الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ولا في حش بضم الحاء وفتحها وهو المرحاض, ولا في حمام داخله وخارجه وجميع ما يتبعه في البيت, وأعطان إبل واحدها عطن بفتح الطاء، وهي المعاطن جمع معطن بكسر الطاء هي ما تقيم فيها وتأوي إليها، ولا في مغصوب، ومجزرة، ومزبلة، وقارعة طريق, ولا في أسطحتها، أي: أسطحة تلك المواضع وسطح نهر, والمنع فيما ذكر تعبدي؛ لما روى ابن ماجه والترمذي عن ابن عمر ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى أن يصلى في سبعة مواطن: المزبلة والمجزرة والمقبرة وقارعة الطريق وفي الحمام وفي معاطن الإبل وفوق ظهر بيت الله ).
ومن المعلوم أنه في السابق لم يكن الحمام مكاناً لقضاء الحاجة إلا للتبول والاغتسال, والله أعلم.
والحش منهي عن الصلاة فيه, ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كما في حديث أبي سعيد الخدري : ( الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام ), وهذا الحديث رواه أبو داود والترمذي والإمام أحمد , وروي موصولاً ومرسلاً, والصواب وصله, ووجه الدلالة منه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في الحمام مع أن الغالب أن الحمام مغتسل، فلأن ينهى عما هو أعظم كالحشوش من باب أولى.
الأمر الأول: أنها مأوى الشياطين, والإنسان ينهى أن يصلي في مكان تأوي فيه الشياطين؛ كما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الشيطان تفلت عليّ البارحة ليقطع عليّ صلاتي), وبما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما فاتتهم صلاة الفجر، أمر الناس أن يتحولوا من مكانهم وقال: هذا مكان حضرنا فيه الشيطان), وهذه العلة موجودة في الحشوش وموجودة في الحمامات.
الأمر الثاني: أنها أماكن نجاسة، والعبد مأمور أن يتنزه عن النجاسة, كما جاء في الصحيحين من حديث ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم مر على قبرين، فقال: أما إنهما ليعذبان, وما يعذبان في كبير, أما أحدهما فكان لا يستتر من بوله ), وعلى هذا فالأماكن التي بنى الناس فيها حشوشاً ينهى عن الصلاة فيها, فإذا حوط على هذا المكان لقضاء الحاجة، فإنه يدخل في الحش, والآن قد أصبحت الحمامات كبيرة ربما تكون غرفاً واسعة, فيكون أحد أركان هذا الحمام حشاً, وأما غيره فربما يكون مكاناً للمخلاس, والمخلاس هي أماكن إزالة الثياب, وأماكن للاغتسال, وأماكن للسباحة, وأماكن لقضاء الحاجة, فهل يكون الحكم عاماً؟ نقول: نعم؛ لأنه لا يخلو, إما أن يكون حشاً، وإما أن يكون حماماً, وحكم النهي للجميع.
أما أماكن الوضوء التي أعدها الناس للتطهر والوضوء كما في المساجد، هناك حشوش وخارج المسجد مطاهر للوضوء, فهذه إن كانت في الحشوش فليس حكمها حكم الحشوش, لكن العلماء رحمهم الله أطلقوا عليها أنها داخلة في حكم الحمام, فالمغاسل قال العلماء: إن البرّاني تأخذ حكم الجوّاني, وهذا هو ما أشار إليه العلماء في قولهم: ولا في حمام داخله وخارجه وجميع ما يتبعه في البيع, والحمام لا فرق فيه بين مكان الاغتسال الذي يتعرى فيه الناس للاغتسال, ولا بين مكان المخلاس الذي يضع الناس فيه ثيابهم, فهذان مكانان كلاهما يطلق عليه اسم الحمام, فلا يصلى فيه؛ لأنه مأوى الشياطين, ودليل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إلا المقبرة والحمام ), فأطلق الحمام، و(أل): تفيد الجنس, فيعم كل ما دخل في هذا الاسم, فيدخل في داخله وخارجه وما يتبعه في البيت, وعلى هذا فالمكان الذي توضع فيه الثياب أو المكان الذي يتعرى فيه الناس للاغتسال كل ذلك يدخل في عموم الحمام.
والذي حمل بعض الحنابلة إلى أن يحمل العطن بأنه المكان الثاني هو ما جاء في الصحيحين في قصة رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( ثم أخذها
وهناك أقوال أخرى أصحها هو أن أماكن ومأوى الإبل مأوى للشياطين, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الإبل خلقت من الشياطين, أرأيتم إلى نفورها إذا نفرت ), والشيطان اسم لكل عات متمرد من جميع الحيوانات, فنهى الشارع عن الصلاة فيها؛ لأنها مأوى الشياطين, فأما الحش والحمام فظاهر النهي فيها؛ للنص.
وهل تصح الصلاة مع الإثم؟
الحنابلة لا يصححون وهي على قاعدتهم في أن النهي يقتضي الفساد, لكننا نقول: إن الراجح أن النهي لا يقتضي الفساد إلا إذا كان عائداً على ماهية العبادة أو على وصفها الذي لا ينفك عنه, وهنا (لا تصلوا في معاطن الإبل) نهي يعود على ماهية العبادة، أو على وصفها الذي لا ينفك عنه, فالركوع والسجود ليس فيهما نهي, فلا يمكن أن تكون هناك صلاة إلا في مكان, فيكون المكان من وصفها الذي لا ينفسخ عنها, فيكون النهي يقتضي عدم الصحة, وعلى هذا فالراجح -والله أعلم- أن الصلاة في معاطن الإبل لا تصح.
فالراجح عند الجمهور أن الصلاة صحيحة؛ بناء على صحة الحديث الذي سوف يذكره المؤلف, ولكننا نقول: إنه إذا لم يكن هناك شيء يستقذر، فالمجازر الموجودة عندنا الآن تكون نظيفة جداً, لكن الغالب أن المجازر الكبار تلهي المصلي, والرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن الصلاة في الثوب المخطط والمرقش وغيره, فقال: ( اذهبوا بهذه الإنبجانية إلى
والمزبلة: هي موضع الزبل والقمامة, فيقول الحنابلة: حتى ولو كانت القمامة طاهرة, والذي يظهر أن النهي للكراهة إذا كانت المزبلة ليس فيها نجاسة، فالصلاة مكروهة مع صحتها، وهو مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة, لماذا؟ لأن الصلاة هنا مستقذرة؛ فربما تقزز الإنسان حال ركوعه أو حال سجوده، فيذهب خشوعه, والقاعدة في هذا: أن كل ما أذهب الخشوع، أو أشغل عن الصلاة فإنه ينهى عنه, أخذاً بالنهي عن الصلاة بالثوب المخطط وهذا يسمى عند الأصوليين: قياساً مثيلاً أو مساوياً؛ لأن القياس ثلاثة أقسام:
قياس مساوٍ, وقياس أولوي, وقياس أدنى, والقياس المساوي يسمونه قياساً بنفي الفارق, وهذا منها، والله أعلم.
والحنابلة يجوزون بقارعة الطريق صلاة الجمعة والعيد والكسوف والخسوف, ويقولون: إنها للحاجة, ومن ذلك صلاة التراويح, فبعض المساجد في صلاة التراويح تمتلئ الطرق, والذي يظهر -والله أعلم- أنه إذا دعت الحاجة إلى ذلك فلا حرج, مثل الصلاة في الحرم, أحياناً في الفرائض تمتلئ، والله أعلم.
والحنابلة لا يجوزون إلا صلاة الجمعة والعيد والكسوف والخسوف التي تمتلئ الأماكن فيها بالعبادة, والراجح -والله أعلم- أن الصلاة في قارعة الطريق صحيحة مع الكراهة, وإذا لم يكن هناك مارة فهي صحيحة.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الهواء وإن كان تابعاً للقرار, ولكن النهي يقتصر على ما تناوله النص, وأن الحكم لا يتعدى إلى غيره، فالنهي في السطح ليس من النهي في أصله وقراره؛ لأن النهي في القرار, إما لأجل النجاسة, وإما لأجل الانشغال وقطع الصلاة, وإذا كان في سطحه لا يحصل ذلك فلا يدخل فيه, ثم إنه ثمة فرق بين البيع وبين الصلاة, فالسطح يدخل في حكم القرار في البيع, لكنه لا يدخل في حكم الصلاة والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (والمنع فيما ذكر تعبدي), هذا مذهب الحنابلة أن النهي في هذه الأشياء كلها تعبدي؛ لأنهم يرون أن الحديث الوارد في هذا الباب صحيح, ولكن الذي يظهر -والله أعلم- أن النهي ليس تعبدياً, إلا ما جاء النهي صريحاً فيه, مثل أنها مأوى الشياطين, ومن المعلوم أني إذا صليت ولا أعلم عن الشيطان فإن الصلاة صحيحة, مع أن الغالب أن الشياطين تكثر فيها والإنسان مأمور أن يحافظ على صلاته؛ ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا, فإن الملائكة تتأذى مما يتأذى منه بنو آدم ), فأمر العبد أن يجتنب المسجد؛ لأن الملائكة تتأذى, فكيف يصلي الإنسان في أماكن الحشوش وغيرها؟!
والله أعلم, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر