الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.
اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وفرقعة أصابعه وتشبيكها؛ لقوله عليه السلام: ( لا تقعقع أصابعك وأنت في الصلاة ) رواه ابن ماجه عن علي ، وأخرج هو و الترمذي عن كعب بن عجرة : ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد شبك أصابعه في الصلاة، ففرج رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصابعه )، ويكره التمطي وفتح فمه ووضعه فيه شيئاً لا في يده، وأن يصلي وبين يديه ما يلهيه، أو صورة منصوبة ولو صغيرة، أو نجاسة، أو باب مفتوح، أو إلى نار من قنديل أو شمعة، والرمز بالعين، والإشارة لغير حاجة، وإخراج لسانه، وأن يصحب ما فيه صورة من فص أو نحوه، وصلاته إلى متحدث أو نائم، أو كافر، أو وجه آدمي، أو إلى امرأة تصلي بين يديه، وإن غلبه تثاؤب كظم ندباً فإن لم يقدر وضع يده على فمه ].
المؤلف رحمه الله ذكر هذه الأشياء وهي مكروهة فعلها في الصلاة، ولا شك أن الكراهة حكم شرعي، ولا تثبت إلا بدليل شرعي، وهي: خطاب الله المتعلق بأفعال المكلفين بطلب الترك لا على سبيل الجزم، وعلى هذا فكون أن النصوص الشرعية تدل على استحسان شيء لا يدل على أن تركه وقوع في المكروه، والمؤلف رحمه الله ذكر جملة من هذه الأشياء، ولعلهم رحمهم الله يتجوزون في إطلاق الكراهة على خلاف الأولى، والشافعية يرون أن الشيء إذا لم يرد به نص ودلت القواعد العامة على عدم استحبابه يطلقون عليه خلاف الأولى، وبعض أصحاب المذاهب ومنهم الحنابلة يطلقون عليه الكراهة، والأولى أن يقال: خلاف الأولى، ولا يقال مكروه؛ لأننا نقول في المكروه: هو خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين لطلب الترك لا على سبيل الجزم، وإذا لم يكن هناك خطاب من الشارع فكيف نطلق عليه أنه مكروه؟
قال المؤلف رحمه الله: (فرقعة أصابعه)، يعني: غمزها بحيث تحدث صوتاً، وهذا نوع من الشغب والعبث في الصلاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن في الصلاة لشغلاً )، ومن المعلوم أن الذي يصنع هذا يكون مشغولاً عن الصلاة، ولم يكن مشغولاً في الصلاة، فهذا هو الذي جعل أكثر الفقهاء يكرهون ذلك، ولو لم يرد فيه حديث بخصوصه، وأما الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تقعقع أصابعك في الصلاة )، فهذا الحديث يرويه أبو إسحاق السبيعي عمرو بن عبيد عن الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، و الحارث الأعور ليس بذاك ولا يحتج به، فهو ضعيف، ولكننا نقول: الدليل هو أنه اشتغال عن معنى يخالف الصلاة، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن في الصلاة لشغلاً )، كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود ، ومن المعلوم أن الذي يفرقع أصابعه مشغول عن الصلاة وليس مشغولاً فيها.
والحديث الآخر حديث أبي سعيد الخدري ، وحديث أبي هريرة وفيه: ( فإذ مشى أحدكم إلى الصلاة فلا يشبك بين أصابعه، فإنه في صلاة )، وهذان الحديثان لا يفرح بهما، وقد ضعفهما الحافظ بن رجب ، وأشار رحمه الله إلى أن البخاري رحمه الله يشير إلى ضعف جميع هذه الأحاديث، ولهذا بوب الإمام البخاري باب تشبيك الأصابع في المسجد، وذكر حديث أبي موسى الأشعري : ( مثل المؤمنين في توادهم ... وشبك بين أصابعه )، وفيه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وهذا يدل على أن جميع الأحاديث الواردة في هذا الباب لا تصح، ولكننا نقول: إن الذي يشبك بين أصابعه خالف السنة؛ ذلك لأن الصلاة لها أوضاع وهيئات، ومن المعلوم أن الذي يشبك أصابعه حال القيام خالف السنة في عدم وضع اليمنى على اليسرى، وإذا شبك أصابعه وهو راكع خالف السنة في عدم وضع كل يد على الركبة، وإذا شبك أصابعه بين السجدتين خالف السنة؛ لأن السنة وضع كفه اليسرى على فخذه اليسرى، وكفه اليمنى على فخذه اليمنى، وعلى هذا ذهب أكثر الفقهاء إلى كراهة ذلك، ونحن نقول: إن ذلك مخالفة للسنة، ولو قيل بالكراهة فليس ببعيد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى بعض الهيئات التي تخالف السنة، مثل قوله صلى الله عليه وسلم: ( اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب )، وقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تقع كإقعاء الكلب )، وغير ذلك من الهيئات التي تخالف السنة.
فمثل هذه الهيئات التي تكون في اليد مخالفة لفعل النبي صلى الله عليه وسلم في صفتها تكون إلى النهي أقرب؛ لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده والله أعلم.
أما خارج الصلاة حتى ولو كان ينتظر الصلاة فلا بأس، فلو كان يمشي إلى المسجد، أو صلى السنة وجلس وشبك بين أصابعه فلا بأس، ولو كان ينتظر الصلاة، فالعبرة في أثناء أداء العبادة والله أعلم.
على كل حال: المؤلف ذكر أن (فتح الفم، ووضع شيء فيه) من الكراهة، وأنا أقول: أن هذا نوع من الانشغال عن الصلاة، وهو منهي عنه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إن في الصلاة لشغلاً )، وقد كان عليه الصلاة والسلام يبتعد عن كل ما يلهي في الصلاة كما جاء في الصحيحين من حديث عائشة أنه (صلى بخميصة ذات أعلام -والخميصة: كساء له أعلام- فلما سلم قال: اذهبوا بهذه الخميصة إلى
(أو صورة منصوبة ولو صغيرة)، المنصوبة بين يديه، بحيث إذا صلى بدأ ينظر إليها، ومثل ذلك إذا كانت الفرشة كثيرة التصاوير، والمقصود من هذا أنها تشغل عن الصلاة، فإذا تعود الناس على مثل هذه الفرش فإن الكراهة تقل فيها فإذا صلينا نحن في مثل هذه الفرشة فإن نظراتنا إليها، وعبثنا فيها قليل؛ لأننا تعودنا على رؤية مثل هذه الأشياء، لكن لو جاء شخص ولم يكن من عادته أن ينظر إليها فتجده ينشغل فيها انشغالاً يلهيه عن صلاته، وهذا هو السبب في هذا، ولا شك أننا مأمورون أن نتعبد الله سبحانه وتعالى بما كان عليه محمد صلى الله عليه وسلم، والأولى أن نقتدي به عليه الصلاة والسلام، لكن هذا مبني على الحكم الشرعي في مسألة الإلهاء من عدمها.
والصورة لها أنواع: صورة في بدن المصلي، وصورة في الأرض، وصورة في الجدر.
النوع الأول: الصورة التي تكون في الثياب، وقد اختلف العلماء في حكم الصلاة في هذا الثوب على ثلاثة أقوال: قول بالمنع وعدم صحة الصلاة، وقول بصحة الصلاة مطلقاً، والقول الثالث وهو صحة الصلاة مع التحريم، إذا كانت من ذوات الأرواح، وإن كانت من غير ذوات الأرواح، أو أنها من ذوات الأرواح وليس فيها رأس فهو مكروه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( اذهبوا بهذه الخميصة وائتوني بأنبجانية
النوع الثاني: وجود الصورة في الفرشة التي يصلي عليها الإنسان، فمن المعلوم أن هذه الصورة ممتهنة، فإذا صلى الإنسان في هذه الفرشة التي فيها صورة فإن السجود عليها مكروه؛ لأنها تلهي، وإذا كانت ليست بين يديه فلا بأس، مثلاً السجاد الكبيرة فيها صورة، وأنت صليت بأن جعلت الصورة آخرها تحتك وأنت تصلي فهذا لا بأس به؛ لأن الصورة حينئذٍ تكون مهانة.
إذاً إذا كان السجادة فيها صورة فإذا سجدت على نفس الصورة، فإن هذا مكروه؛ لأن هذا يلهي عن الصلاة، وأما إذا سجدت بشيء ليس فيه صورة، وإن كانت الصورة موجودة في السجادة بأن تكون آخر الصورة تحتك والبقية خلفك، فهذا لا بأس به، وليس ثمة كراهة مثل الصورة التي تكون فيها نمر، فهذه الصورة مهانة.
النوع الثالث: أن يصلي في مكان فيه تصاوير في الجدار، أو بين يديه، فهذا اختلف العلماء فيها على ثلاثة أقوال أصحها أنها تصح مع الإثم، ولهذا لم يصل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في الكنيسة حتى تم إزالة التصاوير منها؛ ( لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة )، ولو كانت فوتوغرافية؛ لأننا وإن جوزنا الصورة الفوتوغرافية لكننا لا نرى أن تعظم بأن توضع على الجدر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم من حديث علي : ( ألا تدع صورة إلا طمستها )، يعني: صورة معظمة إلا طمستها، أو من ذوات الأرواح، هذا الذي ينبغي أن يحمل عليه الحديث موافقة للنصوص الأخرى.
قال المؤلف رحمه الله: (أو نجاسة)، الحنابلة يرون أن الصلاة إلى الحش مكروهة، والراجح والله أعلم أنه ليس ثمة كراهة إذا كان بينها وبين الجدار، وأما إذا كان الباب مفتوحاً فإنه مكروه من باب أنها مشغلة عن الصلاة، ويخشى أيضاً مرور الشياطين، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان انفلت عليّ ليقطع عليّ صلاتي )، كما أشار أبو العباس بن تيمية إلى ذلك. وأما إذا كان هناك جدار فالأصل أنه لا بأس به والله أعلم.
استدل العلماء على كراهة أن يصلي إلى نار قالوا: لأن هذا فعل المجوس، كما أشارت عائشة رضي الله عنها إلى ذلك، وقد قال سلمان رضي الله عنه: اجتهدت في المجوسية حتى كنت فطن النار الذي يوقدها، يعني: يجلس بين يديها حتى تخبو، فإذا صلى وأمامه النار فإن هذا تشبه بالمجوس، هذا قول الحنابلة، وذهب الإمام البخاري رحمه الله وهو رواية عند الإمام أحمد أن ذلك ليس بمكروه، واستدل البخاري على ذلك بحديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تفلت عليّ شيطان البارحة، ومعه شهاب من نار، ليقطع عليّ صلاتي، فقلت: أعوذ بالله منك )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لقد رأيت بين يديك النار، فاتقوا النار )، وقال صلى الله عليه وسلم: ( رأيت
وهل الدفايات الموجودة بين يدي المصلين تدخل في النار؟ الذي يظهر والله أعلم أن النار المقصود بها ذات الشهب، والشعل، وأما المدافئ فالذي يظهر والله أعلم أنها ليست داخلة في الحرمة، ولا في الكراهة.
قول المؤلف رحمه الله: (وإخراج لسانه) هذا نوع من العبث، والحركة في الصلاة التي لا طائل تحتها.
قال المؤلف رحمه الله: (وأن يصحب ما فيه صورة من فص أو نحوه) يعني: يضع في خاتمه صورة، أو يضع في قلمه صورة، وهو يصلي، وهذا مكروه، أما البطاقات التي قد أخفيت، فهذه ليس لها حكم، والمقصود إظهارها؛ لأن الإخفاء ليس له حكم، أرأيت ما يكون في بطن المصلي هل تصح الصلاة فيه؟ نعم بالإجماع لأنه غير ظاهر، فإذا كانت بطاقة العمل ظاهرة أو معلقة فالأولى تركها، أو يدخلها في جيبه، لأنها مشغلة والأفضل أن الإنسان يصلي بخشوع.
وأما الصلاة إلى المتحدث فقد ثبت في الصحيحين من حديث عتبان بن مالك واللفظ للبخاري قال: ( فجعل يصلي فتحدثوا في المنافقين، فأسندوا عظم ذلك إلى
قال المؤلف رحمه الله: (أو كافر)، يعني: يكره أن يصلي إلى كافر؛ لأنه نجس، فالكافر نجاسته حسية معنوية، فلا بأس بذلك ولا كراهة إلا إذا كان يتحرج، فحينئذٍ يكره من هذا الوجه، لا لأنه كافر والله أعلم.
أقول: إذا كبر ثم جاء نساء فطفن، ثم وقفن أمامه أو عن يمينه أو عن شماله، جاز له قطع الصلاة بأن يتقدم؛ لأن هذا مكروه، وأمكن قطع الصلاة لأجل المكروه هنا، ثم يتقدم إلى المكان الذي ليس فيه نساء، وأما إذا لم يستطع أن يتقدم مثل أن يكون أحياناً واقف في المطاف فأرى أنه إن كان قبل أن يصلي فيبتعد ما أمكن، وإن كن جئن بعد الصلاة فإنه يصلي؛ لأنه لا معنى لأن يقطع الصلاة وهو لا يستطيع أن يزيل هذا الخلل.
إذاً إذا صلى الإنسان وبين يديه نساء فأقول: إن كان يستطيع أن يجد مكاناً بأن يتقدم بحيث يمنع قرب النساء منه فإنه يقطع صلاته؛ لأن الصلاة هنا مكروهة، وأما إذا لم يستطع أن يتقدم، مثل أن يكون هناك زحام وقت الطواف، فأقول: إن كان لم يصل بعد فيبتعد ما أمكن، وإن كان قد صلى ولم يستطع أن يبتعد فأنا أقول: يصلي؛ لأنه لا معنى من قطع الصلاة وهو غير قادر على إزالة مثل هذا، فيكمل صلاته خاصة أنه لم يكن هو الذي ابتدأ القرب من النساء، وهذا الإشكال في الفرض أما السنة فبعيد.
ولكن هل الجماعة أولى أو المكان؟
قول: إن كانت جمعة فالجماعة أولى، وإن كان غير جمعة فأقول: إن كان قادراً على إدراك الجماعة ولو فاته بعض الركعات فالأولى المكان؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تقدموا وائتموا بي وليأتم بكم من خلفكم )، وقال العلماء: يستحب للإنسان أن يتقدم إلى الصف الأول، ولو فاتته بعض الصلاة في حضور الصف الأول، يعني: لو أمكنه أن يدرك الركعة الثانية في الصف الثاني، أو الصف الأول قبل أن يكتمل، استحب له أن يذهب إلى الصف الأول ولو فاته بعض الركعات، مما يدل على أن المكان في السنة أولى من حضور ركعة إذا لم تفته الصلاة، والله أعلم.
هذه هي السنة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا تثاءب أحدكم فليكظم ما استطاع، فإذا لم يستطع وضع يده على فيه ولا يقول: هاه، فإن الشيطان يدخل )، وفي رواية: ( فليضع يده على فيه، فإن الشيطان يدخل مع التثاؤب )، كما في الصحيحين، وهذا من الحركة التي يسميها العلماء: حركة لمصلحة الصلاة والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: (ويكره أن يكون حاقناً حال دخوله في الصلاة والحاقن هو المحتبس بوله) أو غائطه، ومثل ذلك الذي يصلي في مكان فيه شدة حر يمنع خشوعه وتأمله في قراءته، وقد استدل العلماء بذلك على الكراهة، وهو قول الأئمة الأربعة في المشهور عندهم، واستدلوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان)، وذهب ابن حزم رحمه الله على ظاهريته إلى أن ذلك محرم يقول: ولو صلى بطلت صلاته على قاعدته في هذا، والذي يظهر أن ذلك على سبيل الكراهة؛ لأن النهي خارج عن ماهية العبادة، والله أعلم.
ولهذا ننصح المسلم إذا كان بين يديه عمل أنه بمجرد أذان المؤذن يشرع في بداية تحضيره للصلاة، حتى يقتطع تفكيره الآني، مثل وقت الدراسة ما يذهب إلا وقت الإقامة تجد باله مشغولاً، فأما إذا ترك الكتاب وأقبل على الوضوء يكون مشغول البال ابتداءً، فإذا جاء وقت الصلاة انقطعت هذه التفكيرات والهواجس.
قال المؤلف رحمه الله: (وسواء خاف فوت الجماعة أم لا)؛ وهذا لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولا تعجلوا عن عشائكم ) (إذا حضر العشاء وحضرت المغرب فابدءوا بعشائكم)، فهذا الذي يظهر والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر