قال المؤلف رحمه الله: (يصلي مثنى مثنى) هذا هو المذهب على أنه يصلي ركعتين ركعتين، ولا يجوز على المذهب أن يزيد أكثر من ذلك، بل قالوا: ومن قام إلى ثالثة في صلاة الليل فكأنما قام إلى ثالثة في صلاة الفجر، وهذا هو الذي نقله
الأثرم عن
أحمد ، وضعف
الأثرم كل حديث ورد أنه عليه الصلاة والسلام صلى أكثر من ذلك، فضعف
الأثرم حديث
عائشة الذي عند
مسلم : (
يصلي تسع ركعات بسلام واحد )، وضعف حديث
أبي أيوب (
فمن أحب أن يوتر بخمس ) ورأى أنه موقوف، وضعف حديث
عائشة : (
لا يجلس إلا في آخرهن ) عند
مسلم من حديث
هشام بن عروة عن أبيه عن
عائشة ، وقال: إن
هشام إنما حدث به في آخر حياته، وتكلم
البخاري رحمه الله على هذه الأحاديث، أيضاً على حديث
أم سلمة : (
لا يفصل بينهن بسلام ولا كلام ) كما سوف يأتي، وأن
مقسماً لم يسمع من
أم سلمة ، ولم يسمع من
عائشة ولا
ميمونة ، هذا القول الأول.
القول الثاني: هو مذهب جمهور الفقهاء، وجمهور أهل الحديث، وهو الذي نص عليه أحمد رحمه الله على أن السنة أن يصلي ركعتين ركعتين، لقوله صلى الله عليه وسلم في رواية مسلم : ( إذا صليت من الليل فصل ركعتين ركعتين، فإذا خشيت الصبح سجدت سجدة واحدة )، هذا على سبيل الأفضلية، وإن كان يجوز أكثر من ذلك؛ لأنه صح من حديث سعيد عن قتادة عن سعد بن هشام عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كنا نعد له سواكه وطهوره فيبعثه الله ما شاء أن يبعثه، فيصلي تسع ركعات لا يجلس إلا في الثامنة، فيدعو الله ويحمده ويدعوه، ثم يقوم )، فهذا يخالف ظاهر حديث: ( صلاة الليل مثنى مثنى ).
إذاً فقوله: ( صلاة الليل مثنى مثنى ) يدل على الاستحباب، تأييداً للقول الأول الذين قالوا: إن صلاة الليل مثنى مثنى على الاستحباب، ولحديث عائشة عند مسلم : ( في كل ركعتين التحية )، وإن زاد فصلى أربعاً أربعاً جاز ذلك، أو أوتر بخمس لا يجلس إلا في الأخيرة، أو سبعاً لا يجلس إلا في الأخيرة، أو تسعاً لا يجلس إلا في الثامنة ثم يقوم، كل ذلك جائز، والصحيح أنه نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وذهب بعضهم إلى استحباب أن يصلي أربع ركعات لا يجلس إلا في الأخيرة، ثم أربع ركعات لا يجلس إلا في الأخيرة، ثم ثلاث ركعات لا يجلس إلا في الأخيرة، استدلالاً بحديث عائشة : ( يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن، ثم يصلي أربعاً فلا تسأل عن حسنهن وطولهن )، ولكن هذا الحديث ليس بظاهر؛ وذلك لأن عائشة هي التي روت لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفصل بين الركعتين والركعة في الوتر، فهذا يدل على أنها قصدت بذلك طول القيام والركوع والسجود في تسليمتين، وطول القيام والركوع في تسليمتين وهن أقل من اللتين سبقتا.
وهذا القول محل نظر، والمعروف عن النبي صلى الله عليه وسلم أن السنة أن يصلي ركعتين ركعتين، فإن صلى أربعاً جاز، ولكن الأولى تركه، وإن أوتر بخمس أو ثلاث بسلام واحد، أو سبع كل ذلك جائز، فقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتخطئة الراوي محل تأمل، إلا إذا وجدت قرائن تدل على ذلك، و مسلم روى هذا الحديث في صحيحه، واعتمده على أنه صحيح، وليس فيه ما يدل على الوهم: ( يصلي إحدى عشرة ركعة لا يجلس إلا في آخرهن ).
وعلى هذا فلو قام الإنسان إلى ثالثة من صلاة الليل كما يصنع الأئمة في صلاة التراويح، فإن قلنا على المذهب، فإنه يجب عليه أن يجلس، ولو سلم وقالوا له: صليت ثلاث ركعات، فعلى المذهب يجب عليه؟ أن يسجد للسهو، كما لو زاد خامسة من صلاة الظهر.
وعلى القول الثاني وهو مذهب جمهور السلف، وهو رواية أخرى عن أحمد : على أنه لو قام إلى ثالثة، فهو بالخيار، والأفضل أن يجلس، فإن استمر وصلى ثلاثاً يسبح به، فإذا استمر، فله أن يقوم فيصلي أربعاً، وإذا سلم من ثلاث، ثم قيل له: صليت ثلاثاً، فبعض الأئمة جزاهم الله خيراً يذهبون فيصلون ركعة واحدة، حتى أحياناً يقال لهم: الآن هو في التسليمة من الثالثة يقولون في التسليمة الأولى: صليت ثلاثاً، يقوم فيصلي ركعة، كما أخبرت عن بعضهم، هذا خطأ، لكنك إذا سلمت من ثلاث، فإنه على القول بأنه لا يجوز الزيادة، وعلى القول بأن الأفضل ألا يزيد أنك تسجد للسهو وخلاص، أما إذا قمت إلى الثالثة فتذكرت فلك أن تمضي إلى الرابعة، لكن الأفضل أن تجلس، هذا هو الراجح والله أعلم، وإن صليت أربعاً بسلام واحد جاز، لكن الأفضل تركه والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويوتر بركعة)، هذا هو السنة أن يوتر بركعة، يفصل بين الركعتين والركعة كما رواه الزهري عن هشام عن عروة عن عائشة ، وهذا إسناده صحيح، ولحديث ابن عمر : ( فإذا خشي أحدكم الصبح صلى ركعة واحدة )، وكان ابن عمر يفصل بين الشفع والركعة، ويدعو بعض حاجته، ويذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صنع ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: (يقول: يسلم بين كل ركعتين، ويوتر بواحدة، هذا هو الأفضل، وله أن يسرد عشراً، ثم يجلس فيتشهد، ولا يسلم، ثم يأتي بالركعة الأخيرة ويتشهد ويسلم)، هذا المذهب في صفة الجواز في الإيتار، له أن يصلي واحدة، وله أن يصلي إحدى عشرة ركعة لا يجلس إلا في العاشرة، ثم يقوم فيصلي إحدى عشرة ركعة، هذا جاء عند الحاكم من طريق عراك بن مالك عن أبي هريرة أنه قال: ( لا توتروا بثلاث، لا تشبهوا بالمغرب، أوتروا بخمس، أو سبع، أو تسع، أو إحدى عشرة ركعة، أو أكثر من ذلك )، هذا الحديث روي مرفوعاً وموقوفاً، يقول الحافظ ابن رجب : ورفعه فيه نكارة، ولو صح فلا يفيد أن يجلس في العاشرة.
وعلى هذا فالذي أعرفه أنه لم يصح حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يوتر بإحدى عشرة ركعة لا يجلس إلا في العاشرة، ولم يحفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه أوتر بإحدى عشرة ركعة كاملة لا يجلس إلا في الأخيرة، إنما المحفوظ تسع، هذا أكثر ما ورد، وإن كان يجوز، لكن الأفضل تركه، هذا هو الراجح، والأولى ألا يصلي إحدى عشرة ركعة بسلام واحد؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، والحديث الوارد فيه في سنده نكارة، ولا يصح مرفوعاً.