اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويلزم الجاهل تعلم الفاتحة، والذكر الواجب، ومن صلى وتلقف القراءة من غيره صحت، ثم يقرأ بعدها، أي: بعد الفاتحة، سورة ندباً كاملة، فيستفتحها ببسم الله الرحمن الرحيم، وتجوز آية، إلا أن أحمد استحب كونها طويلة، كآية الدين والكرسي، ونص على جواز تفريق السورة في ركعتين؛ لفعله عليه الصلاة والسلام، ولا يعتد بالسورة قبل الفاتحة، ويكره الاقتصار على الفاتحة في الصلاة، والقراءة بكل القرآن في فرض؛ لعدم نقله، وللإطالة].
الحالة الأولى: أن يقدر على تعلم كامل السورة، فيجب عليه أن يقرأ كامل السورة، وهذا بالإجماع.
وأنا في ذكر الحال الثانية، والثالثة، سأذكر عبارة صاحب الكشاف. الحالة الثانية: ألا يقدر على تعلم كامل الفاتحة، بل يعرف بعض آيات الفاتحة، وبعض آيات القرآن، فالمذهب عند الحنابلة: أن الواجب في حقه أن يقرأ الفاتحة، ثم يكررها حتى تصل سبع آيات، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لأعلمنك سورةً هي أعظم سورة في القرآن، الحمد لله رب العالمين، هي السبع المثاني، والقرآن العظيم )، فيجب عليه أن يقرأ سبع آيات، فيقرأ بعض الفاتحة ويكررها حتى تصير سبع آيات.
وذهب الشافعي إلى أنه يقرأ بعض آيات الفاتحة، وبعض الآيات من القرآن حتى يكمل سبعاً.
وذهب ابن حزم ، ورواية عند الإمام أحمد ؛ أنه يقرأ ما أمكنه تعلمه، يعني: اللي يقدر عليه، إن كان يحفظ أربعاً يقرأ أربعاً فقط، لا يكرر، ولا يلزمه قراءة البدل من القرآن يعني: من السور غير الفاتحة.
وهذا القول هو الراجح والدليل: لأن العبد غير مأمور بما لا يستطيع لقوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا [التغابن:16]، وقد أدى ما استطاع، وهو قراءة بعض الآيات، وأما تكرارها فيحتاج إلى دليل، ولا دليل.
ثم إن تكرارها، أو قراءة آيات من غيرها ليست بدلاً عن الفاتحة، حتى يقال: إذا لم يمكن المبدل فلابد من البدل، ونحن نقول: إذا لم يستطع إنسان القيام ماذا يصنع؟ يسجد وإلا يجلس؟ يجلس، إذاً: ثبت أن الجلوس بدل عن القيام، لكنه لم يثبت أن الفاتحة إذا كان يعلم بعضها هناك شيء بدل عنها؛ لأن العبادات مبناها على التوقيف.
الحالة الثالثة: ألا يعلم الفاتحة، لكن عنده بعض آيات القرآن، وعنده سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، فالواجب أن يقرأ شيئاً من القرآن، لقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث رفاعة بن رافع : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم علم رجلاً الصلاة فقال: فإن كان معك قرآن فاقرأ، وإلا فاحمد الله، وهلله، وكبره)، وهذا الحديث رواه أبو داود ، وصححه الحاكم ، وتكلم فيه بعض أهل العلم، وصححه أيضاً ابن خزيمة وبعضهم يقول: هو حديث المسيء في صلاته، ولم يذكره البخاري و مسلم ، فهو إلى الضعف أقرب.
على كل، فالواجب أن يقرأ شيئاً من القرآن لعموم قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20].
ذهب الجمهور إلى أنه يجب عليه أن يقول هذا، وهو المذهب، لما روى عبد الله بن أبي أوفى ( أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني لا أستطيع أن آخذ شيئاً من القرآن فعلمني ما يجزئني منه، قال: قل سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حول ولا قوة إلا بالله )، وهذا الحديث رواه أبو داود ، و النسائي ، و الدارقطني ، وصححه الحاكم و ابن الملقن في البدر المنير، وحسن إسناده الحافظ ابن حجر لطريقين، فإنه جاء من طريق آخر عند الطبراني ، وإلا فإن الحديث في سنده إبراهيم السكسكي وقد ضعفه النسائي وغيره، بل قال الحافظ ابن حجر : وعيب على البخاري إخراج حديثه في صحيحه، إلا أنه لم يتفرد، فقد جاء من طريق أخرى، عن طلحة بن مصرف عن عبد الله بن أبي أوفى ، وإن كان في سنده أيضاً رجل يقال له: بشر ، ولكن الحديث بمجموع الطرق يدل على أن له أصلاً.
ومما يشهد أن قول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، تكون بدلاً عن القرآن قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم : ( أحب الكلام إلى الله بعد القرآن: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر ).
ومن الذكر الواجب قول: سبحان ربي الأعلى في السجود، وسبحان ربي العظيم في الركوع، على المذهب خلافاً لجمهور أهل العلم، ومن الذكر الواجب: تعلم التشهد الأول، والتشهد الثاني؛ لأن التشهد الأول واجب ويسقط مع النسيان، والتشهد الأخير ركن.
وأما قول: رب اغفر لي، فإنه سنة كما سوف يأتي بيانه، وليس بواجب خلافاً للحنابلة، وهو قول جمهور أهل العلم.
ودليل ذلك: فعله عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبي قتادة أنه قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الظهر في الركعتين الأوليين بفاتحة الكتاب وسورة )، وكذلك في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد الخدري في قراءة صلاة العصر.
قال المؤلف رحمه الله: (فيستفتحها ببسم الله الرحمن الرحيم)، وقلنا بذلك؛ لأن الراجح أن البسملة آية من القرآن بالإجماع في سورة النمل، وآية يؤتى بها للفصل بين السور.
قال المؤلف رحمه الله: (ونص على جواز تفريق السورة في ركعتين)، يعني: لك أن تقرأ في ركعتين سورة واحدة. قول المؤلف: (لفعله عليه الصلاة والسلام) فإن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ المرسلات في ركعتين، وقرأ الأنفال في المغرب، وقرأ طول الطوليين في ركعتين وهذا لا إشكال فيه، واعلم أن السورة إنما تكون موافقةً للسنة إذا جيء بها بعد الفاتحة، وأما إذا قرئت قبل الفاتحة؛ فإنها ذكر مشروع في غير محله، والذكر المشروع في غير محله يباح فيه سجود السهو إذا فعله ناسياً كما هو معلوم.
قال المؤلف رحمه الله: (في فرض لعدم نقله)، إذاً: أفادنا المؤلف بقوله: (في فرض)، أنه لو كان في نفل جاز، وقد نقل عن عثمان رضي الله عنه أنه قرأ القرآن في ركعة، لكنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا السنة هي عدم فعله.
إذاً: ترتيب ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] من سورة البقرة إلى الناس يكون تسعة وأربعين، وعلى هذا فالراجح: أن (ق) بداية المفصل.
وقوله: يستحب أن يقرأ بطوال المفصل، لما روى جابر بن سمرة قال: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، ونحوها وكانت صلاته بعد تخفيفاً )، ولما جاء في الصحيحين من حديث أبي برزة الأسلمي قال: ( وكان يقرأ صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر بستين آية )، واستحب الإطالة؛ لأن الله سماها قرآناً فقال: وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً [الإسراء:78].
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يكره لعذر)، كما ثبت عند أبي داود ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ الزلزلة في ركعتين )، وقراءته عليه الصلاة والسلام الزلزلة في ركعتين؛ لبيان الجواز، وليس بسنة كما يفعله بعض الأئمة، كلما تأخر عن الإقامة قرأ بالزلزلة، والرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعلها مرة لبيان الجواز.
وبعض أهل العلم يرى أن قراءة الزلزلة إنما كان في السفر، ولكن هذا ليس بظاهر في الرواية، فليس في الرواية أنها في السفر، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام أنه قرأ المعوذات في السفر، كما عند الترمذي من حديث عقبة ، وكذلك لمرض؛ لأن المريض يخفف عنه، وقد قرأ عليه الصلاة والسلام في صلاة الفجر يوم المزدلفة سوراً قصيرة، وقد قال ابن مسعود كما عند البخاري : ( وصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر يومئذ على غير ميقاتها، وأسرع عليه الصلاة والسلام ).
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يكره بطواله)، وهذا لحديث أبي برزة : ( كان يقرأ ما بين الستين إلى المائة )، وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقرأ في الركعة الأولى بسورة النحل، والثانية بسورة يوسف.
ولا مانع أن يقرأ ببعض طوال المفصل، لما ثبت في حديث زيد بن ثابت أنه قال لـمروان بن الحكم : ( ألا أراك تقرأ بقصار المفصل، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بطولى الطوليين )، يعني بها: سورة الأعراف، وقد قرأ عليه الصلاة والسلام في المغرب سورة المرسلات والأنفال، فهذا يدل على أنه لا بأس أن يقرأ الطوال أحياناً.
والعشاء كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لـمعاذ في الصحيحين: ( اقرأ بـسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل1]، ونحوها من السور)، وهذه السور في أوساط المفصل فتكون في العشاء، ولا حرج أن يقرأ أحياناً خاصةً إذا كان الناس ينتظرون الإمام وكان حسن الصوت، فأرى أنه لا بأس بالإطالة إذا عرف هذا في المسجد؛ لأن هذا تذكير بالقرآن، والرسول صلى الله عليه وسلم ( كان إذا رآهم في العشاء اجتمعوا؛ عجل، وإذا رآهم تأخروا؛ أخر )، وكان ينظر إلى حاجة الجماعة والمسجد، فإذا كان الإمام حسن الصوت، والناس يأتونه من كل حدب وصوب ليستمعوا إلى القرآن فلا أرى بأساً أن يطيل في صلاة العشاء؛ لأجل تذكير الناس بالقرآن، كما قال تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45].
فالمفصل يبدأ من ق، وقصار المفصل تبدأ من الضحى، على القول الراجح، وأوساطه تبدأ من النازعات، والله أعلم.
أما تنكيس الكلمات، فإنه عبث بالقرآن ولعب، ولا يجوز، وأما تنكيس السور بأن يقرأ سورة النساء، ثم بعد ذلك يقرأ سورة آل عمران، فإن أحمد و مالك كرهوا ذلك؛ لأنه مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم في ترتيبهم للقرآن؛ ولأن عامة قراءة النبي صلى الله عليه وسلم على الترتيب، فكان يقرأ ب سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، ثم هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، مع أن الغاشية أكثر آيات من التي قبلها، كل ذلك قصداً للترتيب، وذهب الشافعي إلى أنه خلاف الأولى.
والذي يظهر والله أعلم في هذا: هو أن السنة الترتيب، وإذا ترك الترتيب فقد خالف السنة، ومخالفة السنة يكون خلاف الأولى كما هو مذهب الشافعي، ولكن لا يلزم منه الكراهة، وقد ثبت عن عمر أنه كان يقرأ في الفجر في الركعة الأولى بالنحل، وفي الركعة الثانية بسورة يوسف، وأيهما أولاً سورة النحل أم سورة يوسف؟ سورة يوسف، فهذا يدل على أن عمر كان يصنع ذلك من غير نكير، وقد كان مصحف ابن مسعود يختلف ترتيبه عما هو موجود عندنا الآن.
وأما تنكيس الآيات فإن كان في ركعة واحدة؛ فهذا حرام ولا إشكال، وأما إن كان في ركعتين فالخطب فيه يسير لكن ذلك مكروه، مثل: أن يقرأ في الركعة الأولى بقوله تعالى: إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتاً * يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً [النبأ:17-18]، ثم في الركعة الثانية يقرأ: عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ * عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ [النبأ:1-2]، فهذا يكره إذا كان في سورة واحدة يقرؤها ولكنه ليس بحرام لأنه قرآن والله أعلم، يقول المؤلف: (فلا تكره).
يعني: لا يكره أن يقرأ الإنسان في العشاء دائماً وَالضُّحَى [الضحى:1]، أو وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1]، مع اعتقاد أنه يجوز أن يقرأ غيرها، هذا قول المؤلف، واستدل على ذلك بما جاء في الصحيحين من حديث أنس ( أن رجلاً كان يصلي بأصحابه فكان إذا استفتح بالفاتحة قرأ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1]، فشكوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله: لم فعلت ذلك؟ قال: إنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها، قال: إن حبك إياها أدخلك الجنة )، قالوا: ولم ينهه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، وإنما استفسر، وهذه معروفة عند بعض أهل العلم أنها من الجائز غير المشروع، فلم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه فعله، ولم يثبت عن كبار الصحابة أنهم فعلوه، فدل على أن فعل هذا الصحابي من غير نكير جائز، وترك النبي صلى الله عليه وسلم والصحابة عامة يدل على أنه غير مشروع، فيسمى هذا من الجائز غير المشروع، وفيه أمثلة كثيرة.
من ذلك ترك النبي صلى الله عليه وسلم الصوم في يوم عرفة، فهذا دليل على أن الأفضل والمشروع هو الفطر، فإذا نقل عن أحد أنه صامه، قلنا: هذا من الجائز غير المشروع، لأنه لم يثبت النهي عنه بسند صحيح.
قول المؤلف رحمه الله: (ولا تصح الصلاة بقراءة خارجة عن مصحف عثمان )، سبق أن من الصحابة من كان يقرأ بإحدى القراءات التي نزلت فإن القرآن نزل على سبعة أحرف، فكان ابن مسعود يقرأ على إحدى هذه الأحرف، وفي مصحف عثمان قراءة أخرى، وقال بعض أهل العلم: إن مصحف عثمان هو حرف من الأحرف التي نزلت، وهذا الذي يظهر والله أعلم، فقالوا: إنه لا يصح أن يقرأ إلا بقراءة مصحف عثمان رضي الله عنه، فإن المسلمين أجمعوا عليه، ومصحف عثمان يصدق عليه القراءات العشر، وأما إذا قرأ بقراءة أبي أو بقراءة ابن مسعود ؛ فلا تصح، هذا قول جماهير أهل العلم، قالوا: لأنه يشترط في القرآن التواتر، وقراءة ابن مسعود ليست متواترة، فلو قرأ في سورة وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى [الليل:1]: (والذكر والأنثى)، وهي قراءة ابن مسعود ، قالوا: لا تصح القراءة.
وذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله ورواية عند الإمام أحمد : أن الصلاة بقراءة غير متواترة إذا صح سندها؛ جازت لأنها قرآن، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أثنى على قراءة ابن مسعود وقال: ( من أحب أن يقرأ القرآن غضاً طرياً كما نزل فليقرأه على قراءة
وعلى هذا فالراجح والله أعلم: أن ما صحت فيه القراءة بسند صحيح ولو لم تكن متواترة، ولو لم تكن في مصحف عثمان أنها صحيحة، والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم. وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر