اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ثم يرفع رأسه إذا فرغ من السجدة مكبراً، ويجلس مفترشاً يسراه، أي: يسرى رجليه، ناصباً يمناه، ويخرجها من تحته ويثني أصابعها نحو القبلة، ويبسط يديه على فخديه مضمومتي الأصابع، ويقول بين السجدتين: رب اغفر لي، الواجب مرة والكمال ثلاث].
فإذا رفع رأسه وفرغ من السجدة يقول المؤلف: (مكبراً)، نحن قلنا: إن الراجح أن تكبيرات الانتقال واجبة، وأما عدم جهر بعض السلف فهذا لا يدل على عدم وجوب القراءة، فالقراءة شيء والجهر شيء آخر.
قال المؤلف رحمه الله: (ناصباً يمناه ويخرجها من تحته، ويثني أصابعها نحو القبلة)، رجله اليمنى لا يتكئ عليها بل يُخرجها بحيث يكون الجلوس على الرجل اليسرى ويتكئ على أصابعها بحيث يستقبل بها القبلة، وهذا كما قلت: إذا كان ذلك الحال في مقدور المصلي وإلا فإن مثل هذه الأشياء المقصود بها هو أن يتكئ عليها ولا يكون ملامساً بأصابع رجليه الأرض، بل يُمكِّن أصابعه عند جلوسه وعند سجوده، وإلا فإن بعض الناس ربما لا يستطيع أن يستقبل بسبب هيئة أصابعه، كما قلنا في الركوع فإنه لا يلزم أن يكون ظهره مستوياً، وأما حديث: ( لو وضع ماء لاستقر ) فإن الحديث في سنده ضعف كما مر معنا.
وأما أن يشير بأصبعه السبابة في يده اليمنى بين السجدتين فهذا ليس بسنة، وما جاء في حديث عبد الرزاق عن سفيان عن عاصم بن كليب عن أبيه عن وائل فإن ذلك شيء تفرد به عبد الرزاق، وأكثر الرواة رووه عن سفيان الثوري ولم يذكروا هذه اللفظة، وكل الذين رووه عن عاصم وهم خمسة عشر راوياً لم يذكروا أنه كان يرفع إصبعه أو يشير بإصبعه بين السجدتين، والمحفوظ: (أنه كان إذا قعد في الصلاة)، وفي رواية: (إذا قعد في التشهد)، وأما إذا قعد بين السجدتين فهذه لفظة تفرد بها عبد الرزاق كما أشار إلى ذلك كثير من الحفاظ رحمهم الله رحمة واسعة، وعلى هذا فالسنة بين السجدتين هل يرفع أصبعه السبابة أم يضمها ويستقبل بها القبلة السنة أن يضمهما ويستقبل بهما القبلة، كما مر معنا، والله أعلم.
وعلى هذا فالراجح هو مذهب الجمهور خلافاً للحنابلة أن قول: (رب اغفر لي) سنة؛ لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بذلك، وغايته أنه فعل والفعل لا يدل على الوجوب، وعلى هذا فقول المؤلف: (الواجب مرة والكمال ثلاث)، قياس على قول: سبحان ربي الأعلى وسبحان ربي العظيم، وقد مر معنا قول ابن مسعود : وأدنى الكمال ثلاثاً.
والمحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( رب اغفر لي وارحمني واهدني وعافني واجبرني وانصرني )، وهذا الحديث رواه أبو داود وفي سنده ضعف، لكن لو قالها فلا حرج؛ لأنه في عموم الأدعية.
وإذا سجد في الثانية فإنه يفعل مثلما فعله في السجدة الأولى فيما تقدم من التكبير والتسبيح والهيئة ونحوهما، وقد بين أنس أنه كان بين السجدتين يُطيل حتى قال: ( إني كنت أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع شيئاً لا أراكم تصنعونه، قال
وبالمناسبة قول: (سبحان ربي الأعلى وبحمده) في سندها ضعف كما قال الإمام أبو داود: أخاف أن تكون هذه الزيادة غير محفوظة كما في حديث إياس بن عامر عن عقبة ، وعلى هذا قوله: (وبحمده) ضعيف، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا يجلس للاستراحة) ذهب جمهور الفقهاء إلى أن السنة ألا يجلس للاستراحة، وجلسة الاستراحة معناها: أنه إذا رفع رأسه من السجدة الثانية من الركعة الأولى والركعة الثالثة جلس جلسة خفيفة مثل جلسته بين السجدتين ثم يقوم من غير ذكر، وإذا أراد أن يقوم وضع كفيه على الأرض ثم نهض قليلاً، فإذا ابتعدت ركبتاه عن الأرض فإنه يضع كفيه على ركبتيه وينهض على صدور قدميه، هذه هي السنة والله أعلم، ولا ينبغي له أن يستمر واضعاً ركبتيه حتى ينهض كاملاً، والسنة أنه إذا جلس جلسة الاستراحة فإنه يعتمد على الأرض كما في حديث مالك بن الحويرث ، فإذا نهض وأبعد ركبتيه عن الأرض فإنه ينهض على صدور قدميه ليجمع بين السنتين، وأما ما يفعله الناس حينما يقومون وهم ما زالوا قد وضعوا أيديهم على الأرض فالسنة ليست كذلك، السنة الجمع بينهما كما في فعل ابن مسعود ، وأما الاعتماد على الأرض فقد ثبت في صحيح البخاري في جلسة الاستراحة، والجمهور يرون أن جلسة الاستراحة في حديث مالك بن الحويرث قد فعلها النبي صلى الله عليه وسلم لحال الكِبر وليس ثمة سنة.
وأما جلسة الاستراحة في حديث أبي حميد الساعدي فقلنا: إنها زيادة ضعيفة تفرد بها عبد الحميد بن جعفر رضي الله عنهم أجمعين، وإلا فإن الرواية الصحيحة إنما هي من حديث مالك بن الحويرث كما رواها البخاري، وعلى هذا فالسنة في جلسة الاستراحة كما هو مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد أنه إذا أراد أن يقوم يعتمد على الأرض فإذا أبعد ركبتيه وضع كفيه على ركبتيه ثم نهض على صدور قدميه، وإذا لم يجلس جلسة الاستراحة فإنما ينهض على صدور قدميه، ومن المعلوم أن جمهور الفقهاء لا يرون استحباب جلسة الاستراحة وقالوا: إن خمسة عشر راوياً روى صفة صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يذكرها، فدل على أن ذكرها في حديث مالك بن الحويرث إنما فعلها حال الكِبر وليس ثمة سنة.
والراجح والله تبارك وتعالى أعلم أن جلسة الاستراحة ثابتة في حديث مالك بن الحويرث ومن المعلوم أن السنة تثبت بخبر واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وأما قول: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها حال الكِبر فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم أمر مالك بن الحويرث بقوله: ( وصلوا كما رأيتموني أصلي )، فلو كان عليه الصلاة والسلام يرى أنه فعل ذلك حال الكِبر لبينه عليه الصلاة والسلام لـمالك لينقلها ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة، وعلى هذا فالراجح: أن جلسة الاستراحة تُفعل أحياناً وتترك أحياناً، فخمسة عشر راوياً رووا عدم جلسة الاستراحة فدل على أن السنة أحياناً ألا تُفعل، وحديث مالك بن الحويرث أنه فعلها دليل على أنه كان يفعلها أحياناً، وهذا أولى بأن نرد بعض السنن ونترك بعض، هذا هو السنة.
إذاً جلسة الاستراحة سنة تُفعل أحياناً وتترك أحياناً، وهذا في حق الإمام والمنفرد والمأموم، وأما المأموم فإذا لم يجلس إمامه فإن السنة عدم مخالفته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم من حديث أبي موسى : ( فلا تختلفوا عليه )، كما هو اختيار ابن تيمية رحمه الله، وعلى هذا فالمأموم لا ينبغي له أن يجلس جلسة الاستراحة إذا لم يجلس إمامه؛ لأن السنة موافقة إمامه في الأفعال ما أمكن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فلا تختلفوا عليه ).
إذاً: السنة أن يعتمد على الأرض، بحيث يضع كفيه على الأرض فإذا ابتعدت ركبتاه عن الأرض وأراد أن ينهض ينهض على صدور قدميه، فيضع يديه على ركبتيه وينهض على صدور قدميه، بحيث يجمع بين السنن، والله أعلم.
وقد صح عن ابن مسعود أنه كان ينهض على صدور قدميه كما رواه البيهقي، وأما عن النبي صلى الله عليه وسلم فليس ثمة سنة ثابتة بإسناد صحيح، وأما حديث وائل بن حجر ففي سنده انقطاع؛ لأن عبد الجبار بن وائل لم يسمع من وائل ، وأما حديث أبي هريرة ففي سنده رجل يقال له: خالد بن إياس وهو ضعيف.
وأما قول المؤلف: (وإلا اعتمد على الأرض)؛ لأنهم يرون أن حديث مالك بن الحويرث إنما كان حال الكِبر، والسنة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلوا كما رأيتموني أصلي )، كما في حديث مالك ، وقد علم عليه الصلاة والسلام أن مالكاً سوف يروي عن النبي صلى الله عليه وسلم كل ما رآه، وعلى هذا فالسنة أن يعتمد على الأرض فإذا أراد أن يقوم اعتمد على صدور قدميه ووضع يديه على ركبتيه، وإذا لم يجلس جلسة الاستراحة فإنه لا يعتمد حينئذٍ على الأرض؛ لفعل ابن مسعود وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عن الجميع.
قال المؤلف رحمه الله: [وفي الغنية: يكره أن يقدم إحدى رجليه]. الغُنية لـعبد القادر الجيلاني وهو من العُباد المعروفين من الحنابلة، معروف من الحنابلة وكتابه صغير، وبين أنه يُكره أن يُقدم رجليه، بعض الناس إذا أراد أن يخر ساجداً تجده من شدة حرصه على السنة عن جهل يقدم يده وركبته اليمنى، وهذا ليس بسنة، وإذا أراد أن يقوم قدم إحدى رجليه على الأخرى وهذا أيضاً ليس من السنة، فالسنة حال السجود، وحال القيام من السجود أن ينهض بيديه وركبتيه جميعاً.
أما تكبيرة الإحرام فبالإجماع؛ لأنها تقال مرة واحدة لحديث علي بن أبي طالب: ( تحريمها التكبير )، والاستفتاح كذلك فإن السنة أن يقولها الإمام والمأموم في أول صلاته، وأما المأموم إذا جاء والإمام يقرأ فإن السنة ألا يفعل لأجل استماع القرآن حال الصلاة الجهرية، وأما السرية فإنها يصنعها في الركعة الأولى، وكذلك التعوذ قلنا: إنه يقول: في أول ركعة دون الثانية، وتجديد النية لا يلزم؛ لأن النية مستمرة في صلاته.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر