الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ويجب للجماعة نية الإمام الإمامة ونية المأموم الائتمام؛ لأن الجماعة يتعلق بها أحكام، وإنما يتميزان بالنية، فكانت شرطاً، رجلاً كان المأموم أو امرأة، وإن اعتقد كل منهما أنه إمام الآخر أو مأمومه فسدت صلاتهما، كما لو نوى إمامة من لا يصلح أن يؤمه، أو شك في كونه إماماً أو مأموماً، ولا يشترط تعيين الإمام ولا المأموم].
قول المؤلف رحمه الله: (ويجب للجماعة نية الإمام الإمامة، ونية المأموم الائتمام)، يعني: لأجل إدراك الجماعة وفضلها، يجب أن ينوي الإمام أنه إمام، والمأموم أنه مأموم.
وعكسه: لو نوى المأموم الائتمام، ولم ينوه الإمام؛ فلا جماعة، مثل: إن رأيت شخصاً يصلي فأردت أن أصلي خلفه لأجل أن أدرك صلاة الجماعة، وهو لا يريد أن يصلي، جماعة وأخذ يبعدني وأنا أصلي وراءه، فعلى المذهب لا تصح هذه الجماعة، لأن الإمام لم ينو الإمامة، ولو نوى المأموم الائتمام، وهذا هو المذهب.
وللعلماء أقوال لسنا بحاجة إلى بيانها، لكن نقول: القول الراجح في المسألة هو مذهب الشافعية، وهو أنه لا يشترط للإمام نية الإمامة، ولا للمأموم نية الائتمام من أول الصلاة، وإن كان المذهب الحنبلي يوجب نية الإمام والمأموم من ابتداء الصلاة، فمذهب الشافعية هو الراجح لأمور:
أولاً: لما روى البخاري و مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها في قصة صلاة الصحابة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في قيام الليل، قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الليل في حجرته، وكان جدار الحجرة قصيراً، فرأى الناس شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقام الناس يصلون بصلاته )، فالرسول صلى الله عليه وسلم ما قصد الإمامة، وقصدها المأمومون، ومع ذلك صحت الجماعة.
ولما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس في قصة نومه عند خالته ميمونة ، قال: ( فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يمسح النوم عن وجهه، ثم قام يصلي، فقمت عن يساره، فأخذني فأقامني عن يمينه )، فالنبي صلى الله عليه وسلم ما نوى الإمامة في أول صلاته، وما ثبت في النفل جاز في الفرض، ولا نقول: ثبت في الفرض، لكن نقول: جاز في الفرض، والقاعدة السليمة أن نقول: ما ثبت في الفرض استحب في النفل إلا بدليل، وما ثبت في النفل جاز في الفرض إلا بدليل، فإذا جاز في النفل أن تصلي جالساً، فلولا وجود الدليل في عدم صحة الصلاة في الفرض قاعداً؛ لجاز، ولكنه منع بدليل، والله أعلم.
والحديث الآخر حديث أبي سعيد عند أبي داود و الترمذي و الحاكم و ابن خزيمة : ( أن رجلاً صلى وحده فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ألا رجل يتجر على هذا فيصلي معه؟ فقام رجل فصلى معه ) ومن المعلوم أن الأول لم ينو الإمامة.
والمسألة تفرع على مسائل أو على صور:
الصورة الأولى: أن ينوي أحدهما الائتمام، وينوي الآخر الائتمام، فهنا كل واحد منهما نوى أن يأتم بالآخر، فهذا لا يصح.
الصورة الثانية: أن ينوي كل واحد منهما الإمامة، وهذا أيضاً لا يصح؛ لأن صلاة الجماعة لا بد فيها من إمام ومأموم، وليس ذلك هنا.
الصورة الثالثة: أن ينوي أحدهما الائتمام ولم ينو الآخر، فهذا على المذهب: لا يصح، وعلى القول الراجح، وهو مذهب الشافعية: يصح.
الصورة الرابعة: أن ينوي الإمام الإمامة، وينوي المأموم الائتمام، فهذه صحيحة ولا إشكال.
الصورة الخامسة: أن ينوي الإمام الإمامة، ولا ينوي المأموم الائتمام، فهنا لا تصح الجماعة، لكن صلاة الإمام الصحيح أنها صحيحة، ولكن بلا جماعة.
الصورة السادسة: أن ينوي الإمام أنه مأموم، وينوي المأموم أنه إمام، فهذه لا تصح الجماعة، ولا تصح الصلاة على المذهب؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، فكل واحد منهما قد جعل صاحبه إماماً.
والقول الآخر: وهو قول عند الشافعية واختاره أبو إسحاق الإصطخري : أن كل من صحت صلاته صحت إمامته، وهذا هو الراجح، وهو اختيار ابن سعدي رحمه الله.
أو صلى، ثم شك هل هو مستمر إماماً أم لا؟ كما لو خشي أن من خلفه قد خرج، فيقولون: لا تصح الجماعة، فلا بد أن ينوي مطلقاً بلا شك، وكذلك المأموم، وهذا التقسيم بناءً على مذهب الحنابلة: أنه يشترط نية الإمامة للإمام، ونية الائتمام للمأموم.
قول المؤلف: (المأموم) مثاله: لو أن شخصاً منفرداً يصلي بالنساء بالميكرفون، والنساء في المصلى، وهو لا يدري كم هن، فهذا لا بأس به والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يضر جهل المأموم ما قرأ به إمامه)، يعني: ما يلزم أن يعلم المأموم ما هي قراءة الإمام، وإن كان الأفضل أن يدرك ذلك؛ حتى يفتح عليه، والله أعلم.
عندما تحدث المؤلف عن عدم صحة الجماعة، أراد أن يبين صحة الجماعة، فقال: (وإن نوى زيد الاقتداء بعمرو ولم ينو عمرو الإمامة صحت صلاة عمرو)، ولم تصح صلاة زيد، وهذا بناءً على المذهب، كونه يشترط على المأموم أن ينوي الائتمام، وعلى الإمام أن ينوي الإمامة، والراجح -والله أعلم- أن صلاة الجميع صحيحة، لأنه لا يشترط نية الإمامة أو الائتمام.
قول المؤلف رحمه الله: (وإن نوى المنفرد الائتمام في أثناء الصلاة؛ لم تصح؛ لأنه لم ينو الائتمام)، مثل: شخص صلى الظهر وحده ثم جاءت جماعة فصلوا، فدخل معهم ولم يقطع صلاته، فهو هنا ابتدأ بنية الانفراد، ثم دخل بنية الائتمام، يقول المؤلف: (إن نوى الائتمام في أثناء الصلاة لم يصح)؛ لأنه لم ينو الائتمام في أول الصلاة، وهل يشترط نية الائتمام في أول الصلاة؟ المذهب نعم، والراجح والله أعلم: صحة الصلاة، لقصة عائشة و ابن عباس والرجل الذي تصدق على صاحبه.
قال المؤلف رحمه الله: (سواء صلى وحده ركعة أو لا. فرضاً كانت الصلاة أو نفلاً)، والصواب: صحة ذلك، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [كما لا تصح نية إمامته في أثناء الصلاة إن كانت فرضاً]، يعني: كما أن المنفرد لا يصح أن يكون إماماً في أثناء الصلاة؛ لأن من شروط الصلاة عندهم: أن ينوي الإمام الإمامة من أول الصلاة، والراجح والله أعلم: صحة الصلاة؛ لأن ما ثبت في النفل جاز في الفرض، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي ).
قال المؤلف رحمه الله: [ومقتضاه أنه يصح في النفل، وقدمه في المقنع والمحرر وغيرها]، يعني: لو نوى متنفل الانفراد، ثم نوى الإمامة صح ذلك، (وقدمه في المقنع والمحرر وغيرهما)، هذا المذهب بناءً على مصطلح صاحب الإنصاف، فإن صاحب الإنصاف قال: ما قدمه في المقنع والمحرر والخلاصة والفروع فهو المذهب على ما اصطلحا عليه، وعلى قاعدة المتأخرين أن العبرة ما اتفق فيه صاحب المنتهى والإقناع، فإن اختلفا فما في المنتهى.
وفي المنتهى: عدم صحة الصلاة في الفرض والنفل.
قال المؤلف رحمه الله: [لأنه صلى الله عليه وسلم قام يتهجد وحده، فجاء ابن عباس فأحرم معه، فصلى به النبي صلى الله عليه وسلم، متفق عليه].
في هذا الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم نوى الانفراد في تطوع، فجاء ابن عباس فنوى صلى الله عليه وسلم الإمامة، قالوا: ومقتضاه أنه يصح في النفل.
قال المؤلف رحمه الله: [واختار الأكثر: لا يصح في فرض ولا نفل؛ لأنه لم ينو الإمامة في الابتداء. وقدمه في التنقيح، وقطع به في المنتهى].
قول المؤلف رحمه الله: (وإن انفرد، أي: نوى الانفراد، مؤتم بلا عذر)، والعذر هو: مرض، وغلبة نعاس، وتطويل إمام، وهذه أغراض صحيحة، فإن انفرد مأموم بلا عذر بطلت صلاته؛ لأنه قطعها، ولأنه خالف الواجب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به، فلا تختلفوا عليه )، فإذا اختلف عليه دل على عدم صحة صلاته، وأما إذا كان لعذر فإنه لا بأس به، ودليله حديث صالح بن خوات في صلاة الخوف، قال: ( فجاءت فرقة فصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، ثم خالفوا، فأكملوا وحدهم، ثم جاءت فرقة أخرى فتبعوه صلى الله عليه وسلم في الركعة الثانية )، فهذه مفارقة جائزة للمصلحة، ومن ذلك تطويل الإمام في قصة معاذ التي رواها البخاري و مسلم من حديث جابر ( أن
ولعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر