اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويجافي الساجد عضديه عن جنبيه، وبطنه عن فخديه وهما عن ساقيه ما لم يؤذ جاره، ويفرق ركبتيه ورجليه وأصابع رجليه، ويوجهها إلى القبلة، وله أن يعتمد بمرفقيه على فخذيه إن طال].
قوله: (ويجافي الساجد عضديه عن جنبيه)، العضد هو ما كان فوق المرفقين، فبعض الناس إذا سجد تجده يجمع نفسه فيُلصق عضديه بجنبيه، والسنة أن يُبعد بين جنبيه وعضديه، والدليل على ذلك ما ثبت في حديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنه بين صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( وكان إذا سجد أمكن أنفه وجبهته من الأرض، ونحّى يديه عن جنبيه، ووضع يديه حذو منكبيه )، فالشاهد: ( نحى يديه عن جنبيه )، وكذلك ما ثبت في حديث عبد الله بن مالك بن بحينة أنه بين صفة سجود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( كان إذا سجد يجنح في سجوده حتى يُرى بياض إبطيه )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُجافي عضديه عن جنبيه.
قال المؤلف رحمه الله: (وبطنه عن فخذيه) دليله حديث أبي حميد الساعدي : ( كان إذا سجد فرج بين فخذيه غير حامل بطنه على شيء من فخذيه )، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد يكون سجوده فيه اطمئنان وارتياح لكل عظم في مكانه الطبيعي المناسب لموضع سجوده.
ولهذا قال المؤلف: (ما لم يؤذ جاره)، وجاء في بعض الروايات: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد جافى بين يديه حتى لو أرادت بهمة أن تمر بين يديه لمرت )، ومعنى ذلك: أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا وضع يديه مستقبلاً بهما القبلة إما أن تكون حذو منكبيه، أو إلى وجهه بين يديه كما في حديث وائل، ( يُجافي حتى لو أرادت بهمة أن تمر بين يديه لاستطاعت )، يعني: إذا وضع يده وهو ساجد تأتي البهمة فتمر وليس أنها تمر من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، لا، ولكنها تمر بين يديه إلى رأسه، وهذا هو موضع طريقة السجود؛ لأن بعض الناس حينما يقرأ هذا الحديث يظن أنه يقوس ظهره؛ لأجل أنه لو أرادت بهمة أن تمر بين يديه لمرت، وليس هذا هو المقصود، فالظهر يكون منبسطاً إلى موضع سجوده ولا يكون متقوساً، فلو أرادت بهمة أن تمر بين يديه يعني: أنه بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام وهو واضع يديه مستقبلاً بهما القبلة، فلو أرادت بهمة أن تمر بين كفه وبين جسده لاستطاعت، وليس معنى الحديث أن تمر من تحت بطنه فليس هذا هو المراد، والله أعلم.
ينبغي أن يُبين للناس هذا، حيث أنك تجد كثيراً من المصلين ليس في صلاته شيء من الخشوع، همه كيف يسبق من عن يمينه ومن عن شماله إلى الأرض حتى ترتاح رجلاه، وإذا أراد التشهد الأخير ربما لا يكون سجوده في حال اطمئنان واستقرار بحيث أنه يريد أن يتربع ويؤذي جيرانه في الصلاة، وهذا بلا شك مخالف للسنة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم منع من أذية الناس لأجل فعل السنة فقال: ( يا
والقول الثاني في المسألة: أن السنة ضم الرجلين وذلك لما رواه ابن خزيمة في صحيحه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد ألصق رجليه )، وهذا الحديث صححه ابن خزيمة ولم يُتكلم فيه، وهو إلى الحُسن أقرب، ومما يشهد لذلك حديث عائشة رضي الله عنها حينما فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: ( فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد )، وكونها تضع يدها على قدميه وهو ساجد دليل على أنه عليه الصلاة والسلام كان يُلصق بين رجليه.
والواقع أيها الإخوة أن هذا فيه إشكال؛ ذلك أن كل الذين رووا صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكروا حال الرجلين وهذا من الغرائب! يعني: هم بينوا لنا كيف حال الإصبع وكيف كان حال البصر ولم يذكروا لنا حال القدمين! إلا حديث ابن عمر : ( كان إذا سجد رص قدميه )، وهذا الحديث رواه ابن خزيمة وفيه بعض الإشكال، ووجه الإشكال أن حديث عائشة ليس فيه دلالة ظاهرة، وعلى هذا فأقول: إنه إن رص بين قدميه فحسن، وإن ترك ذلك بناء على أن كل الذين رووا صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يذكروا هذا في الأحاديث الحسنة والصحيحة، فهذا لعله يكون أولى، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا فيكون عدم ذكر الصحابة المشهورين دليل على أنه لم يكن يُلصق، وذكر حديث عائشة وذكر حديث ابن عمر دليل على أنه ألصق، فتكون السنة أن يفعل هذا أحياناً وهذا أحياناً، كما قلنا في قبض يديه بعد الركوع: إذا لم يكن هناك سنة ثابتة فجائز أن يسبل وجائز أن يقبض، وإن كنا قد قلنا: إن القبض أولى لحديث وائل بن حجر : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان قائماً في الصلاة قبض يمينه بشماله )، وحديث سهل بن سعد الساعدي ، فلعل هذا منها إن شاء فعل كذا وإن شاء فعل كذا، وإن كان الإلصاق أولى، والله أعلم.
الحالة الأولى: أن يُحاذي بهما منكبيه لحديث أبي حميد الساعدي رضي الله عنه أنه قال: ( ووضع كفيه حيال منكبيه ) رواه أبو داود ، وبالمناسبة أحاديث أبي حميد جمعها أحد الباحثين في كل رواياته وهو بجموع طرقه لا بأس به إلا ما يتفرد به عبد الحميد بن جعفر ومن ذلك ما تفرد به حديث أبي حميد في جلسة الاستراحة، والمعروف أن كل الذين رووا حديث أبي حميد لم يذكروا ذلك؛ لأنهم كانوا يذكرون فعله ولم يذكروا قوله.
الحالة الثانية: أن تكون حذو أذنيه، وفي حديث وائل بن حجر قال: ( فإذا سجد وضع وجهه بين يديه )، وكونه يضع وجهه بين يديه دليل على أن الكفين تكون حذو الأذنين، والله أعلم.
مر معنا في حديث إياس بن عامر الغافقي عن عقبة بن عامر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ [الواقعة:74]، قال: اجعلوها في ركوعكم، وحينما نزلت: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، قال: اجعلوها في سجودكم)، وهذا الحديث رواه أبو داود ، وحسنه المنذري ، والحديث في سنده إياس بن عامر الغافقي مستور الحال، والمجهول له ثلاث مراتب: فإن كان من كبار التابعين وقد روى عنه جماعة ولم يأت بما تفرد فإن أحاديثه مقبولة كما أشار إلى ذلك الإمام الذهبي .
وحديث (سبحان ربي الأعلى) ثابت في صحيح مسلم من فعله عليه الصلاة والسلام، وأما الأمر به فهذا هو مذهب الحنابلة رحمهم الله خلافاً لجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية فإنهم يقولون: إن ذكر سبحان ربي الأعلى على سبيل الاستحباب، والراجح إذا صح الحديث فإنما هو على سبيل الوجوب، والله تبارك وتعالى أعلم.
وعلى هذا فليس ذكر واجب في الصلاة من الأقوال في حق الإمام والمنفرد والمأموم إلا تكبيرات الانتقال، وقول: سمع الله لمن حمده في حق الإمام، وقول: ربنا ولك الحمد لقوله: ( فقولوا: ربنا ولك الحمد )، وقول: سبحان ربي العظيم سبحان ربي الأعلى في حق الجميع، وقراءة التشهد الأول في حق الجميع، قراءة سورة الفاتحة في حق المأموم فحسب فإنها واجبة تسقط مع العجز وعدم الإمكان.
إذاً الأقوال الواجبة في حق الإمام والمنفرد والمأموم: تكبيرات الانتقال، وقول: سمع الله لمن حمده في حق الإمام والمنفرد، وقول: ربنا ولك الحمد في حق الجميع، وقول: سبحان ربي الأعلى سبحان ربي العظيم في حق الجميع، والتشهد الأول في حق الجميع، وقراءة الفاتحة في حق المأموم فإنها واجبة وليست بركن.
أما الصلاة الإبراهيمية فليست بواجبة كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله.
السنة أن يقول: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، كما في الصحيحين من حديث عائشة: ( كان يُكثر أن يقول في ركوعه وسجوده: سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي، يتأول القرآن )، وكذلك السنة أن يقول: سبوح قدوس رب الملائكة والروح، وكذلك السنة أن يقول في سجوده: ( اللهم لك سجدت وبك آمنت ولك أسلمت، سجد وجهي للذي خلقه وصوره وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين )، كما رواه مسلم ، وعلى كل حال يُكثر من الدعاء فقمنٌ أن يُستجاب له.
نكتفي بهذا، والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر