الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ثم بعد فراغه من قراءة السورة يركع مكبراً؛ لقول أبي هريرة رضي الله تعالى عنه: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر إذا قام إلى الصلاة ثم يكبر حين يركع)، متفق عليه، رافعاً يديه مع ابتداء الركوع؛ لقول ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استفتح الصلاة رفع يديه حتى يُحاذي منكبيه، وإذا أراد أن يركع وبعد ما يرفع رأسه)، متفق عليه، ويضعهما، أي: يديه على ركبتيه مفرجتي الأصابع استحباباً، ويكره التطبيق بأن يجعل إحدى كفيه على الأخرى ثم يحطهما بين ركبتيه إذا ركع، وهذا كان في أول الإسلام ثم نُسخ].
قول المؤلف رحمه الله: (ثم بعد فراغه من قراءة السورة يركع) السنة إذا انتهى الإنسان من قراءة السورة أن يسكت سكتة لطيفة قبل الركوع ثم يركع، وقلنا: إن هذه السكتة ثابتة، وهي قريبة من إجماع أهل العلم حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُحفظ عنه أنه كان إذا انتهى من القراءة يجمع بينها وبين التكبير مثلما يقوله بعض الأئمة في صلاة التراويح كأن يقول: وكان الله عليماً حكيماً، الله أكبر، فلم يُحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول ذلك، بل كان يسكت سكتة لطيفة، وهذا هو المحفوظ.
والسكتة الثانية أن تكون بعد التكبير وقبل القراءة لحديث أبي هريرة : ( أرأيت سكوتك ما بين التكبير والقراءة ماذا كنت تقول؟ )، وهذه سكتة لطيفة ليست طويلة.
الثاني: أنه ثبت عن بعض الصحابة أنه كان لا يُتم التكبير، فقد روى مسلم في صحيحه من طريق يحيى بن أبي كثير عن أبي سلمة : ( أن
ووجه الدلالة من هذين الحديثين أن التابعين حينما رأوا أبا هريرة يُتم التكبير أشكل ذلك عليهم، وكان ذلك في عهد الخلفاء الراشدين، وحينما صلى عمران مع علي فأتم قال: ( ذكرنا بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم )، دل ذلك على أنهم كانوا لا يتمون، وكان هذا أمراً مشتهراً، فلما فعلوا السنة، ذُكر ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان واجباً لما اُشتهر تركه، هكذا يقولون.
وأما مذهب الحنابلة القائلين أن تكبيرات الانتقال واجبة، فاستدلوا بأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المأموم أن يُكبر، وعلق تكبيره بتكبير إمامه، فلا يمكن أن يقال بأن تكبير المأموم واجب وتكبير الإمام ليس بواجب، فقال: ( إذا كبر فكبروا، ولا تكبروا حتى يُكبر )، فإذا أُمر المأموم أن يُكبر، وجُعل هذا التكبير مربوطاً بتكبير إمامه دل على أن إمامه يُكبر وجوباً، وأما ما نُقل عن بعض السلف أنهم كانوا لا يتمون التكبير، كما نُقل عن معاوية فهذا يقول ابن تيمية : إن بني أُمية خالفوا السنة في أمور حتى ظنها الظان أن ذلك هو السنة، فهم الذين أحدثوا تأخير الصلاة، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن قوماً سوف يأتون فيؤخرون الصلاة، قال: (كيف بكم بأمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها ويخنقونها إلى شرق الموتى؟ قالوا: كيف تأمرنا يا رسول الله؟! قال: صلوا الصلاة لوقتها فإن أدركتموها معهم فصلوها تكن لكم نافلة)، ومن المعلوم أن تأخير صلاة العصر إلى قريب من الغروب محرم وهي صلاة المنافقين، فهل يقال أن ذلك مخالف لترك سنة فقط؟
كذلك أن بني أُمية مما خالفوا السنة كما ذكر ابن تيمية هو ترك التكبير في الانتقال، فليس اشتهار الترك دليلاً على عدم الوجوب، وذلك أنه ربما يكون الذي اُشتهر ليس هو ترك التكبير ولكنه ترك الجهر، ومن المعلوم أن ترك الجهر شيء وترك التكبير شيء آخر، وهذا هو الذي أشار إليه أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهذا هو القول الظاهر، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
فيكون ما نُقل عن بعض السلف إنما هو ترك الجهر وليس ترك التكبير.
وأما الرفع مع التكبير فله ثلاث حالات: إما أن يُكبر ويرفع معاً، وإما أن يرفع ثم يُكبر، وهاتان الروايتان محفوظتان، وإما أن يُكبر ثم يرفع، وهذه الحالة الثالثة فقد جاءت في بعض الروايات ولعلها مختصرة، والله تبارك وتعالى أعلم.
وذكر المؤلف حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُكبر إذا قام إلى الصلاة، ثم يكبر حين يركع )، وهذا الحديث يدل على المقارنة بين التكبير والرفع.
وأما ذكر بعض الحنابلة أن ذلك واجب فهذا بعيد؛ لأن غايته أن هذا فعل للنبي صلى الله عليه وسلم والأفعال لا يؤخذ منها الوجوب إلا بطرق معينه ذكرناها سابقاً.
فإنه يقول: يرفع يديه في تكبيرة الإحرام ثم لا يعود، واستغرب بعض الناس أن أبا حنيفة يقول بهذا القول مع أنه قد نقل عن ثلاثة من الصحابة، فنُقل عن عمر رضي الله عنه كما رواه الطحاوي عن الأسود قال: رأيت عمر يرفع يديه في تكبيرة الإحرام ثم لا يعود، وهذا الحديث صححه البيهقي ، وكذلك روى ابن أبي شيبة و الطحاوي عن مجاهد قال: صليت خلف ابن عمر فكان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يعود، وكذلك ما رواه عاصم بن كليب عن أبيه أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه كان يرفع يديه في تكبيرة الإحرام من الصلاة ثم لا يعود، وهذا رواه الطحاوي وقال: هذا أثر صحيح، فـأبو حنيفة رضي الله عنه لم يبلغه الشيء المرفوع، وإنما بلغه الشيء الموقوف.
وبالغ بعض أهل الحديث في النكارة على الإمام أبي حنيفة في هذه المسألة كما ذكر ذلك الإمام البخاري في جزء رفع اليدين في الصلاة، وأما حديث ابن مسعود أنه قال: (صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يرفع يديه في التكبيرة الأولى ثم لا يعود)، فهذه الزيادة ضعيفة؛ وذلك لأن محمد بن جابر يرويه عن حماد بن أبي سليمان عن النخعي عن علقمة عن ابن مسعود ، و محمد بن جابر تفرد بهذه الرواية.
وزيادة (ثم لا يعود) أنكرها أبو حاتم ، والإمام أحمد ، و يحيى بن آدم ، والإمام البخاري ، و الدارقطني ، و أبو داود ، فالرواية منكرة.
قال المؤلف رحمه الله في صفة التطبيق: (ويكره التطبيق بأن يجعل إحدى كفيه على الأخرى، ثم يحطهما بين ركبتيه إذا ركع، وهذا كان في أول الإسلام ثم نُسخ)، لحديث مصعب بن سعد السابق ذكره.
الدليل على أن الإنسان يقبض ركبتيه في الركوع مفرجي الأصابع حديث أبي مسعود البدري أنه قال: (إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم ركع فجافى يديه ووضع يديه على ركبتيه وفرج أصابعه من وراء ركبتيه)، وحديث رفاعة بن رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا ركعت فضع راحتيك على ركبتيك).
نسأل الله أن يرزقنا التفقه في الدين، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر