الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد ذكرنا من قبل أن الأحاديث الواردة في تشبيك الأصابع كلها فيها مقال، فحديث أبي سعيد الخدري لا يصح، وحديث كعب بن عجرة في سنده أبي ثمامة الحناط وهو ضعيف، ويترك حديثه كما قال الدارقطني ، ومنها حديث أبي هريرة وقد أشار الإمام البخاري إلى تضعيف هذا الحديث، وكذلك الإمام ابن رجب .
ومن باب الفائدة أنك إذا رجعت إلى الأحاديث الدالة على أفضلية قول ذكر للخروج من المنزل لوجدت جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب لا تخلو من مقال، فمنها حديث أم سلمة ، فيه مقال، وإن كان الإمام الترمذي ذكر أنه حديث حسن صحيح، والحديث يرويه عامر الشعبي عن أم سلمة ، وقد قال الإمام علي بن المديني : أن الشعبي لم يسمع من أم سلمة .
الحديث الآخر: حديث أنس بن مالك وفي سنده ابن جريج عن إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة عن أنس ، الذي قال: ( كفيت الشيطان، كيف بك بإنسان كفي وهدي ووقي؟! باسم الله، آمنت بالله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله )، وهذا الحديث في سنده ضعف، حيث أن ابن جريج لم يسمع من إسحاق بن عبد الله بن أبي طلحة كما قال الإمام البخاري و الدارقطني .
وهذه الأحاديث الثلاثة هي المشهورة ولا تصح، وقد ذكر الإمام مسلم في صحيحه من طريق محمد بن علي بن عبد الله بن عباس عن أبيه عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال حينما خرج إلى الصلاة: اللهم اجعل في قلبي نوراً، وفي سمعي نوراً، وفي بصري نوراً، وعن يميني نوراً، وعن يساري نوراً، ومن فوقي نوراً، ومن تحتي نوراً، اللهم أعظم لي نوراً )، وهذا الحديث بعد الرجوع إلى إسناده وجد أن الإمام مسلم رحمه الله إنما ذكره في صحيحه لبيان ضعفه، وأن الحديث الذي أثبته مسلم هو من طريق كريب مولى ابن عباس عن ابن عباس ، وأن هذه الزيادة إنما ذكرها مسلم على سبيل النكارة، وأن الصواب أن هذا الدعاء قاله صلى الله عليه وسلم في السجود في صلاته، وقد أشار إلى ذلك الإمام النسائي رحمه الله، وكذلك أشار في تبويبه الإمام البخاري .
ومعلوم أن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس له سلسلة أسانيد عن ابن عباس لا تثبت، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا: فالذي يظهر والله أعلم أنه لم يثبت حديث في الدعاء عند الخروج من المنزل، وكون أن يقول الإنسان أحد هذه الأدعية من باب عموم ألفاظ الذكر من غير ترتيب أن النبي صلى الله عليه وسلم قالها؛ فلا حرج في ذلك إن شاء الله؛ لأن المسلم يذكر الله في جميع أحواله، وباب الذكر والقواعد الدالة عليها إذا فعلها الإنسان ولو على سبيل الدوام إذا لاحظ فيها معنى من المعاني دون قصد أن النبي صلى الله عليه وسلم فعله لا بأس، فإن باب الذكر أوسع من باب العبادة المحضة، لأن الله شرعها على سبيل العموم: وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ [غافر:55]، وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ [ق:39]، والناظر في أحاديث وأفعال الصحابة تدل دلالةً واضحة على أنهم رضي الله عنهم لهم صدق في هذا الباب، ربما لا يفقهها كثير ممن كتب في باب الأذكار.
فباب الأذكار أوسع من باب العبادات التي مبناها على التوقيف، كما نحن نقول في باب الأسماء والصفات، يعني: من باب التشبيه، وليس من باب القياس: فباب الأفعال؛ أفعال الباري أوسع من باب الصفات، وباب الصفات أوسع من باب الأسماء، وهذا معروف عند أهل العلم.
قول المؤلف رحمه الله: (ولا يخوض في حديث الدنيا)، من المعلوم أن حديث الدنيا لفظ عام، يشمل الكلام الباطل واللغو، ولا شك أن اللغو في المساجد ينهى عنه؛ لأن اللغو منهي عنه على سبيل العموم، فالمساجد من باب أولى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن المساجد لم تبن لهذا، إنما هو التكبير والتسبيح وقراءة القرآن ).
وقد قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير قول الله تعالى: فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ [النور:36]، فقال: نهى سبحانه عن اللغو فيها.
وكذلك الخوض في الدنيا يشمل رفع الصوت، فقد ثبت في البخاري من حديث السائب بن يزيد أنه قال: ( كنت قائلاً في المسجد -وفي بعض الروايات: كنت نائماً في المسجد- فحصبني
فقال أهل العلم: أنه يكره رفع الصوت في المساجد.
ومن المعلوم أن رفع الصوت في المساجد يكون على أنواع:
أولاً: رفع الصوت بالعلم، فقد كره الإمام مالك وطائفة من أهل الحديث رفع الصوت بالعلم في المساجد، وقال مالك رحمه الله: ولقد أدركت الناس قديماً يعيبون ذلك على بعض من يكون ذلك محله. ومن طريف ما يذكر: أن ابن أبي خيثمة ذكر في تاريخه بإسناده عن سفيان بن عيينة أنه مر يوماً في المسجد و أبو حنيفة وأصحابه يرفعون أصواتهم بالعلم في المسجد، فقال سفيان بن عيينة : يا أبا حنيفة ! يكون ذلك في المسجد والصوت فيه مما لا ينبغي، فقال: دعهم فإنهم لا يفهمون إلا بذلك، وهذا قول لـأبي حنيفة أن رفع الصوت بالعلم لا بأس به.
والذي يظهر: أن إنشاد الشعر المباح، خاصة الذي يبين دين الله سبحانه وتعالى لا بأس به.
وبعض الناس يريد أن تكون المساجد ألعاباً للناس، حتى سئلت أن يجعل الدور الثاني للمسجد مكاناً للهو واللعب للشباب، من لعبة تنس الطاولة وغير ذلك! وهذا لا ينبغي ولا يسوغ أن تحول المساجد إلى مثل هذه الأشياء.
وبعضهم يستدل على ذلك بما جاء في الصحيحين ( أن
إذاً: كل الذي أخذناه يعتبر مكروهاً عند المؤلف مطلقاً، لقوله: (ولا يخوض في أحاديث الدنيا).
يقول ابن تيمية رحمه الله : وأما الكلام الذي يحبه الله ورسوله فحسن، وأما المحرم فهو في المسجد أشد تحريماً، لأن الله سبحانه وتعالى نهى أن يأتي المعتكف زوجته في المسجد، وقال تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم: على أن إتيان النساء في المساجد منهي عنه، وهو إلى التحريم أقرب، إذ إن إتيان الرجل أهله إذا أحسن النية يؤجر، ولكن المساجد لم توضع لمثل هذا الأمر، وهو إلى التحريم أقرب.
الحال الأولى: أن يكون الإمام في المسجد يراه المصلون أو يمكن رؤيته.
الحال الثانية: أن يكون خارج المسجد، فأما إن كان خارج المسجد، فقد ذكر المؤلف أن السنة ألا يقوم المرء حتى يرى الإمام، لما في الصحيحين من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني )، هو قول جمهور العلماء.
وأما إن كان داخل المسجد فقد اختلف العلماء في ذلك على أقوال: فذهب المؤلف إلى أنه يقوم عند قول المقيم: قد قامت الصلاة، وهو مذهب أحمد في المشهور عنه، وهو قول بعض السلف وهو قول أنس بن مالك، وقد ثبت بإسناد صحيح عن أنس من طريق أبي يعلى قال: رأيت أنساً إذا قال المقيم: قد قامت الصلاة؛ قام فوثب، وذكروا في ذلك حديثاً، ولا يصح في القيام عند قول المؤذن: (قد قامت الصلاة) حديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال بعضهم -وهو مذهب الشافعي وهو قول ابن المسيب- : يستحب أن يقوم من حين قول المؤذن: الله أكبر الله أكبر، قالوا لأمور: لأن ذلك أدعى لأن يسوي الناس صفوفهم، بحيث لا يتأخرون بين الإقامة والتكبير، ويمكن أن يستدل لهذا الأمر بما ثبت في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة أنه قال: (أقيمت الصلاة فقمنا فعدلنا الصفوف)، فهذا يفيد إلى أن الإقامة والقيام كانا واحداً.
وقال بعضهم؛ وهو مالك : لم يثبت في ذلك حد محدود، والأمر في ذلك على السعة. وقول مالك قوي، إلا أنه ينبغي إذا قام الناس جميعاً لتسوية الصفوف، فلا ينبغي للإنسان أن يتشاغل في قراءة القرآن، وربما توقف الناس عن استكمال الصفوف، وانشغلوا بهذا الواقف والناس يتحركون، فالأولى أن يسوي الصفوف ويتراص في الصف، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( سووا صفوفكم وتراصوا )، هذا الذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم، بل قال سعيد بن المسيب : إذا قال المؤذن: الله أكبر وجب القيام. وذكر الزهري رحمه الله: أن الناس كانوا ساعة يقول المؤذن: الله أكبر؛ يقومون إلى الصلاة، فهذا إن فعل فحسن، حتى ينشغل الناس في تسوية الصف.
قال المؤلف رحمه الله: [ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك. رواه ابن أبي أوفى ].
هذا حديث ضعيف، رواه ابن عدي في الكامل، وجميع الأحاديث الواردة في كتاب الكامل لـابن عدي إنما ذكرها ابن عدي لبيان الأحاديث التي تكلم على الراوي فيها، وعلى هذا فلا يمكن أن يقال: إسناده حسن، رواه ابن عدي في الكامل، فاعلم أن الأحاديث التي ذكرها ابن عدي في الكامل أو ذكرها الذهبي في ميزان الاعتدال، أو ذكرها الإمام البخاري في التاريخ الكبير إنما هي لبيان أن هذا الحديث مما استنكر فيه على الراوي. والحديث في سنده الحجاج بن فروخ التميمي وهو ضعيف الرواية.
قال المؤلف رحمه الله: [وهذا إن رأى المأموم الإمام وإلا قام عند رؤيته، ولا يحرم الإمام حتى تفرغ الإقامة].
وهذا إذا كان المأموم يرى الإمام، كما مر معنا، فأما إن كان في الخارج فلا يقوم حتى يرى الإمام؛ لما جاء في الصحيحين من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أقيمت الصلاة فلا تقوموا حتى تروني ).
ولعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر