الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [وتبطل صلاة مأموم ببطلان صلاة إمامه لعذر أو غيره، فلا استخلاف، أي: فليس للإمام أن يستخلف من يتم بهم إن سبقه الحدث، ولا تبطل صلاة إمام ببطلان صلاة مأموم، ويتمها منفرداً، وإن أحرم إمام الحي -أي: الراتب- بمن -أي: بمأمومين- أحرم بهم نائبه لغيبته، وبنى على صلاة نائبه].
في المسألة خلاف، هل إذا بطلت صلاة الإمام بطلت صلاة المأموم؟ المذهب يرون: أن الإمام إذا أحدث في الصلاة، أو صلى محدثاً ثم علم في أثناء الصلاة أنه محدث، فإن صلاة المأموم حينئذ باطلة، وإن لم يعلم حدثه حتى انتهت الصلاة؛ فإن صلاة المأمومين صحيحة.
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أن صلاة المأموم صحيحة، ولو بطلت صلاة إمامه، لما روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة ، في قصة عثمان رضي الله عنه في قتله، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يصلون لكم، فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ).
وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلم، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث إن ابن المنذر في الأوسط روى أن عمر صلى بأصحابه صلاة الفجر، حتى إذا كان بالجرف وجد على ثوبه بللاً فاغتسل وأعاد الصلاة، ولم يأمر أصحابه بذلك، فقالوا: لا فرق بين أن يعلم بحدثه في أثناء الصلاة، وبين ألا يعلم إلا بعد انتهاء الصلاة.
وهو مذهب جمهور الفقهاء في الجملة، وهو مذهب أبي حنيفة و مالك و الشافعي ورواية عند الإمام أحمد.
إذا ثبت هذا: فإن المؤلف يقول: (إن بطلت صلاة الإمام؛ فلا استخلاف)، يعني: أنه لا يجوز أن يقدم الإمام أو يتقدم أحد المأمومين في الصلاة؛ لأن صلاة المأمومين قد بطلت.
الصورة الأولى: أن ينفلت عن صلاته لعذر لم تبطل معه الصلاة، مثل: أن يخاف على ماله، أو يبتدره الحدث ولم يحدث، أو يحصره بول أو غائط، فهنا لم يقع منه حدث، لكنه يخشى مع الاستمرار وجود الحدث، فهنا لو استخلف الإمام أحد المأمومين فإن صلاتهم صحيحة؛ لأن صلاة الإمام لم تبطل، والبطلان بحصول الحدث، وليس بالخوف من الوقوع فيما يبطلها، فهنا يصح الاستخلاف في قول عامة أهل العلم، ومنهم الأئمة الأربعة.
الصورة الثانية: أن ينفلت الإمام عن صلاته بسبب وقوع حدث في الصلاة، مثل أن يكون قد أحدث قبل أن يدخل في الصلاة فتذكر، أو يكون قد أحدث في أثناء الصلاة، فهنا ذهب الحنابلة إلى أنه لا يستخلف؛ لأن صلاة المأمومين تبطل ببطلان صلاة الإمام، فلا استخلاف.
وذهب الجمهور من المالكية والشافعية وبعض الحنفية: إلى أنه يصح الاستخلاف؛ لحديث أبي هريرة وحديث المسور بن مخرمة حينما طعن عمر رضي الله عنه، فأخذ بيد عبد الرحمن بن عوف فصلى بهم، فأتمها خفيفة، والقاعدة دائماً: أن الصلاة دخلها المصلي بيقين، فلا تبطل إلا بيقين.
إن القائلين بمنع الاستخلاف إنما بنوه على أمرين:
الأمر الأول: أن صلاة المأموم تبطل ببطلان صلاة إمامه، وهذه المقدمة ليست بصحيحة على الراجح.
الأمر الثاني: أن انتقال نية الإمامة في أثناء الصلاة لا تصح، مبنية على أن انتقال النية من نية مؤتم إلى نية إمامة لا تصح، كما لا يصح انتقال نية فرض إلى نية فرض آخر، وهذه المقدمة الراجح خلافها؛ لأن انتقال النية من فرض إلى آخر ليس مثل انتقال نية انفراد إلى إمامة، أو نية ائتمام إلى إمامة، أو نية إمامة إلى ائتمام، تختلف تماماً؛ لأن الصلاة ونية الفرض لم تختلف. مثلاً: أنا إمام نويت أن أكون مؤتماً في صلاة الظهر، هل تغيرت صلاة الظهر؟ لا، فيختلف تماماً ما بين لو انتقل من الظهر إلى العصر.
إذاً الراجح: صحة الاستخلاف، سواء ابتدره الحدث أم انفلت قبل وجود الحدث.
وقال بعض العلماء: ليس ثمة شيء تبطل به صلاة المأموم ببطلان صلاة الإمام إلا في صورة واحدة، وهي ما يقوم فيه الإمام مقام المأموم، يعني: ما يتحمل الإمام مقام المأموم، مثل السترة، فلو صلى الإمام إلى شيء يستره، فمرت أتان، يعني: حمار ما بينه وبين السترة، فعلى القول: بأن الحمار يقطع الصلاة تكون قد انقطعت صلاة الإمام، فيكون ذلك انقطاعاً لصلاة المأمومين، وهذه مبنية على الخلاف في قطع المار بين يدي الإمام للصلاة، وإلا فإذا قلنا: لا تقطع الصلاة، فإنه ليس شيء تبطل به صلاة المأموم ببطلان صلاة إمامه، والله أعلم.
الآن المؤلف أتقن عبارات الخلاف، فقال: (وإن أحرم إمام الحي)، إمام الحي هو الإمام الراتب، (بمأمومين أحرم بهم نائبه)، إما لغيبة أو بأن أذن، ثم جاء إمام الحي فوجد الناس يصلون بصلاة النائب، جاز لإمام الحي أن يتقدم فيصلي بهم، فيرجع النائب من إمامة إلى مأموم، واشترط المؤلف لذلك بأن يكون الإمام إمام الحي، فلو كان الإمام ليس إمام الحي، مثلاً: لو صلى جماعة في بر، فجاء شخص حسن الصوت فتقدم ليصلي بهم، فرجع الإمام إلى مأموم، فإن الصلاة على المذهب لا تصح؛ لأنهم اشترطوا إمام الحي الراتب.
وهناك رواية عند الحنابلة: أن ذلك إنما هو في الإمام الذي هو الخليفة الأعظم، وهناك قول: أن ذلك إنما هو خاص بالرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأجل أن يضيقوا مسألة الانتقال من ائتمام إلى إمامة، ومن إمامة إلى ائتمام، وغير ذلك، واستدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه قال: ( ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني عمرو بن عوف ليصلح بينهم، فحانت الصلاة فصلى
والراجح والله أعلم: أنه يصح أن يتقدم الشخص الذي لم يصل ليكون إماماً في جماعة قد جعلوا لهم إماماً، فيستأخر الإمام الأول، ولا فرق بين أن يكون إمام الحي أم غيره؛ لأن ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم كان جائزاً لأمته ما لم يقم دليل على الاختصاص.
صورة المسألة: شخصان جاءا إلى المسجد، فوجدا الإمام قد سبقهم بركعة أو أكثر، يقول المؤلف: (وإن سبق اثنان فأكثر)، اثنان أو ثلاثة أو أربعة أو خمسة، ببعض الصلاة فلما سلم الإمام، ائتم أحدهما بالآخر، قال المؤلف: هنا يصح، لكن اشترط الحنابلة لجواز الائتمام: أن تكون صلاة المسبوقين قد فاتتهما بلا اختلاف بينهما، فلو أن أحد المأمومين قد فاتته ركعة، والمأموم الآخر فاتته ركعتان؛ فلا يصح أن يأتم أحدهما بالآخر، هذا شرط الحنابلة.
والراجح والله أعلم: صحة ذلك، لأن الاختلاف هنا لمصلحة الصلاة، كما لو ائتم مقيم بمسافر، فإنه يصح، مع أن المأموم سوف يقوم.
وجوز الحنابلة أيضاً: أن يأتم مقيم بمثله إذا سلم إمام مسافر، إذا صلى الإمام وكان مسافراً فسلم من ركعتين، فقام المأمومان، جاز أن يأتم أحدهما بالآخر، إذا كان لم تفت الآخر إلا بمثل ما فات الآخر، والراجح جواز ذلك، ولو حصل اختلاف، والله أعلم.
وأيضاً الحنابلة جوزوا بعض الصور دون بعض، وأنا أقول: سبب الخلاف لأشير إلى أن هذه المسألة فيها رواية عند الحنابلة بأنها لا تصح، ولكني ذكرت هذا لأجل أن يعرف طالب العلم ما سبب الخلاف في بعض المسائل، وهذا هو سبب الخلاف، والغريب أنهم قالوا: لو نوى منفرد الإمامة لم تصح، و ابن تيمية قد ذكر هذه المسألة وجوزها، وقال: أكثر العلماء على جواز ذلك، والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: ( باب صفة الصلاة )، لما ذكر المصنف رحمه الله حكم الصلاة، وعلى من تجب، وشروط صحتها، والمسائل المتفرعة من ذلك، شرع رحمه الله في صفة الصلاة.
ودليل هذا: ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم بالسكينة والوقار، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا )، وجاء في بعض الروايات النهي عن الإسراع، لأن ذلك ينافي السكينة والوقار، فقال كما في الصحيحين من حديث أبي قتادة : ( إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون ).
واعلم أن المرء يسرع إلى الصلاة لأجل إدراك ثلاثة أمور:
الأمر الأول: لأجل إدراك تكبيرة الإحرام، فهذا نقل عن بعض الصحابة أنه يسرع فيها، لما في تكبيرة الإحرام وإدراكها من الفضل العظيم، والذي يظهر والله أعلم أن ذلك مكروه، ولعل من فعلها من الصحابة لم يبلغه الحديث، حيث أن البخاري و مسلم رويا عن أبي قتادة ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه يوماً فسمع جلبة )، ومعنى الجلبة كثرة الحركة ( فلما سلم سأل عن ذلك؟ فقالوا: أسرعنا إلى الصلاة، فقال: إذا أتيتم الصلاة فأتوها وأنتم تمشون، فما أدركتم فصلوا، وما فاتكم فأتموا ).
ومعنى الإسراع في كل الصور هو ليس الإسراع الشديد، فإن الإسراع الشديد منهي عنه، ولكن الإسراع الذي ليس بسكينة ووقار.
الأمر الثاني: أن يسرع ليدرك الركعة، فهذان الحديثان هما مقصود ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم لـأبي بكرة : ( زادك الله حرصاً ولا تعد )، حينما أسرع لأن يدرك الركعة، فلا يستحب ذلك، وهل يكره؟ نقل عن عمر بن عبد العزيز وعن بعض الصحابة أنهم فعلوا ذلك، والذي يظهر أن ذلك مكروه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهاه عن الإعادة.
الأمر الثالث: أن يسرع لإدراك الجماعة؛ وهذا لعموم الحديث، وأشار أبو العباس بن تيمية رحمه الله إلى أنه إذا خشي فوات الجماعة أو الجمعة فلا ينبغي أن يكره له الإسراع؛ لأن ذلك لا ينجبر إذا فات؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( وما فاتكم فأتموا )، قال: وقد علل صلى الله عليه وسلم الأمر بالسكينة بقوله: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )، قال: فمن لا يرجو إدراك شيء إذا مشى وعليه السكينة فلا يدخل في الحديث.
قال المؤلف رحمه الله: ( فلا تأتوها وأنتم تمشون فما أدركتم فصلوا )، فمن علم أنه لن يدرك شيئاً من الصلاة، فإنه لا يكون داخلاً في هذا الحديث، هذا كلام أبي العباس في شرح العمدة.
والقاعدة تقول: الأصل الأخذ بعموم اللفظ ما لم يرد ما يخصصه، والسؤال: هل قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )، هل المقصود هو أن السرعة جائزة إذا خشي فوات الصلاة مطلقاً؛ لأجل أنه يقول: ( فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا )، فإذا كان يمكن أن يتم مع الإمام شيئاً من الصلاة فلا يسرع، ومن ظن أو خشي أنه لا يتم مع الإمام؛ جاز أن يسرع؟
الذي يظهر أن ذلك إنما خرج مخرج الغالب، وإذا خرج مخرج الغالب فالفائدة: أن حديث: ( فما فاتكم فأتموا ) ليست مقصودة لذاتها، وإنما خرجت مخرج الغالب، والقاعدة: أن ما خرج مخرج الغالب لا يعلق الحكم على مفهومه، وعلى هذا فإننا نقول أيضاً: لا يستحب السرعة في إدراك الجماعة.
ثم إننا نقول: أن الراجح والله أعلم أن الجماعة إنما تدرك بإدراك ركعة، وليس بإدراك جزء من الصلاة كما هو مذهب الحنابلة، وإذا كان كذلك: فإن من أسرع لإدراك الجماعة لا يقصد أن يدركها لإدراك ركعة أو أقل من ركعة، فإن كان أقل من ركعة فلا فائدة من الإسراع، وإن كان ركعة فأكثر، فهو داخل في الحديث. هذا هو الذي يظهر، والله أعلم.
ولكننا نقول: يستحب ذلك لحديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً. ثم قال: وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلا الصلاة، لم يخط خطوة إلا رفعت له بها درجة وحط عنه بها خطيئة )، فهذا يدل على أن كثرة الخطا مقصودة، والله أعلم، والحديث متفق عليه.
وهذا هل يدل على أن هذا الحديث ذكر للخروج من المنزل أم إنما يكون فعله النبي صلى الله عليه وسلم من باب الدعاء، حيث ولم يحفظ أنه قاله إلا في هذا الموطن؟
الأصل الاقتداء، فإنما فعل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك حينما خرج إلى الصلاة، فإذا فعله الإنسان لخروجه إلى الصلاة فهو سنة، فإن فعله في خروجه من المنزل مطلقاً، فالذي يظهر في عموم الخروج أنه لو قاله حسن، أما أنه سنة فالله أعلم.
وهناك أحاديث في ذكر الخروج من المنزل، من ذلك: ما رواه أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجه من حديث أم سلمة رضي الله عنها قالت: ( ما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من بيته قط إلا رفع طرفه إلى السماء فقال: اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل، أو أزل أو أزل، أو أجهل أو يجهل علي )، وهناك أحاديث في الباب كثيرة، إلا أنها لا تخلوا من كلام.
ومن الأحاديث الواردة في هذا بإسناد صحيح: ما رواه أبو داود من حديث عبد الله بن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المسجد قال: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبسلطانه القديم من الشيطان الرجيم، فإن الشيطان إذا سمع المرء يقول ذلك قال: حفظ مني سائر اليوم ).
وإذا شبك المرء أصابعه في انتظار الصلاة، فإن ذلك كتشبيك أصابعه حين خروجه إلى الصلاة؛ لأنه في صلاة مثلها. وعلى هذا فالذي يظهر: أن جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب ضعيفة، ولكن نقول: لو لم تشبك لكان حسناً، والله أعلم.
واعلم أن تشبيك الأصابع يكون في ثلاثة مواطن:
الموطن الأول: حين خروجه إلى الصلاة أو في طريقه إلى الصلاة.
الموطن الثاني: وهو في الصلاة وهذا أشد عند العلماء، ولا شك أن تشبيك أصابعه في الصلاة -كما سوف يأتي- يمنع من فعل السنة في يديه، وهو أن يضع اليمنى على اليسرى أو اليمنى على ذراع اليسرى، وعلى هذا: فلا يستحب تشبيك الأصابع.
الموطن الثالث: أن يكون بعد الصلاة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة : ( فإن أحدكم لم يزل في صلاة ما كانت الصلاة هي تحبسه ). والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر