الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ سنة الوتر وأقله ركعة؛ واحدة لقوله عليه الصلاة والسلام: ( الوتر ركعة من آخر الليل ) رواه مسلم ، ولا يكره الوتر بها لثبوته عن عشرة من الصحابة منهم أبو بكر و عمر و عثمان و عائشة رضي الله عنهم.
وأكثره أي: أكثر الوتر إحدى عشرة ركعة يصليها مثنى مثنى، أي: يسلم من كل ثنتين، ويوتر بواحدة؛ لقول عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالليل إحدى عشرة ركعة يوتر منها بواحدة )، وفي لفظ: ( يسلم بين كل ركعتين ويوتر بواحدة )، هذا هو الأفضل.
وله أن يسرد عشراً ثم يجلس فيتشهد ولا يسلم ثم يأتي بالركعة الأخيرة ويتشهد ويسلم، وإن أوتر بخمس أو سبع سردها ولم يجلس إلا في آخرها؛ لقول أم سلمة : ( كان رسول الله صلى الله وعليه وآله وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام ) رواه أحمد و مسلم وإن أوتر بتسع يسرد ثماني ثم يجلس عقب الركعة الثامنة ويتشهد التشهد الأول، ولا يسلم ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم؛ لقول عائشة ، ويصلي تسع ركعات لا يجلس فيها إلا في الثامنة، ويذكر الله ويحمده ويدعوه وينهض ولا يسلم ثم يقوم فيصلي التاسعة، ثم يقعد فيذكر الله ويحمده ويدعوه ثم يسلم تسليماً يسمعناه ].
واستدل من قال بأن أقل الوتر ركعة بقوله صلى الله عليه وسلم: ( الوتر ركعة من آخر الليل )، ولما رواه أبو داود وغيره من حديث أبي أيوب أنه قال: قال صلى الله عليه وسلم: ( الوتر حق، فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل، ومن أحب أن يوتر بركعة فليفعل )، ولكن هذا الحديث اختلف الحفاظ فيه، فصححه مرفوعاً بعض المتأخرين، والصواب أنه موقوف كما رجح ذلك أبو حاتم و الذهلي و النسائي و الدارقطني وغيرهم.
مما يدل على جوازه أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة توتر له ما قد صلى )، فهذا يفيد بدلالة الإيماء على جواز الوتر بركعة، وإن كان ليس ظاهراً. واستدل المؤلف على ذلك بفعل الصحابة، حيث قال: فإنه ثبت عن عشرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا يوترون بركعة، ولم يصح عن أبي بكر ولا عن عمر ، وإنما صح عن عثمان و معاوية وصدقه ابن عباس ، وصح عن ابن عمر و سعد بن أبي وقاص ، فإن ابن عمر حينما سئل، فقال: صل ركعة، فإنهم يقولون: إنها البتيراء، قال: ليست تلك بالبتيراء، ولكن البتيراء أن تصلي ركعة تتم ركوعها، وتطيل القيام فيها، ثم تصلي ركعة تخفف فيها، فكانت هذه أي: الركعة الثانية هي البتيراء، كما روى البيهقي وغيره.
يعني: على القول بأنها واحدة، لا يكره بأن يوتر بواحدة، هذا المذهب، وإن كان نقل عن مالك و أحمد ، بل قال ابن رجب في فتح الباري: وأكثر الروايات عن أحمد الكراهية، وذهبوا إلى أنه مع جواز الركعة إلا أن ذلك يكره، واستثنوا من ذلك ما لو استيقظ الإنسان لصلاة الفجر قريباً من طلوع الشمس، ولا يمكن أن يدرك إلا مقدار ركعة، قالوا: يصلي ركعة، فإن أدرك أكثر من ذلك صلى ثلاث ركعات مع صلاة الفرض، ويرون أن الوتر آكد من سنة الفجر، والأولى بالإنسان ألا يوتر بركعة، فلا بد أن يصلي معها ركعتين، فإن أحمد رحمه الله قال: إنما جاء الوتر بركعة بعد تطوع مثنى؛ لما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة )، وفي لفظ مسلم : ( صلِّ ركعتين ركعتين، فإذا خشيت الصبح سجدت سجدة واحدة )، يعني: صليت ركعة واحدة.
وذهب بعضهم إلى أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة، لما جاء في حديث ابن عباس كما في الصحيحين قال: ( ثم قام فصلى ركعتين ركعتين ركعتين ركعتين ركعتين ركعتين، ثم أوتر بركعة )، وهذا يفيد على أنه كان يصلي ثلاث عشرة ركعة.
وجاء في حديث عائشة أنه صلى ثلاث عشرة ركعة، إلا أنهم اختلفوا في حديث عائشة ثلاث عشرة ركعة، ما هاتان الركعتان الأخيرتان؟ هل هما من الركعتين التي يفتتح بهما النبي صلى الله عليه وسلم صلاته؟ فإن عائشة روت في صحيح مسلم : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يستفتح صلاة الليل بركعتين خفيفتين )، هل كانت عائشة تعد هذا من إحدى عشرة؟ المعروف أنها لم تكن تعدها؛ لأنها قالت: ( يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن )، وقال بعضهم: إن هاتين الركعتين التي جاءت في حديث عائشة ثلاث عشرة ركعة هي الركعتان اللتان كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليهما بعد ما يوتر، كما جاء ذلك مرة تسع، ومرة إحدى عشرة، قالت عائشة في صحيح مسلم : ( كنا نعد له سواكه وطهوره، فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، فيدعو الله ويذكره ويحمده، ثم يقوم، فيجلس فيسلم، ثم يصلي ركعتين خفيفتين وهو قاعد )، فكذلك يصنع ذلك إذا صلى إحدى عشرة ركعة، وقال بعضهم: إنها المقصود الركعتين اللتين بعد الحادية عشر هي ركعتي الفجر، كما ذكر ذلك ابن نصر في تعظيم قدر الصلاة، والحافظ ابن حجر في فتح الباري وغيرهم.
والذي يظهر والله أعلم على أنه لا حد لصلاة الليل، بل نقل أبو عمر بن عبد البر الإجماع على ذلك، على أنه لا حد لصلاة قيام الليل، قد نقله جمع من العلماء إجماعاً أنه لا حد لأكثره، فللإنسان أن يصلي مثنى مثنى مثنى متى ما شاء، ونص الإمام الشافعي ، وكذلك ذكر الإمام العراقي في طرح التثريب وغيرهم على أنه لا حد لأكثره، إلا أن الأفضل أن يصنع كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ذكر ابن تيمية : أن من صلى مثل صلاة النبي فهو أفضل، بأن يصلي إحدى عشرة ركعة يطيل فيهن القيام والركوع والسجود، فإن كان يخفف مثل صلاة الناس اليوم في التراويح، فإن مذهب جمهور الفقهاء ألا ينقص عن ثلاث وعشرين ركعة هذا ذكره ابن تيمية و أبو عمر بن عبد البر وغيرهم و العراقي أن هذا مذهب جمهور الفقهاء على أنه لا ينبغي له أن ينقص عن ثلاث وعشرين ركعة، وبهذا تعرف أخي أن شدة تمسك بعضهم؛ بأن الزيادة على إحدى عشرة ركعة، أو ثلاث عشرة ركعة بدعة قول محدث، وإن وجد وجهاً عند الحنابلة فإن القول بأنه بدعة قول محدث؛ لأنه مخالف لقوله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، وأما فعله عليه الصلاة والسلام، فإنه لا يدل على البدعية؛ لأنه إذا تعارض القول مع الفعل، فالمقدم القول.
الثاني: أن فعله عليه الصلاة والسلام يجب أن يكون كماً وكيفاً، لا كماً دون الكيف، والكم أنه كان يقوم حتى تتفطر قدماه! ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله، ولعله من أحسن الأقوال يقول: العبرة بكثرة الطاعة والعبادة، فمن أطال القيام وخفف الركوع كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، ومن خفف القيام وأكثر الركوع فهذا أفضل، وأما إذا تساويا كيفاً ولم يتساويا عدداً، كل واحد صار له ساعة، أيهما أفضل فيهما؟ العدد، عدد الركعات؛ لأن هذا أكثر الركوع والسجود؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث ربيعة بن كعب : ( فأعني على نفسك بكثرة السجود )، وقال في حديث أبي ذر : ( فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة، وحط عنك بها خطيئة )، وهذا يدل على كثرة السجود، وأما إذا أطال القيام كحال النبي صلى الله عليه وسلم فهو أفضل، والباب في هذا يطول، والمؤلف إنما قال: (أكثره) أي: أكثر الكمال الوارد.
القول الثاني: هو مذهب جمهور الفقهاء، وجمهور أهل الحديث، وهو الذي نص عليه أحمد رحمه الله على أن السنة أن يصلي ركعتين ركعتين، لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم : ( إذا صليت من الليل فصل ركعتين ركعتين، فإذا خشيت الصبح سجدت سجدة واحدة )، هذا على سبيل الأفضلية، وإن كان يجوز أكثر من ذلك؛ لأنه صح من حديث سعيد عن قتادة عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، فيدعو الله ويحمده ويدعوه، ثم يقوم )، فهذا يخالف ظاهر حديث: ( صلاة الليل مثنى مثنى ).
إذاً فقوله: ( صلاة الليل مثنى مثنى ) يدل على الاستحباب، تأييداً للقول الأول الذين قالوا: إن صلاة الليل مثنى مثنى على الاستحباب، ولحديث عائشة عند مسلم : ( في كل ركعتين التحية )، وإن زاد فصلى أربعاً أربعاً جاز ذلك، أو أوتر بخمس لا يجلس إلا في الأخيرة، أو سبعاً لا يجلس إلا في الأخيرة، أو تسعاً لا يجلس إلا في الثامنة ثم يقوم، كل ذلك جائز، والصحيح أنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعضهم إلى استحباب أن يصلي أربع ركعات لا يجلس إلا في الأخيرة، ثم أربع ركعات لا يجلس إلا في الأخيرة، ثم ثلاث ركعات لا يجلس إلا في الأخيرة، استدلالاً بحديث عائشة : ( يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن )، ولكن هذا الحديث ليس بظاهر؛ وذلك لأن عائشة هي التي روت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الركعتين والركعة في الوتر، فهذا يدل على أنها قصدت بذلك طول القيام والركوع والسجود في تسليمتين، وطول القيام والركوع في تسليمتين وهن أقل من اللتين سبقتا.
وهذا القول محل نظر، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة أن يصلي ركعتين ركعتين، فإن صلى أربعاً جاز، ولكن الأولى تركه، وإن أوتر بخمس أو ثلاث بسلام واحد، أو سبع كل ذلك جائز، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتخطئة الراوي محل تأمل، إلا إذا وجدت قرائن تدل على ذلك، و مسلم روى هذا الحديث في صحيحه، واعتمده على أنه صحيح، وليس فيه ما يدل على الوهم: ( يصلي إحدى عشرة ركعة لا يجلس إلا في آخرهن ).
وعلى هذا فلو قام الإنسان إلى ثالثة من صلاة الليل كما يصنع الأئمة في صلاة التراويح، فإن قلنا على المذهب، فإنه يجب عليه أن يجلس، ولو سلم وقالوا له: صليت ثلاث ركعات، فعلى المذهب يجب عليه؟ أن يسجد للسهو، كما لو زاد خامسة من صلاة الظهر.
وعلى القول الثاني وهو مذهب جمهور السلف، وهو رواية أخرى عن أحمد : على أنه لو قام إلى ثالثة، فهو بالخيار، والأفضل أن يجلس، فإن استمر وصلى ثلاثاً يسبح به، فإذا استمر، فله أن يقوم فيصلي أربعاً، وإذا سلم من ثلاث، ثم قيل له: صليت ثلاثاً، فبعض الأئمة جزاهم الله خيراً يذهبون فيصلون ركعة واحدة، حتى أحياناً يقال لهم: الآن هو في التسليمة من الثالثة يقولون في التسليمة الأولى: صليت ثلاثاً، يقوم فيصلي ركعة، كما أخبرت عن بعضهم، هذا خطأ، لكنك إذا سلمت من ثلاث، فإنه على القول بأنه لا يجوز الزيادة، وعلى القول بأن الأفضل ألا يزيد أنك تسجد للسهو وخلاص، أما إذا قمت إلى الثالثة فتذكرت فلك أن تمضي إلى الرابعة، لكن الأفضل أن تجلس، هذا هو الراجح والله أعلم، وإن صليت أربعاً بسلام واحد جاز، لكن الأفضل تركه والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويوتر بركعة)، هذا هو السنة أن يوتر بركعة، يفصل بين الركعتين والركعة كما رواه الزهري عن هشام عن عروة عن عائشة ، وهذا إسناده صحيح، ولحديث ابن عمر : ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة )، وكان ابن عمر يفصل بين الشفع والركعة، ويدعو بعض حاجته، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صنع ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (يقول: يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، هذا هو الأفضل، وله أن يسرد عشراً، ثم يجلس فيتشهد، ولا يسلم، ثم يأتي بالركعة الأخيرة ويتشهد ويسلم)، هذا المذهب في صفة الجواز في الإيتار، له أن يصلي واحدة، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة لا يجلس إلا في العاشرة، ثم يقوم فيصلي إحدى عشرة ركعة، هذا جاء عند الحاكم من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة أنه قال: ( لا توتروا بثلاث، لا تشبهوا بالمغرب، أوتروا بخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة ركعة، أو أكثر من ذلك )، هذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، يقول الحافظ ابن رجب : ورفعه فيه نكارة، ولو صح فلا يفيد أن يجلس في العاشرة.
وعلى هذا فالذي أعرفه أنه لم يصح حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوتر بإحدى عشرة ركعة لا يجلس إلا في العاشرة، ولم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه أوتر بإحدى عشرة ركعة كاملة لا يجلس إلا في الأخيرة، إنما المحفوظ تسع، هذا أكثر ما ورد، وإن كان يجوز، لكن الأفضل تركه، هذا هو الراجح، والأولى ألا يصلي إحدى عشرة ركعة بسلام واحد؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، والحديث الوارد فيه في سنده نكارة، ولا يصح مرفوعاً.
وإذا صلى سبعاً جاز سرداً كما رواه مسلم ، تقول عائشة : ( فلما أسن وأخذه اللحم أوتر بسبع، ثم صلى ركعتين مثلما صنع في الأول )، يعني: صلى ركعتين وهو قاعد، وذهب بعضهم إلى أنه يجوز له أن يصلي سبعاً لا يجلس إلا في السادسة، ثم يتشهد، ثم يقوم فيصلي السابعة وتراً، ولا يسلم إلا في السابعة، هذا الفعل جاء فيه حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( ثم يصلي سبع ركعات ولا يجلس فيهن إلا عند السادسة، فيجلس ويذكر الله ويدعوه )، هذا الحديث أخرجه الإمام أحمد و ابن حبان ، وهذه اللفظة: أنه لا يجلس إلا في السادسة منكر؛ وذلك لأن قتادة رواه عن سعد بن هشام عن عائشة كما عند مسلم أنه يصليها سرداً بسلام واحد، ومن المعلوم أن حديث قتادة هذا اختلف الرواة فيه، وأوثق من رواه سعيد بن أبي عروبة عن قتادة كما رواه مسلم ، وأن أبان رواه عن قتادة فأخطأ، ورواه غيره فأخطأ، وهذا مما أخطأ فيه الراوي حينما ذكر السابعة مثلما ذكر التاسعة، ولهذا نص الإمام أحمد قال: لا يجلس في السابعة إلا في آخرهن.
وأما الحديث الذي ذكره المؤلف حديث أم سلمة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بسبع وبخمس لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام )، قال المؤلف: رواه أحمد و مسلم ، ولم يروه مسلم رحمه الله، ولعل هذا وهم من المؤلف، فإن الحديث يرويه الحكم بن عتيبة عن مقسم مولى ابن عباس عن أم سلمة ، وقال البخاري : لا يعرف سماع مقسم من أم سلمة ، ولا من عائشة ، ولا من ميمونة ، لكنه أصح ما جاء سبعاً عند مسلم ( فلما أسن وأخذه اللحم ) وخمساً لما روى مسلم من حديث عائشة أنها قالت: ( كان يصلي ثلاث عشرة ركعة يوتر من ذلك بخمس لا يجلس في شيء إلا في آخرها ).
وإن أوتر بتسع يسرد ثمانياً، ثم يجلس عقب الركعة الثامنة ويتشهد التشهد الأول ولا يسلم، ثم يصلي التاسعة ويتشهد ويسلم، هذا رواه مسلم في صحيحه كما مر معنا، تقول عائشة : ( فيصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة فيذكر الله ويدعوه ويحمده، ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يقعد فيسلم، ثم يصلي ركعتين وهو قاعد، فتلك إحدى عشرة ركعة يا بني )، ولهذا ذكر المؤلف لفظ عائشة ، والله أعلم.
قول المؤلف: (أدنى الكمال في الوتر ثلاث ركعات بسلامين)، يعني: يصلي ركعتين ثم يسلم، ثم يصلي ركعة، هذا هو الأفضل؛ لما جاء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( صلاة الليل مثنى مثنى فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة )، ولما رواه ابن حبان وغيره من حديث ابن عمر أنه كان يفصل بين شفعه ووتره بتسليمة، ويخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك، أنه كان يفصل بين شفعه ووتره؛ ولأن ذلك أكثر عملاً، ويجوز أن يسردها بسلام واحد؛ لما روى أبو أيوب : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوتر بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1] و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] )، وهذا الحديث إنما أنكره الإمام أحمد و أبو داود بزيادة: ويقنت قبل الركوع، فإنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قنت في الوتر، فهذه اللفظة هي التي أنكرها أحمد ، وإلا فإنه جاز أن يوتر بثلاث ركعات بسلام واحد، وقد كان أبو أيوب يقول: فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل.
وأما حديث عائشة : ( كان يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن )، فقد أخرجه مالك ، وهذا مما أخطأ فيه أبان عن قتادة ، وإلا فإن مسلماً رواه من غير هذا اللفظ، وعلى هذا فحديث عائشة ( لا يقعد إلا في آخرهن ) حديث ضعيف، و أبان أخطأ في ذلك، كما ضعف هذه الرواية الإمام أحمد ، والحافظ ابن رجب رحمهم الله، وقالوا: إن هذه مختصرة من حديث مسلم الطويل.
أما أن يقرأ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] فلحديث أبي بن كعب عند أبي داود والإمام أحمد : ( كان يوتر بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، و قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، وقل هو الله أحد )، وهذا الحديث إسناده جيد، لكن زيادة: ويقنت قبل الركوع منكرة.
لكن هل له أن يوتر بثلاث كهيئة المغرب بأن يصلي ركعتين فيجلس للتشهد الأول، ثم يقوم فيصلي ركعة واحدة؟ استحب ذلك أبو حنيفة ، ورأى أن ذلك أفضل، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه كما رواه البيهقي أنه كان يصنع ذلك، وقال: الوتر ثلاث كوتر النهار المغرب، فهذا يدل على أن عبد الله بن مسعود يرى ذلك، وذهب بعضهم إلى كراهية أن يجعلها كالمغرب، واستدلوا بحديث أبي هريرة : ( لا توتروا بثلاث، لا تشبهوا بالمغرب )، والحديث ضعيف لا يصح مرفوعاً، والصواب وقفه على أبي هريرة ، والذي يظهر كما هو مذهب أحمد رحمه الله أنه يجوز أن يصلي ثلاث ركعات بسلامين أو بسلام واحد في تشهدين كل ذلك جائز، والأفضل على الترتيب سلامين، سلام واحد بجلوس وتشهد واحد، وسلام واحد بتشهدين، كل ذلك جائز، وفعل الصحابة يدل على الجواز والله أعلم.
وأما حديث أن النبي صلى الله عليه وسلم علم الحسن دعاء يدعو فيه في القنوت: ( اللهم اهدني فيمن هديت، وعافني فيمن عافيت .. ) الحديث فالصحيح أن هذه اللفظة (في القنوت) ضعفها ابن خزيمة ، وذلك لأن أحد الرواة وهو خالد بن معدان تفرد بها عن أبي الحوراء عن الحسن ، وأشار إلى ذلك الدارقطني وهو الصحيح.
وأما ما يستدل به بعضهم من حديث علي أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقول في آخر وتره: ( اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناءً عليك ) فهل هذا يستدل به؟ الغريب إني أسمع هذا كثيراً عند بعض العلماء، هذا يقول في وتره، والوتر شيء والقنوت شيء آخر، فإنه يقول في وتره إذا سجد، في آخر الوتر، أو التشهد الأخير ويسلم، وهو مع ذلك فيه ضعف، وذلك لأن الحديث فيه انقطاع، والله أعلم.
جاء القنوت في الوتر عن الصحابة كما نقل عن عمر أن الناس كانوا في عهده يقنتون بعد منتصف رمضان، وكان ابن مسعود يقنت الدهر، أي: السنة كلها، وكان بعض السلف لا يقنت البتة، وكل ذلك حسن كما قال ابن تيمية : فمن أحب أن يقنت فحسن، ومن أحب أن يترك فحسن، ومن أحب أن يقنت في رمضان فحسن، إلا أنه خاصة في رمضان ينبغي أن يتركها أحياناً حتى لا تتعلق قلوب الناس بمثل هذه الأدعية، ويتركون تدبر القرآن وتأمل وعيده ووعده، وإن قيل: ما الدليل؟ قلنا: فعل الصحابة كما قال ابن تيمية رحمه الله، فلا يقال بالسنية.
قال المؤلف رحمه الله: (ويقنت منها بعد الركوع)، هذا هو المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يقنت إلا بعد الركوع، نقول: إنه لم يقنت في الصلاة إلا بعد الركوع في قنوت النازلة، ولهذا قال الإمام أحمد : يقنت بعد الركوع ويرفع يديه، وذلك على قياس فعل النبي صلى الله عليه وسلم في الغداة، يعني: في قنوت النازلة: ( فإن النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: سمع الله لمن حمده، قال: اللهم أنج
قال المؤلف رحمه الله: [ ندباً لأنه صح عنه صلى الله عليه وآله وسلم من رواية أبي هريرة و أنس و ابن عباس ].
يعني: في قنوت النازلة، كما في حديث ابن عباس ، وحديث أبي هريرة ، وحديث أنس في قنوت النازلة.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر