الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أو بحضرة طعام يشتهيه، فتكره صلاته إذاً لما تقدم، وإن خاف فوت الجماعة، وإن ضاق الوقت عن فعل جميعها وجبت في جميع الأحوال وحرم اشتغاله بغيرها.
ويكره أن يخص جبهته بما يسجد عليه؛ لأنه من شعائر الرافضة، ومسح أثر سجوده في الصلاة، ومسح لحيته، وعقص شعره، وكف ثوبه ونحوه، ولو فعلهما لعمل قبل صلاته، ونهى الإمام رجلاً كان إذا سجد جمع ثوبه بيده اليسرى، ونقل ابن القاسم يكره أن يشمر ثيابه لقوله عليه السلام: ( ترب ترب )، ويكره تكرار الفاتحة؛ لأنه لم ينقل، ولا يكره جمع سور في صلاة فرض كنفل، لما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في ركعة من قيامه بالبقرة وآل عمران والنساء ].
يعني: لا يصلي الإنسان، وهو بحضرة طعام يشتهيه حتى يقضي نهمته منه، وعلى هذا فتكره صلاته لو ذهب ولم يقض حاجته من الطعام، واستدل العلماء بهذا كما في الصحيحين من حديث ابن عمر : ( إذا حضر العشاء وحضرت الصلاة فابدءوا بعشائكم )، وفي رواية: ( ولا تعجلوا عن عشائكم )، يعني: لا تأكلوه أكلاً بحيث يضركم، أو لا تنهون نهمتكم منه.
والعلماء رحمهم الله اشترطوا لذلك شروطاً:
الشرط الأول: قالوا: أن يكون الطعام حاضراً، فإن كان الطعام غير حاضر مما يؤدي إلى أنه لو صلى وانتهت الصلاة أو قريباً من ذلك حضر الطعام، فإنه لا يترك الجماعة، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا حضر العشاء وحضرت الصلاة )، فدل ذلك على أن العشاء حاضر.
ومن الحضور أن يأتي شيئاً فشيئاً، مثل أكل الشوي يأتي تباعاً، فيأكل منه حتى يقضي حاجته منه، ولهذا جاء عند ابن أبي شيبة أن أبا هريرة و ابن عباس رضي الله عنهما كانا يأكلان طعاماً وفي التنور شواء، فأراد المؤذن أن يؤذن، فقال ابن عباس رضي الله عنه: لا تعجل، لا نقوم وفي أنفسنا منه شيء، وهذا يدل على أن الأكل إذا كان يأتي تباعاً فهو بمثابة الطعام الحاضر.
الشرط الثاني: أن تتوق نفسه إليه، ولهذا قال: (إذا حضر الطعام)، ومعنى الطعام أي: الطعام المعهود له أكله، فلو كان طعاماً لا يشتهيه، ولا تتوق نفسه إليه، فهذا ليس بطعام، مثل بعض المرق إذا قدم قبل الأكل وهو لا يشتهيه ولا تتوق نفسه إليه، فهذا لا يترك لأجله الصلاة، فلم يحضر الطعام بعد، أو لا تتوق نفسه إليه.
الشرط الثالث: أن يكون قادراً على تناوله، فإن كان غير قادر على تناوله مثل أن يكون الطعام طعام غيره، فلا يجوز أن يعتدي عليه، أو يكون صائماً فلا يكون داخلاً في هذا الحديث، أو ممنوعاً منه طبياً، فهذا كله بمثابة هذا، هذا الذي يظهر، والله أعلم.
ومعنى (قادراً على تناوله): أن يكون الطعام ليس طعام غيره، أو ألا يكون ثمة مانع حسي من أكله، مثل أن يكون ممنوعاً طبياً منه. والله أعلم.
أما قول بعض الفقهاء: الطعام الحار، فالذي يظهر -والله أعلم- أن الطعام الحار هو بمثابة إمكانية شربه أو أكله؛ لأن هذا مما تختلف فيه النفوس، فبعض الناس لا يستطيع أن يشرب الشيء إلا بأشد حرارة، وبعضهم لا يشربه إلا بالبرودة، ثانياً: يمكن أن يبرده بأن يضع تحت هذا الطعام شيئاً كي يبرد.
وأما قولهم: أن يكون قادراً يعني: كالماء، الطعام الحار، الظاهر أن هذا لا يمكن، والمقصود شرعاً في الصائم، وحساً مثل أن يكون الطعام غير طعامه، أو لا يستطيع تناوله من حيث الطب إذا كان به حمية، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (فتكره صلاته إذاً لما تقدم)، يعني: لما مضى أي أنه لا ينبغي أن يصلي وعقله فيه تشويش، ولم تستقر نفسه؛ لأن الشارع يريد من المرء إذا أراد أن يصلي أن يخشع في صلاته.
قال المؤلف رحمه الله: (وإن خاف فوت الجماعة)؛ لحديث ابن عمر : ( إذا أقيمت الصلاة )، وفي رواية: ( وحضر العشاء )، ولو فاتته الجماعة.
وعلى هذا فالراجح أنه يجوز له ترك الجماعة، لكنه إذا خاف خروج الوقت، أو خروج بعض الأركان عن الوقت وجب عليه أداء الصلاة، والله أعلم.
ولو قال قائل: ما دليل ذلك؟ قلنا: إذا أوجبنا عليه أن يؤدي الصلاة مع ترك بعض الأركان، أو بعض الواجبات فلأن نوجب عليه فعل المكروه من باب أحرى وأولى فإذا لم يكن له ماء أوجبنا عليه أن يتيمم، مع أن الماء موجود حساً، لكنه غير موجود حال الوقت، فإذا أوجبنا عليه ترك الشرط مع إمكان توفره بعد الوقت دل ذلك على أن مراعاة الوقت أولى وأحرى.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (وحرم اشتغاله بغيرها) لتعين الوقت إذاً.
ذهب الحنابلة و مالك رحمه الله إلى أنه يكره للإنسان أن يمسح أثر السجود أو الرمل الذي على جبهته وأنفه حال الصلاة، وجاء في ذلك أحاديث لما روى ابن ماجه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أربع من الجفاء ) أو: ( إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل الفراغ من صلاته )، وروي عن ابن مسعود كما رواه ابن أبي شيبة : ( أن يمسح الرجل جبهته قبل أن ينصرف )، ولعل من الحكمة في ذلك أن هذا أثر من آثار العبادة، ولا ينبغي للمرء أن يزيلها، أو أن يقال: إن هذا نوع من العبث وكثرة الاشتغال، أما إذا كثر التراب بحيث يضره أو يشغله، فإنه لا بأس أن يمسحه، كما ذهب إلى ذلك الحنابلة والمالكية.
وأما الشافعية فإنهم يرون أنه لا بأس بالإزالة، وإن كان الأفضل الترك لعدم ورود ما يدل على ذلك، وحديث ابن ماجه الذي مر معنا تكلم فيه بعض الحفاظ، وذكروا أنه إلى الضعف أقرب: (إن من الجفاء أن يكثر الرجل مسح جبهته قبل أن يفرغ من صلاته)، ولكننا نقول: إن الشارع نهى أن يمسح الرجل مكان جبهته، وهو في الصلاة، وقال صلى الله عليه وسلم: (إن كان ولا بد فواحدة)، كما في حديث معيقيب (أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن مسح الأرض، فقال: إن كنت ولا بد فاعلاً فواحدة).
والعلماء رحمهم الله ذكروا أن هذا من باب الاشتغال بما ليس من الصلاة، ولا من مصلحتها، وقال بعضهم: لأجل أن المرء يسجد على أعضائه، والحصيات يتنافسن على سجود المرء، كما جاء في بعض كلام أهل العلم، وإذا كان كذلك فإنه لا ينبغي للمرء أن يمسح جبهته، أما الكراهة فهي حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي، ولهذا نقول: الأولى أن نقول: هذا خلاف الأولى؛ لأننا نقول دائماً: إطلاق الكراهة لا بد فيه من دليل؛ لأن الكراهة مقتضى خطاب الشارع المتعلق بأفعال المكلفين على طلب الترك لا على سبيل الجزم، وليس ثمة خطاب فنقول: الأولى تركه، أو خلاف الأولى.
وأما عقص شعره، فالعقص هو إدخال أطرافه في أصوله، وليه، مثل أن يضع الرجل ضفائر ويلفها على رأسه أو يربطها أو يدخل بعضها على بعض، فهذا هو المقصود بعقص الشعر، وقد جاء في صحيح مسلم من حديث ابن عباس ( أنه رأى رجلاً يصلي وهو معقوص الشعر، قال: فحله، فلما سلم الرجل قال لـ
قال المؤلف رحمه الله: (ولو فعلهما قبل صلاته)، مثل الحرثية الذين يربطون الثوب لأجل العمل، فإذا انتهوا من العمل نقول لهم: يستحب لكم أن تزيلوا هذه الأربطة التي على الثوب؛ لأن فعلكم لها قبل الصلاة لحاجة، فإذا حانت الصلاة زالت الحاجة، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ونهى الإمام رجلاً كان إذا سجد جمع ثوبه بيده اليسرى)، يقصد بذلك الإمام أحمد ، مثلاً إذا أراد أحدنا أن يسجد فإنه يجمع ثوبه ويرفعه ويسجد، أو أن يكون ثوبه واسعاً فتجده يضمه فيما بينه، وهذا إذا كان لبسه أو طريقة اللبس على غير التجميع، وأما العباءة أو المشلح فإن هيئة اللبس هو أخذ أطراف الأكمام بحيث تنقبض مع اليدين، ولو أرسلها لكان في ذلك أذية على من عن يمينه وشماله، فلهذا كان المقصود بذلك ما كان يلبسه على هيئته فلا يسمى كفتاً، والذي يظهر -والله أعلم- مثل الغترة، فالغترة لو صلى ثم أثناء الصلاة رفع أطرف الغترة إلى أعلاه، أو إلى كتفيه، فلا يسمى هذا كفتاً؛ لأن هذا هو لبسه المعتاد، فكما أن العمامة يجوز كفتها؛ لأنه لبسها المعتاد، فكذلك الغترة، فهو لبسها المعتاد، وذهب شيخنا عبد العزيز بن باز إلى أن الأولى إذا أراد أن يصلي أن يسدل أطراف غترته، وشيخنا محمد بن عثيمين يقول: إن دخل في الصلاة وقد رفعه يبقيه على الرفع، وإن دخل في الصلاة وقد سدله يبقيه على السدل، وهذا حسن، ولكننا نقول: الأولى أن كل ذلك جائز، لكن لا يكون ذلك على سبيل العبث مرة يسدل، ومرة يرفع، ومرة يرفع، ومرة يسدل، هذا كله مشغلة لصلاته، ومشغلة لمن بجانبه، فقد ذكرنا أن من التروح المنهي عنه أن يأخذ بأطراف غترته ثم ينفضهما لاستجلاب الهواء، وقلنا: إن هذا مكروه، مثل التروح إذا كان كثيراً.
والتشمير هو الرفع، وجاء ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حلة حمراء مشمراً ) كما في حديث أبي جحيفة، فالمقصود بالتشمير هنا هو أن إزاره كان قصيراً، وليس المقصود أن يرفع الثوب ويجمعه في الوسط، فهذا تشمير، لكنه مؤد إلى مكروه، أما التشمير الذي هو كون الإزار مرفوعاً من أصله فهذا لا بأس به، لحديث عون بن أبي جحيفة عن أبيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في حلة حمراء مشمراً )، والله أعلم.
يعني: يكره قراءة الفاتحة مرة ثانية؛ لأنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك، سواء كان ذلك في الفرض أو في النفل، وهذا مذهب الحنابلة، وذهب بعض الفقهاء كالحنفية وغيرهم إلى أن النهي في الفرض، وأما في النفل فهو داخل في عموم قول الله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ [المزمل:20].
أما إذا كان هناك غرض صحيح لتكرارها مثل أن يكون قد نسي بعض الآيات ولا يعلمها فأعاد الفاتحة كاملة، أو سبحوا به فلا يدري وهو يقرأ الفاتحة فخشي أن يكون قد أسقط بعض كلماتها أو حروفها، فأعادها من الأول، فهذا كله لا بأس به، والله أعلم.
ثم إن تكرار الركن القولي لا تبطل به الصلاة، والركن القولي مثل تكبيرة الإحرام، وقراءة الفاتحة والصلاة الإبراهيمية، أو التشهد الأخير على رواية عند الحنابلة؛ لأن الحنابلة المشهور عندهم أنه واجب، والرواية الثانية أنه ركن كما هو اختيار محمد بن عبد الوهاب رحمة الله تعالى عليه، والذي يظهر -والله أعلم- أن التكرار القولي مكروه، مثل أن يقول: الله أكبر الله أكبر، هذا عبث، وأحياناً يكون فيه نوع من الوسوسة.
هذا فضل الفقه على الاهتمام بشروح الأحاديث فقط، فالذين يقرءون كتب الفقهاء تكون عندهم ملكة في الاستنباط، وملكة في التأمل، وملكة في تفريعات المسائل، وهذا منها، ولو أردنا أن نشرح مسائل المؤلف التي ذكرها لطال بنا المقام، ولعلنا نذكر أهم مسألة لنرجئ الباقي إلى درس سابق.
قول المؤلف رحمه الله: (آدمياً) إشارة إلى أن المقصود هو منع من يمر بين يديه، وقد جاء عند أبي داود وصححه الألباني وسكت عنه أبو داود : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي يوماً إلى جدار، فجاءت بهمة تريد أن تمر بين يديه، فما زال عليه الصلاة والسلام هو وإياها حتى ألصق جسده بالجدار فمرت من خلفه)، فهذا يدل على أن الإنسان يمنع من يمر بين يديه، ولو كان غير عاقل، وتخطئ كثير من النساء حينما تصلي وتدع ابنها يمر أمامها وعن يمينها وعن شمالها، وهذا لا ينبغي، فتعود طفلها ألا يمر؛ لأن هذا مشغلة، وقد كان صلى الله عليه وسلم يمنع حتى البهائم أن تمر، وقد جاء عند أبي داود : ( أنه كان يصلي يومئذٍ إلى سترة، فجاء غلام يريد أن يمر، فمنعه، فمر من خلفه عليه الصلاة والسلام، ثم جاءت جارية صغيرة لتمر بين يديه فمنعها، فدفعت يده ومرت، فلما سلم عليه الصلاة والسلام، فقال: هن أغلب، هن أغلب، هن أغلب )، وهذا الحديث إلى الضعف أقرب، ففي سنده ضعف، ويستأنس به في مواطنه.
هذا الذي يظهر، والله أعلم، فإن الصحابة رضي الله عنهم فهموا من الحديث النفل والفرض، ولهذا في قصة أبي سعيد أنه كان في نفل عندما دفع الغلام، والله أعلم.
يعني: الإنسان يمر بين الرجل وبين السترة، وأما إذا لم تكن بين يديه سترة، يقول المؤلف: فمر قريباً منه، الذي يظهر، والله أعلم، وكلام الأصحاب في هذا كثير أنه إذا لم يكن بين يديه سترة، فله أن يمنع المار أن يمر بين يديه في ثلاثة أذرع فقط، وما عدا ذلك فلا بأس، وعلى هذا فالذين يأتون في الصفوف الأول، وهم قد خرجوا يريدون الخروج من المسجد والناس يقضون صلاتهم فإن حقهم ثلاثة أذرع، وأما الابتعاد المبالغ فيه فهذا ليس له وجه، والله أعلم.
فعلى هذا إذا وجدت سترة فحق المصلي ثلاثة أذرع، لما روى ابن عمر قال: (وسألت
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: نعم، إذا لم تكن عنده سترة يجب أن يمنع ما كان مقدار ثلاثة أذرع، نفصل إن شاء الله في هذا.
الجواب: أنا أردت أن أذكر هذا في الدرس القادم، وأعيد المسألة؛ لكنك سألتني، إذا كان الإنسان قد وضع سترة أكثر من ثلاثة أذرع مثل أن تكون خمسة أذرع، فهل يمر بين يديه أم لا؟ بعض العلماء قال: لا يمر؛ لأن هذا أصبح حريمه.
القول الثاني وهو الظاهر: وضع السترة في أكثر من ثلاثة أذرع إن كان للمار مندوحة ألا يمر مثل أن يكون هناك أمكنة كثيرة، فهذا لا ينبغي أن يمر، وإن كان ليس له مندوحة، أو أن المكان ضيق، فليس للمصلي حق بأن يجعل سترته أكثر من ثلاثة أذرع، وعلى هذا فلا يسوغ له أن يمنع، ولكن المار إذا أراد أن يمر لا يمر في مسافة ثلاثة أذرع، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر