الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيرا.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد تكلمنا سابقاً عن أقسام التصوير، وذكرنا أدلة كل قسم، وكان حظنا من القراءة قليلاً بسبب التفصيل الذي ذكرناه؛ لأهمية الباب، ويُظن أن باب التصوير اعتراه ما اعترى التطوير أو التنوير كما يقولون في بعض المسلمات، مع أن الواقع هو أن التصوير لم يعن عناية تامة في السابق بحثاً وتفصيلاً ليس إلا، وإلا فإن الأحكام الشرعية لا يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان إلا إذا كانت متعلقة بثلاثة أمور: إن كانت متعلقة بالعُرف فإنها تتغير بتغير الزمان والمكان، أو كانت متعلقة بالمصلحة، فالمصلحة تختلف من بلد إلى بلد، ومن زمان إلى زمان أو كانت متعلقة بسد الذرائع، وسد الذرائع تختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان وهذه ثلاثة أشياء يتغير الحكم إذا كان بسببها بتغير الزمان والمكان، والأشخاص والأحوال، أما الأحكام الشرعية التي ثبتت بالكتاب والسنة، أو ثبتت بالقياس الصحيح أو بالإجماع فإنها لا يمكن أن تتغير بتغير الزمان والمكان.
القول الأول: مذهب أبي حنيفة رحمه الله وهو رواية عن الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله، فقالوا: إذا كان الذهب تابعاً وليس بالمنفرد كالأزرار والعلم، ومعناه العلامة والخيط الذي يوضع أحياناً على الطوق، أو يوضع على آخر القميص، أو آخر الأكمام، أو آخر الثوب، أو على الجيوب ونحو ذلك، وكان يسيراً جاز.
وإن كان كثيراً أو غير تابع حرُم. واستدلوا بما رواه الإمام أحمد و أبو داود و النسائي من حديث ميمون القناد عن أبي قلابة عن معاوية رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن لُبس الذهب إلا مقطعاً)، والحديث جاء من غير هذا الطريق، وإلا فإن هذا الطريق ضعيف، فإن ميمون القناد غير معروف كما قال الإمام أحمد ، ثم إنه لم يسمع من أبي قلابة كما قال البخاري ، ولم يسمع أبو قلابة من معاوية كما قال أبو حاتم ، وروي من حديث الحسن عن معاوية ، و الحسن معروف تدليسه بالمرسل الخفي، فـالحسن البصري اُشتهر بالإرسال الخفي، حيث أنه قد عاصر من دلس عنه لكنه لم يسمع منه، وكذلك روي من طريق أبي الشيخ عن معاوية ، والحديث لو صح بمجموع طرقه وإن كان إلى الضعف أقرب فإن العلماء اختلفوا في معنى: (إلا مقطعاً)، فذهب أبو عُبيد و الخطابي و ابن الأثير وأكثر أهل الغريب إلى أن معنى (مقطعاً)، الشيء اليسير كالزر والعلم في الثوب، وقالوا: إن المخاطب به هي المرأة وليس الرجل، فيكون الحديث ليس فيه دلالة على مسألتنا.
ورأى ابن تيمية أن (مقطعاً) يعني: من غير انفراد بل تابعاً ويسيراً، ففسره على رأيه رحمه الله، وإن كان أكثر أهل الحديث وأهل الغريب يرون أن هذا مخاطب به المرأة وأن المرأة لا ينبغي لها أن تتوسع في الذهب؛ لما يدخل في قلبها من الخُيلاء والفخر والكبر، وقالوا: إن هذا الحديث إن صح فهو منسوخ بجواز لُبس الذهب في حق المرأة ولو توسعت في ذلك؛ لقول الله تعالى: أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ [الزخرف:18].
واستدلوا، بما رواه البخاري وهو أقوى حيث قال: (باب المزرر بالذهب) ثم ذكر حديث المسور بن مخرمة : (أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم أقبية ولم يُعط
أما قول: إنه كان قبل التحريم فليس فيه ما يفيد ذلك بل إن المسور بن مخرمة كان صغيراً، ثم إن دعوى النسخ من غير دليل مشكل، خاصة أنه ليس في معنى الخاتم فالخاتم أكثر في الغالب؛ لأن الخاتم قد يكون مائتي جرام أو ثلاثمائة جرام، أما الزر فلا يُقدر إلا بالشيء اليسير، فإذا كان مثل الخاتم بالجرامات أو أكثر فإنه حرام؛ لأنه كثير، فإذا حُرم الخاتم فمثله من باب أولى، لكنه إذا كان يسيراً مثل بعض الكبكات أو بعض الساعات الفاخرة كرولكس التي تكون مموجة أو مخلوطة بالذهب، فتجد أن الساعة بقيمة خمس وعشرين ألفاً، أو ثلاثين ألفاً أو مائة ألف حتى إن البائع يقول لك: فيها كذا غرام من الذهب، فإن كان أكثر من أربعة أصابع، يعني: أكثر من خاتمين أو ثلاثة، فهي حرام في حق الرجل وليس فيه خلاف، إنما الخلاف إذا كان يسيراً، أما إذا كانت غراماتها تصل إلى مائة أو أكثر فإنها محرمة.
أما القول الثاني: وهو مذهب عامة أهل العلم وهم الجمهور فإنهم قالوا بتحريم لبس ما فيه ذهب مطلقاً وأن الأحاديث الدالة على حرمة لبس الذهب عامة لم تفصل بين يسير وغيره إلا لضرورة، والضرورة مثل السن، وقبيعة السيف ونحو ذلك، أو ميل المكحلة فهذا لا بأس، ومثل رأس القلم حتى لا يصدأ وهو يسير جداً، فهذه جوزها العلماء، وإن كان تجويزهم بناء على أحاديث فيها كلام، كحديث: (كانت قبيعة سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذهب)، والواقع أنها قبيعة سيف عمر وكانت من فضة لا من ذهب، والآثار في هذا مشهورة، لكن إذا كان لضرورة وحاجة فلا حرج؛ لقصة عرفجة : (الذي انقطع أنفه يوم الكلاب، فاتخذ مكانه أنفاً من فضة فأنتن، ثم أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ أنفاً من ذهب)، وهذا الحديث رواه أبو داود و البيهقي وغيرهما.
والذي يظهر والله أعلم وهو الأحوط قول الجمهور وقول عامة أهل العلم، إلا أن اليسير جداً وهو ما كان أقل من الخاتم ولم يكن خالصاً كالأزرة بل مشوباً بالذهب أو ما يكون في الساعة إذا كان داخل مكينتها أو داخل عقاربها، أو كان في حزام الساعة الذي تسمونه الصنقل باللهجة العامية، إذا كان يسيراً ليس كاملاً فإن الأولى تركه على قول الجمهور، فلو فُعل فالقول بالتحريم مُشكل لكننا نتركه احتياطاً، والله أعلم.
وأقول: إن ما كان بمقدار لُبس الخاتم من الفضة يجوز استعماله وهذا أظهر والله أعلم؛ وذلك لأن أم سلمة رضي الله عنها كما روى البخاري اتخذت جُلجلاً من فضة فيها شعرات من شعرات النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما حديث: (وأما الفضة فالعبوا بها)، فهذا حديث أبي هريرة وفي سنده ضعف، إذ أن في سنده أسيد بن أبي أسيد عن نافع بن جبير عن أبي هريرة ، و أسيد بن أبي أسيد لم يوثقه غير ابن حبان ، وقال الدارقطني : يُعتبر به، ومعنى (يُعتبر به)، يُقبل في الشواهد ولا يقبل إذا تفرد، وهذا مما تفرد به.
وقوله: (وأما الفضة فالعبوا بها) ليس المقصود به مخاطبة الرجل بدليل أن بداية الحديث: (من سره أن يُلبس حبيبته)، فهذا يدل على أن المخاطب المرأة وليس الرجل، ثم إن الحديث مُنكر؛ لأن فيه النهي عن التحليق، ولبس الذهب المحلق في حق المرأة جائز، والأحاديث الواردة في تحريم المحلق للمرأة ضعيفة أو منسوخة كما حكى ذلك أهل العلم، وإن كان الشيخ الألباني يرى حرمة ذلك، لكن الواقع أن الحكم منسوخ وهو إلى الضعف أقرب، وعلى هذا فلا يفيد هذا الحديث جواز لبس الفضة للرجل؛ لأنه ضعيف ثم إن المخاطب به المرأة، ثم إن الحديث منسوخ كله، والله أعلم؛ لأن المرأة يجوز لها أن تلبس من الفضة والذهب ما شاءت، لكن نحن نقول: إن الفضة يجوز استعمالها بمقدار الخاتم سواء كان في الكبك أو الساعة ونحو ذلك، فإذا كان هناك ساعة فيها فضة بمقدار الخاتم فإنه يجوز لبسها ويسأل أهل الذهب والفضة كم مقدار الخاتم من الجرام في الغالب، يعني: ما نأتي بفص من الفضة ونقول: هذا خاتم هذا ليس بمعتد به.
ثم إن المموه أخف من المنسوج، ولهذا ذهب بعض أهل العلم إلى أن المموه بالفضة جائز للرجال، بل إن ابن تيمية جوز المنسوج والمموه من الفضة، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (أو مموه بذهب قبل استحالته)، يعني: (إن تغير لونه ولم يحصل منه شيء بعرضه على النار لم يحرم لعدم السرف والخيلاء).
يقولون: إذا كان أكثره نسجاً حريراً حرُم على الذكور وعلى الخناثي؛ لأنه لا يُعلم هل هي امرأة أم رجل.
ويجوز لبسه لمن كان به حكة فقد جاء في الصحيحين من حديث أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أجاز
إذاً النهي لأجل ستر الجُدر لا لأجل وجود الحرير، وعلى هذا فالفُرش التي نسميها بساطاً إذا كان فيها جزء من الحرير ولم ينم عليها الإنسان، أو لم يتكئ عليها جائزة عند الحنابلة؛ لأنه لا يستخدمها يعني: لا ينام عليها ولا يفترشها.
ودليل النهي عن لبس الحرير وعن الجلوس عليه، حديث حذيفة : (وعن لُبس الحرير وأن نجلس عليها)، رواه البخاري ، وحديث علي : (نهاني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أجلس على المياثر)، والمياثر فيها حرير وأما إذا وضعت في المجالس من غير أن يجلس عليها فإنها جائزة كما هو مذهب الحنابلة، وقد أشار ابن مفلح في كتابه الآداب الشرعية إلى ذلك، وأشار إليه أبو عمر ابن عبد البر بقوله: المراد بهذا الخطاب هو لُبس الحرير ولباس الذهب دون الملك وسائر التصرف.
قال المؤلف رحمه الله: (غير الكعبة المشرفة) فإن الكعبة المشرفة سترها بالحرير معروف أنه لا بأس به؛ لأن النهي في حق الرجال دون النساء وغيرهن، فلو أن المرأة سترت بعض ما تستعمله في البيت لا حرج، إنما النهي على الرجال من حيث الاستعمال والاتكاء والجلوس. والله أعلم.
واستدل المؤلف بحديث: (لا تلبسوا الحرير فإنه من لبسه في الدنيا لم يلسبه في الآخرة)، والحديث متفق عليه.
قال المؤلف رحمه الله: [أو كان الحرير حشواً لجلباب] أي: بطانة داخلية أو حشواً لفُرش؛ لعدم الفخر والخيلاء، ولأنه لا يظهر، والنهي ليس لأجل مجرد اللبس وإنما لأجل الظهور، [بخلاف البطانة] فالبطانة يستخدمها الإنسان ويلبسها ويظهر.
قال المؤلف رحمه الله: [ويحرم إلباس صبي ما يحرم على رجل]، يعني: لعموم الأحاديث الدالة على حرمة لبس الرجل الحرير وكذلك يحرم على ولي الصبي أن يلبسه إياه، ولهذا قال ابن تيمية : فإن ما حرم على الرجل فعله حرم عليه أن يمكن منه الصغير، لأن عمر رضي الله عنه أنكر على الزبير حينما ألبس ابنه الصغير حريراً فنزعه عمر وقال: لا تلبسوهم الحرير.
وكذلك ابن مسعود مزق ثوب حرير كان على ابنه.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم لـلحسن بن علي: (كخ كخ، ارم بها، يعني: التمرة من الصدقة، أما علمت أنا لا نأكل الصدقة) أما الحرير الصناعي فجائز وهذه الأحكام إنما هي في الحرير الطبيعي.
نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر