وقد ذكر عن الشافعي أنه قال: وقد أجمع المسلمون على أن من استبانت له سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يجوز أن يدعها لقول أحد من الناس.
والذي يظهر والله أعلم أن الإسبال محرم، فإن كان بخيلاء فهو أشد، ومما يدل على ذلك أن أصل الخيلاء محرم بإسبال أو غير إسبال، فلو أن شخصاً ما لبس ثياباً أصلاً وفيه خيلاء فهو واقع في المحرم، فوجود الإسبال في الثوب حكم زائد على مجرد الخيلاء، فالخيلاء والتبختر والفخر والكبر محرم ولو كان الإنسان عارياً كما هو معلوم، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر