الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً, وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه. وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وتصح الصلاة إليها أي: إلى تلك الأماكن مع الكراهة إن لم يكن حائل, وتصح صلاة الجنازة والجمعة والعيد ونحوها بطريق لضرورة, وتصح الصلاة على راحلة بطريق وفي سفينة ويأتي, ولا تصح الفريضة في الكعبة ولا فوقها].
تحدثنا عن المواطن التي تحرم وتفسد الصلاة فيها, وذكرها الحنابلة وهي سبعة مواطن, وذكرنا أن الأقرب والله تبارك وتعالى أعلم أن كل ما لم يكن مأوى للشياطين ولم يكن فيه نجاسة ولن تؤدي الصلاة فيه إلى شرك فإن الصلاة صحيحة, وعلى هذا فإن الصلاة في المجزرة إذا أمنت النجاسة، والصلاة في المزبلة إذا أمنت النجاسة صحيحة مع الكراهة. وقلنا بأن كل ما يشغل المصلي ويذهب خشوعه فإنه مكروه الصلاة عنده؛ لما في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها ( أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم صلى يوماً وعليه إنبجانية, فلما سلم قال: اذهبوا بهذه الإبنجانية وأتوني بإنبجانية
قال المؤلف هنا: (وتصح الصلاة إليها) ثمة فرق بين الصلاة فيها والصلاة إليها, ومعنى (الصلاة إليها) أن يصلي وهي بينه وبين القبلة بالتوجه إليها, إلا أن الماتن أشار إلى جواز الصلاة إليها سواء كان بحائل أو بغير حائل, بيد أن الشارح قيد ذلك بوجود الحائل, فإن كان حائل صح من غير كراهة, وإن كان من غير حائل وجدت الكراهة, فالمؤلف أطلق والشارح قيد.
ودليلهم على الصحة قالوا: لأن الأصل صحة الصلاة في جميع بقاع الأرض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ) كما في الصحيحين, وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر : ( فأينما أدركتك الصلاة فصل فإنما هو مسجد )، أما الكراهة فقالوا: لأنها أماكن نهي عن الصلاة فيها فكره استقبالها, ولا يمكن أن يحتذى بهذا التعليل على أنه مكروه, فإذا لم يرد بخصوصه نهي ولم يكن داخلاً في العموم فلا يمكن أن نحكم على شيء بأنه منهي عنه.
ولهذا فإن الحنابلة أنفسهم ذهبوا إلى روايات أخرى، فمن الروايات أنهم قالوا: تصح الصلاة إلى تلك الأماكن إذا لم يكن حائل إلا المقبرة؛ لحديث أبي مرثد الغنوي في صحيح مسلم: ( لا تصلوا إلى القبور, ولا تجلسوا عليها ).
وذهب أبو العباس بن تيمية إلى رواية أخرى عند الحنابلة وهي قولهم: يكره الصلاة إلى القبور وإلى الحشوش، وهذه الكراهة قالوا: إنها كراهة تدل على التحريم, فأما الصلاة إلى القبور فهذا ثابت في حديث أبي مرثد: ( لا تصلوا إلى القبور ) وأما الحشوش فقالوا: لأن تلك الحشوش مأوى الشياطين, فلا يبعد أن تتخطفه الشياطين بين يديه فيقطع صلاته؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( إن الشيطان تفلت علي البارحة ليقطع علي صلاتي ).
ورواية أخرى: تصح الصلاة إلى تلك الأماكن كلها إلا القبور؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا تصلوا إلى القبور, ولا تجلسوا عليها ) , وهذا القول أصح، أن الصلاة إلى تلك الأماكن صحيحة إلا القبور لحديث أبي مرثد الغنوي : ( لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها ).
فإذا كان بيننا وبين المقابر طريق, نحن نصلي في المسجد وبيننا وبين المقابر طريق, فهل تكون الكراهة موجودة أو النهي موجود؟ لا، لكن يكون النهي على حسب عقيدة الإنسان, فإن صلى بنية الصلاة ناحية القبر فهو آثم كما لو صلى إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يمكن أن يقال: إن الشخص صلى إلى القبر؛ لأن بيننا وبين القبر جداراً؛ لكن من اعتقد هذا فهو آثم من حيث الاعتقاد لا من حيث الفعل.
وأما قول أبي العباس أن الصلاة إلى الحشوش ممنوعة فهذا بعيد؛ لأمور ثلاثة:
الأول: قالوا بأنه لا يبعد أن يقطع الشيطان عليه الصلاة فيقال: إن قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن الشيطان تفلت عليّ البارحة ليقطع علي صلاتي ) هذا لا يمكن أن نعرف عنه نحن؛ ولهذا أمسكه النبي صلى الله عليه وآله وسلم حتى إن لعابه أحس به النبي صلى الله عليه وسلم، أما نحن فلا نستطيع الإمساك بالشيطان.
الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تفلت ليقطع علي صلاتي ) لأنه أتى بشهب فقال: ( أعوذ بالله منك, أعوذ بالله منك, أعوذ بالله منك ), ولا نستطيع أن نعرف نحن ذلك.
الثالث: أن الشيطان الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ما جاءه لأن بينه وبين المسجد حش، وإنما جاءه وهو في المسجد.
فالقضية إذاً ليست هي وجود الشياطين؛ لأنه لو كان كذلك لنهي عن الصلاة في الأودية وغير ذلك؛ ولهذا فإن الراجح والله أعلم أن الصلاة إلى القبور من غير حائل محرمة ولا تصح, وما عدا ذلك فإن الصلاة صحيحة, وأما الكراهة فكما تقدم, فمتى وجد ما يشغل المصلي كره من هذا الوجه لا من وجه الاستقبال, وكل ما يشغل عن الصلاة مكروه وليست الكراهة لأجل الاستقبال, هذا هو الراجح.
وصحت الصلاة في المكان الغصب في صلاة الجنازة والجمعة والعيد والكسوف والخسوف بهذا الإطلاق الذي ذكره المؤلف, والمعروف عند الحنابلة أن الصلاة تلك المحددة كالجنازة والجمعة والعيد تصح في الأرض المغصوبة إذا كان لضرورة؛ ولهذا كان الأولى بالمؤلف أن يقول: وتصح صلاة الجنازة والجمعة والعيد لضرورة بطريق وغصب لتشمل الضرورة الطريق والغصب. أما حينما قال: (بطريق لضرورة وغصب) كأنه أشار إلى أن الغصب تصح الصلاة فيه لضرورة وغير ضرورة, والمعروف عند الحنابلة أن الغصب تصح الصلاة فيه لضرورة في صلاة الجنازة والعيد والجمعة ونحوها.
ونحن نقول: إن الراجح والله أعلم وهو مذهب الجمهور أن الصلاة في الطريق إذا اتصلت الصفوف صحيحة في الفرض, وكذلك صحيحة في غير الفرض في غير الجماعة كما لو صلى في الليل أو صلى حين عدم وجود المارة, وهي التي أشار إليها المؤلف بقارعة الطريق فإن الصلاة صحيحة, والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وفي سفينة) ومثلها الطيارة، والصلاة في مثل هذه الأماكن لا تخلو من أحوال:
الحالة الأولى: أن يتمكن معها المصلي من استقبال القبلة ومن الركوع والسجود, فإن أمكن صحت الصلاة مطلقاً؛ لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأينما أدركتك الصلاة فصل فإنما هو مسجد ) وقد أدى فيها جميع أركان الصلاة. هذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: أنه يصعب معها أداء بعض الواجبات والأركان كصعوبة استقبال القبلة, أو صعوبة أداء بعض الأركان كالقيام أو الركوع أو السجود مثل الطائرة أحياناً إذا لم يكن فيها مكان, فهذا يقال فيه بعدم صحة صلاة الفريضة إذا لم يؤد بعض الأركان أو الواجبات, إلا إذا خشي فوات وقت الصلاة, فإذا خشي فوات وقت الصلاة فإنه يصلي؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم )، ولقول الرب جل وعلا: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [التغابن:16].
وهنا مسألة, وهي إذا خشي فوات وقت الأولى دون وقت الثانية لما يجمع لها أو معها في وقت الضرورة, فهل له أن يصلي مع فوات بعض الأركان، مثلما لو ركب الطائرة الساعة الثانية عشرة ظهراً, وسوف يصل الساعة الرابعة عصراً, فهو يخشى أو يعلم فوات وقت الأولى, ولكن وقت الثانية في حقه لن ينتهي, فهل له أن يصلي في الطائرة صلاة الظهر؟ وإذا كان مسافراً فهل له أن يصلي الظهر والعصر في وقت الأولى مع علمه أنه سوف يصل في آخر وقت الأولى أو في وقت الثانية؟ هذه تحصل كثيراً في الطائرة.
فهذه المسألة على قولين:
القول الأول: صحة الصلاة؛ لأنه يجوز أن يصلي في وقت الأولى وفي وقت الثانية حال الجمع لأنه مسافر.
والقول الثاني: أنه إذا لم يخش فوات وقت الصلاتين فلا تصح الصلاة مع فوات بعض أركانها؛ لأن العبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بزمانها ومكانها, فهنا قدم الصلاة لوقتها وزمانها, مع إخلال لبعض أركانها. هذا الأمر الأول.
الثاني: أن الجمع هنا ليس لمصلحة الصلاة ولكن لمصلحته هو مع إخلال بعض الواجبات والأركان؛ ولهذا الذي يظهر أنه لا تصح الصلاة الثانية إذ لا ضرورة، وأما الأُولى فلو صلاها فمحل توقف عندي مع أن الأَولى ألا يصلي, وقلت: الأولى ألا يصلي هو محل توقف؛ لأن العلماء قالوا: وإذا علم بوجود الماء في آخر الوقت وصلى بالتيمم صحت الصلاة مع أن الأولى تأخيرها، وهذا في عبادة مشروعة أصلاً؛ لأن التيمم بدل الماء فكيف بصلاة لم يؤمر فيها العبد حال الإخلال؟
وعلى هذا فالذي يظهر أن الصلاة وقت الثانية لا تصح, وأما الأولى فمحل توقف وإن كان الأولى ألا يصلي والله أعلم, فإذا كان العلماء منعوا ذلك أو استحبوا التأخير في حال غلبة ظنهم في وجود الماء في آخر الوقت فإنهم قالوا: لا يصلي بالتيمم مع أن التيمم رافع للحدث أو مبيح على الخلاف في ذلك.
القول الثاني في المسألة: ذهب أبو حنيفة و الشافعي إلى صحة صلاة الفريضة في الكعبة وفوقها مع وجود شاخص كما هو معلوم, فقالوا: لأن كل ما ثبت في النفل جاز في الفرض إلا بدليل ولا دليل.
وأما حديث ابن عمر : ( فلما خرج صلى في قبل الكعبة وقال: هذه القبلة ), فمن المعلوم أن الحديث ليس على ظاهره؛ لأنه صلى في قبل الكعبة, وقال هذه القبلة, فهل القبلة فقط في قبل الكعبة؟ لا, فإذا كان كذلك فليس الحديث على ظاهره, وفي الحديث عن عائشة أنها قالت: ( يا رسول الله! إني أريد أن أصلي في الكعبة, قال: صلِّ في الحجر فإن الحجر منها )، ولم يقل لها: لا تصل الفرض, والقاعدة تقول: لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, وترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال, فلما قال: صلِّ في الحجر إن أردت الصلاة في الكعبة مع أن المرأة لا يجب عليها الجماعة فاحتمال أن تكون الصلاة هنا للفرض وغير الفرض، دل ذلك على أن ترك الاستفصال من النبي صلى الله عليه وسلم في موطن يحتمل الفرض وغير الفرض يدل على الإطلاق وهو صحة الصلاة للفرض والنفل. وهذا القول فيما يظهر أنه أصح, والله أعلم.
وأما قولهم: إن القبلة المأمور بها هو استقبال البنية, نحن نقول: صح استقبال البنية, وإذا صلى في الكعبة فقد استقبل بعض الأبنية، أليس إذا دخل الكعبة صلى إلى جدارها؟ فهو استقبل جزءاً منها, فمن المعلوم أنه لا يلزم أن يستقبلها كلها بدليل أنه لو انحرف وصلى إلى جهة الحجر وهو ركن منها صح, فهذا الذي يظهر والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (والحجر منها) من المعلوم أنه حينما قصرت بقريش النفقة بنوها على هذه الطريقة وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة : ( لولا أن الناس حديث عهد بكفر لكنت أدخلت من الحجر خمسة أذرع, ولجعلت لها بابين, باباً يدخل الناس منه وباباً يخرجون منه ).
ورواية خمسة أذرع قالوا إنها خاطئة, وإنما الرواية المشهورة ستة أذرع وشيئاً, وعلى هذا فالحجر الموجود عند الكعبة من الشاذروان وأنت متجه إلى الشامية ستة أذرع وشيء قليل, فمن استقبل القبلة يكون قد صلى إلى أو في الكعبة.
وعلى هذا فالذين يصلون متجهين إلى نهاية القوس من الحجر دون بناء الكعبة فإنهم لم يصلوا إلى القبلة.
الآن عندنا الكعبة وعندنا الحجر, آخر الحجر القوس وهو ليس من الكعبة, فالذين يصلون إلى جهة آخر القوس لم يصلوا إلى القبلة؛ لأن نهاية الحجر ليس من الكعبة, وهذا بإجماعهم, والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن وقف على منتهاها بحيث لم يبق وراءه شيء منها أو وقف خارجها وسجد فيها صحت)؛ لأن الواجب عند الحنابلة استقبال كامل البنية, فإذا وقف إلى منتهاها ولم يبق وراءه شيء فإنه يكون قد استقبل القبلة, ولو سجد فيها مثل أن يفتح باب الكعبة ويكون هو على الطرف, مثلاً يوضع سلم فيجعل رجليه على السلم, خارج الكعبة, فلو سجد إلى داخل الباب صحت الصلاة؛ لأن العبرة أن يستقبل, والله أعلم.
واستثنى الحنابلة للضرورة إذا هدمت الكعبة كما حصل زمن ابن الزبير حينما هدمت الكعبة, فأمر ابن عباس عبد الله بن الزبير أن يضع الجدر أو الخشب وقال: إن هذا يجعل الناس يستقبلون القبلة، فضرب الخشب ووضع عليه ستور وجعل الناس يطوفون من ورائها. والله أعلم.
صاحب الإنصاف المرداوي شرح كتاب المغني, وبين في مقدمة كتابه أن المذهب هو ما قدمه المصنف والشارح وصاحب الفروع و تقي الدين وصاحب القواعد الفقهية والخلاصة، فإذا قدموا هذا فالمذهب على ما قدموه, فإن اختلفوا فعلى ما قدمه صاحب الفروع، فإن لم يكن فعلى ما رجحه الشيخان ابن قدامة و المجد أبو البركات , فإن اختلفوا فعلى ما رجحه ابن قدامة , هكذا طريقته, إن اختلفوا يرجح ابن قدامة فيكون ما اصطلحوا عليه هو المذهب, والله أعلم.
وأبو العباس بن تيمية في شرح العمدة رد على القول بأنه لا يشترط لأن الواجب استقبال موضعها, فقال: وأما ما ذكروه من الصلاة على جبل أبي قبيس ونحوه؛ لأن بين المصلي قبلة شاخصة مرتفعة, وإن لم تكن مسامتة فإن المسامتة لا تشترط كما لم تكن مشروطة في الائتمام بالإمام, وأما إذا كان بناء الكعبة فنقول بموجبه وأنه لا تصح الصلاة حتى ينصب شيئاً يصلي إليه.
فـابن تيمية يقول: إن ثمة فرقاً بين الشاخص وبين المسامت, فإن من صلى على جبل أبي قبيس يكون قد استقبل القبلة، ولكن لا يلزم من استقبال القبلة أن تكون على وجه المسامتة, هذا قول ابن تيمية , وقول ابن تيمية قوي, والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ويستحب نفله في الكعبة لفعله صلى الله عليه وسلم بين الأسطوانتين وجاهه إذا دخل لفعله].
جاء في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن عمر أنه قال: ( فسألت
نقف عند هذا, والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر