الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والمشي بنعل واحدة، وكون ثيابه فوق نصف ساقه أو تحت كعبه بلا حاجة، وللمرأة زيادة إلى ذراع، ويكره لبس الثوب الذي يصف البشرة للرجل والمرأة، وثوب الشهرة، وهو ما يشهر به عند الناس ويشار إليه بالأصابع، ومنها، أي: من شروط الصلاة: اجتناب النجاسة حيث لم يعف عنها ببدن المصلي وثوبه وبقعتهما وعدم حملها؛ لحديث: ( تنزهوا من البول فإن عامة عذاب القبر منه )، وقوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، فمن حمل نجاسة لا يعفى عنها ولو بقارورة لم تصح صلاته، فإن كانت معفواً عنها كمن حمل مستجمراً أو حيواناً طاهراً صحت صلاته].
المؤلف ذكر هنا ما يكره، وهذه الكراهية هي في الصلاة وغير الصلاة، ولكنها في الصلاة من باب أولى وأحرى.
وكان شيخنا عبد العزيز بن باز عندما يشرح هذا الحديث في الفتح، فمرت هذه المسألة فسئل: يا شيخ! لو كانت أحد النعلين قريبة فيلبسها ثم يمشي إلى الأخرى؟ قال: لا، حتى يلبسهما جميعاً، ولهذا جاء في حديث أبي هريرة ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( وليلبسهما جميعاً أو يحفهما جميعاً )، قال الشيخ: لا، حتى يلبسهما جميعاً، قيل له: ولو كان يسيراً؟ فسكت الشيخ ورفع رأسه وقال: إن استطعت ألا تعصي الله لحظة فافعل. وهذا يدل على أن العبد حينما يفعل مثل هذه الأشياء يتعبد الله سبحانه وتعالى، ولا يتكلف في الخروج عن عهدة الأمر من الشارع.
وقال الخطابي : لأنه يخرج عن سجية المشي المعتاد ولا يأمن من ذلك الضرر، وغير ذلك من الأقوال، وهذا الحكم للكراهة، بل حكى بعضهم الإجماع على عدم التحريم كـابن العربي حيث قال: لإجماعهم -والله أعلم- أنه إذا مشى في نعل واحدة لم يحرم عليه، ولا يكون بذلك عاصياً عند الجمهور، وإن كان عالماً بالنهي.
ويدخل في هذا الحكم -أعني الكراهة- ما أشار إليه الخطابي رحمه الله: وهو أن يكون في كل لباسه شسع كخفين، وأن يدخل أحد كميه ويترك الآخر.
وأقول: وكذلك لبس أحد الجوارب دون الآخر، أو لبس أحد القفازين دون الآخر، أو وضع الخضاب في إحدى اليدين دون الأخرى، وعلى هذا فما تفعله بعض النساء حينما تخضب إحدى يديها وتترك الأخرى هذا مكروه؛ لأن المشروع أن تخضبهما جميعاً أو تتركهما جميعاً، ( لينعلهما جميعاً أو يخلعهما جميعاً ).
وهذا من الفقه، فإذا كنت في بلد لم يعتادوا ذلك فترك السنة أولى، كما أشار إلى ذلك أكثر الفقهاء مستدلين بحديث جابر رضي الله عنه عندما قالت عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا رسول الله! يصدر الناس بنسكين وأصدر بنسك واحد، قال: فأعمرها يا
قال المؤلف رحمه الله: (أو تحت كعبه بلا حاجة)، الحنابلة رحمهم الله يرون أن إسبال الإزار من غير خُيلاء مكروه، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية رحمه الله اتفاق العلماء على النهي في إسبال الإزار، ولم يقل أحد منهم إنه مباح، بل كلهم يرى النهي، ولكن اختلفوا في النهي هل يدل على التحريم أم يدل على الكراهة إذا لم يكن ثمة خُيلاء، وأما مع الخُيلاء فشبه إجماع عندهم على التحريم على خلاف بين التحريم والكبيرة.
وقد قلنا: إن الراجح -والله تبارك وتعالى أعلم- أن النهي إذا لم يكن خُيلاء فهو للتحريم؛ لحديث أبي هريرة : ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، وقلنا: إن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الحُكمين، والقاعدة عند العلماء أنه لا يُحمل المطلق على المقيد إلا إذا اتفقا في السبب أو في الحكم، فهم يقولون حديث: ( ما أسفل من الكعبين من الإزار ففي النار )، هذا مطلق، قيدته الأحاديث الأخرى وهي خُيلاء، وقلنا: إن حُكم الخيلاء يختلف عن حكم مجرد الإسبال؛ لأن حكم الإسبال في النار، وأما حكم الخيلاء فإنه ( لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم )، فالحكمان متغايران فلا يُحمل المطلق على المقيد، فالحنابلة حملوا المطلق على المقيد وخالفوا القاعدة التي تقول: إن المطلق لا يُحمل على المقيد إذا اختلفا في السبب أو في الحكم.
والحنابلة حملوا ذلك لحديث أبي بكر حينما قال: ( يا رسول الله! إن ثوبي يسترخي ولكني أتعاهده، قال: لست من هؤلاء يا
وليعلم أن هذا الحكم في حق ثياب النساء إذا خرجن، وأما في بيوتاتهن فإنهن كن يلبسن ثياباً لا تكاد تُرخى، ولهذا جاء في حديث أم سلمة : ( سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن المرأة يصيب ثوبها القذر، قال: يطهره ما بعده )، هذا في حق ثياب الخارج، ولهذا أشار أبو العباس بن تيمية : أن النساء كان لباسهن الخفاف، يعني: الشيء الخفيف، فلم يكن يتخذن ثياباً طويلة في بيوتاتهن.
وأما أن تلبس المرأة ثياباً يظهر تقاطيع جسدها، مثل الثياب الضيقة فقد أشار المالكية إلى كراهة الصلاة فيه، يعني: يكره عند المالكية أن تلبس المرأة بنطلوناً، ولو كانت وحدها وغطت شعرها وصلت، فلا بد أن تلبس خماراً أو درعاً وخماراً.
وأشار أبو العباس بن تيمية رحمه الله في الاختيارات فقال: وما كان من لباس الرجال مثل العمامة أو الثياب التي يُبدي مقاطيع خلقها أو الثوب الرقيق الذي لا يستر البشرة فإن المرأة تُنهى عنه، وعلى وليها أن ينهاها عن ذلك.
الآن تجد بعض النساء تلبس الثياب الشفافة جداً وربما ظهر شيء من عضدها الأعلى، وأما إخراج العضد كاملاً مثل ما تسميه المرأة الكت أو الجنبين فهذا مكروه كراهة شديدة وهو إلى التحريم أقرب.
وأما لبس الضيق فمنهي عنه؛ لما جاء عند الإمام أحمد و البيهقي من حديث أسامة بن زيد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كساه كساء يسمى قبطياً، فأعطاها
وقد اختلف العلماء في هذا الحكم هل هو من باب الشرط، أو هو من باب الواجب، أو من باب المستحب السنة؟
عامة أهل العلم يرون أن ذلك شرط؛ لأنهم يرون أن الشرط هو: كل أمر واجب اُشترط تقدمه على الصلاة، ووجوبه من حين الدخول فيها، فجعلوا ذلك شرطاً، وإن كان يجوز في بعض الشروط تركه لأجل الجهل أو النسيان، فمن المعلوم أن الطهارة لا تصح الصلاة بدونها، ولا يُعذر تاركها بجهل ولا نسيان. واستقبال القبلة شرط لكن يسقط بالجهل كما تسقط سائر الشروط ببعض الأعذار، فكذلك يقال هنا: إن اجتناب النجاسة شرط يُعذر بالجهل والنسيان كما في حديث أبي سعيد الذي سيأتي.
وذهب مالك رحمه الله إلى أن الحكم على الوجوب، وهو اختيار الشوكاني حيث قال: إن الأحاديث الدالة على اجتناب النجاسة لا تُقصر عن إرادة أو إفادة الوجوب، ما معنى لا تُقصر؟ يعني أنها واجبة.
ثم قال: لكن من صلى بثوب نجس كان تاركاً للواجب، وأما أن صلاته باطلة فهذا لم يرد فيه حديث، وأشار إلى ذلك في نيل الأوطار، وفي السيل الجرار.
والذي يظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أن اجتناب النجاسة يُعذر صاحبها مع الجهل والنسيان، ومع عدم وجود ثوب غيره، كما قلنا: إنه يصلي في الثوب النجس، وأما مع التعمد ووجود ثوب غيره فالصلاة باطلة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أسماء بنت أبي بكر في دم الحيض يُصيب الثوب قال: ( تحته ثم تقرصه بالماء ثم تصلي فيه )، فعلق الصلاة بالثوب في إزالة النجاسة، فدل على أن النهي في الصلاة في الثوب النجس نهي يتوجه إلى وصفه الذي لا ينفك عنه غالباً، وقد قلنا: إن النهي إذا كان عائداً على ماهية العبادة أو على وصفها الذي لا ينفك عنها غالباً فإن النهي يقتضي الفساد، وهنا النهي يقتضي الفساد، وسواء سميناه شرطاً أو واجباً لا مشاحة إذا ثبت أننا نقول: يُعذر بالجهل والنسيان أو لم يجد ثوباً غيره.
ودليل الجهل والنسيان ما رواه أبو داود والإمام أحمد و النسائي وغيرهم من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى يوماً بأصحابه ثم خلع نعليه فخلع الصحابة نعالهم، فلما سلم قال: ما شأنكم؟ أو ما بالكم خلعتم نعالكم؟ قالوا: رأيناك خلعت فخلعنا، فقال: إن جبريل أتاني فأخبرني أن بهما أذى، فإذا أتى أحدكم المسجد فلينظر في نعليه، فإن وجد بهما أذى فليمرغهما في التراب فإن التراب لهما طهور )، وهذا الحديث اختلف في وصله ورفعه، ورجح أبو حاتم الرازي الوصل، وهذا يدل على صحة الحديث إن شاء الله.
قول المؤلف: (في بدن المصلي وثوبه)، إذاً: المصلي مأمور أن يتنزه من النجاسة في بدنه، وكذا في ثوبه إلا ما عفا عنه الشارع، وكذا في بقعة الصلاة الذي نحن نسميه المكان والمحل، ومأمور بعدم حمل النجاسة، ففي بدنه مثل أن يكون في بدنه نجاسة أو في رجله أو في رأسه، وفي ثوبه مثل أن يكون في عمامته أو في سرواله مذي ونحو ذلك، أو في سجادته أو في المكان الذي يصلي فيه، أو يكون حاملاً للنجاسة مثل بعض الناس يذهب إلى المستشفى ومعه عُلب للتحاليل وقد وضع فيها عذرته أو بوله فيضعها في جيبه فإذا حان وقت الصلاة فلا يصلي؛ لأنه حامل للنجاسة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن هذا الحديث إلى الضعف أقرب، وأحسن منه ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: أما إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستنزه من البول ).
ثم ذكر المؤلف دليلاً من القرآن، وهو قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، هذه الآية من المعلوم أنها من أوائل ما نزل من القرآن، وقد نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم ويقال: إنها هي الآية الثانية، بعد أن نزل: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، أنزل الله بعد ذلك: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:1-4].
والمقصود بهذه الآية كما قال ابن تيمية : أن زكِ نفسك وأصلح عملك، وهذه من أوائل ما نزل قبل فرض الصلاة، فضلاً عما يستتبعها من الطهارة ونحو ذلك، فالذي يظهر والله أعلم أن الاستدلال بهذه الآية ليس بوجيه، وإن كان بعضهم يقول بعموم اللفظ، لكن الذي يظهر أن وجوب اجتناب النجاسة لم يوجد بعد.
لعلنا نقف عند هذا الحد.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين. والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر