اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ والتراويح سنة مؤكدة، سميت بذلك لأنهم يصلون أربع ركعات ويتروحون ساعة، أي: يستريحون. عشرون ركعة كما روى أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن ابن ابن عباس : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة ) تفعل ركعتين ركعتين في جماعة مع الوتر بالمسجد ].
التراويح جمع ترويحة، وهي: المرة الواحدة من الراحة، كتسليمة من السلام، سميت الصلاة في الجماعة في ليالي رمضان تراويح لأنهم أول ما اجتمعوا كانوا يستريحون بين كل تسليمتين، وقد عقد الإمام ابن نصر في كتابه العظيم قيام الليل بابين لمن استحب التطوع لنفسه بين كل ترويحتين، يعني: يصلي تسليمتين ثم يتطوع لنفسه، وقد كان أهل مكة يصلون تسليمتين ثم يستريحون، فيقوم الناس ويطوفون، فكانوا يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة بين كل تسليمتين ترويحة، فكانوا إذا استراحوا يقومون فيطوفون، وكان أهل المدينة يصلون ثلاثاً وعشرين ركعة، فلما علموا أن أهل مكة بين كل تسليمتين يقومون فيطوفون، وعلموا أنهم ليس عندهم طواف، فجعلوا بدل الترويحة التي بين التسليمتين صلاة أخرى، فكانوا يصلون ستاً وثلاثين ركعة، الله أكبر.
وهذا الأمر قبل الإمام مالك رحمه الله، وقد ذكر الإمام أحمد رحمه الله سبب زيادة أهل المدينة على أهل مكة، وقد ذكر عطاء كما رواه ابن أبي شيبة قال: كانوا يستحبون في صلاة رمضان أن يصلوا ثلاثاً وعشرين ركعة، وهذا دليل على أن هذا أمر معهود منذ عهد الصحابة، وهذا واضح أنه سلف، وقد نقل الإجماع غير واحد من أهل العلم؛ نقله أبو عمر بن عبد البر : وأجمعوا على أنه لا حد لصلاة الليل، ونقله أيضاً العراقي في طرح التثريب، وفي هذا دلالة على أن ما يقوله بعض الفضلاء في هذا العصر: أن ما زاد على إحدى عشرة أو ثلاث عشرة ركعة أنه بدعة، فإن قوله هو الغريب، وهو البدعة، يعني: ما نقول: بدعة شرعية، قوله هو البدعة التي هي بدعة لغوية، ويعد قوله بدعاً من القول؛ لأنه لا يمكن أن يجمع العلماء رحمهم الله على أنه لا حد للزيادة ثم يقال: بأن ما زاد على ذلك بدعة.
ومما يدل على جواز ذلك كما قلنا حديث ابن عمر في الصحيحين: ( صلاة الليل مثنى مثنى )، وفي رواية مسلم : ( إذا صلى أحدكم من الليل فليصل ركعتين ركعتين من غير تحديد، فإذا خشي الصبح سبح سبحة واحدة توتر له ما قد صلى )، هذا لفظ مسلم .
وعلى هذا فالذي يظهر لي والله أعلم أن صلاة الناس اليوم في مساجدهم حسنة، لكن صلاة المسجد الحرام أفضل؛ لأن صلاة المساجد لا تزيد عن ساعة إلا ربع، وصلاة الحرم ساعة ونصف تقريباً، فهذا هو الأفضل، طول القنوت، وكثرة العبادة، فإذا صلى شخص ثلاثاً وعشرين ركعة، وشخص إحدى عشرة ركعة، وزمنهما مختلف، فإن الأفضل إحدى عشرة ركعة؛ لأنه صار قيامه أطول، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث جابر : ( إن أفضل الصلاة طول القنوت )، يعني: طول العبادة وطول القيام.
قال المؤلف رحمه الله: (لما روى أبو بكر عبد العزيز في الشافي عن ابن عباس ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في شهر رمضان عشرين ركعة ) )، هذا حديث لا يصح؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصل بالناس، وقد قالت عائشة رضي الله عنها: ( لم يزد رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة )، و عائشة رضي الله عنها إنما ذكرت وأخبرت ما علمت، وعلى هذا فالحديث الأول ضعيف جداً، وقد ضعف الحديث البيهقي و الخطيب البغدادي وغيرهم، بسبب وجود رجل يقال له: إبراهيم بن عثمان العبسي ، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (تفعل ركعتين ركعتين) نحن قلنا: إن السنة أن يصلي الإنسان ركعتين ركعتين، فلو صلى أربعاً، قلنا: إنه جائز، لكنه مكروه وخلاف السنة، والله أعلم.
وهنا فائدة، إذا فعل الرسول صلى الله عليه وسلم أمراً من الأمور وداوم عليه فإن مداومته عليه الصلاة والسلام تدل على أن خلافه إما التحريم، وإما الكراهة، ولم نقل: التحريم؛ يعني: مثلاً: الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاة الجمعة خطب خطبتين، وجلس بينهما، وداوم على ذلك، هل عند العلماء دليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: لا تصلوا صلاة الجمعة إلا بخطبتين؟ لا، ومع ذلك يشترط الحنابلة والشافعية والمالكية خطبتين؛ لأن هذه المداومة في حكم الوجوب، وأنا أقولها للجميع: يا إخوان! انظر طريقة استدلالات الأئمة، لا نجعل استدلالاتنا عقلية، بل بطريقة استدلالات الأئمة، ولو قرأت لـابن تيمية كثيراً لعرفت كيف يستنبط، وكيف هي طريقة القياس. وإذا طبقت هذه الطريقة بإذن الله سوف توفق وتعان وتسدد.
والذي يظهر والله أعلم أن صلاة التراويح من شعائر رمضان، فإذا أقيمت في المساجد فهو مطلب، وهو المشروع، وهو الأفضل من أن يصلي الناس وحدهم، فعلى هذا فإقامة هذه الشعيرة من سنن الخلفاء الراشدين، ويستحب الاقتداء بهم، فإذا فعلت في المساجد نظرت، فإن كان الإنسان أشرح لقلبه أن يصلي مع الإمام فإن الأفضل في حقه أن يصلي مع الإمام، وإن كان أشرح لقلبه وأكثر عبادة وتهجداً حين يصلي وحده، فإن الأفضل في حقه أن يصلي وحده، والله أعلم، وبهذا التفصيل يكون الجمع.
قول المؤلف: (أول الليل)، قالوا: بسبب أن الصحابة إنما قاموا أول الليل؛ لأن عمر خرج على الناس وهم يصلون بقراءة أبي ، فقال: والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون لها، وفي رواية رواها أبو النصر قال: كنت مع عمر في المسجد فسمع هيعة الناس، فقال: ما هذا؟ قيل: خرجوا من المسجد، وذلك في رمضان، قال: ما بقي من الليل أحب إليّ مما مضى، وهذا دليل على أنهم كانوا يصلون أول الليل، يعني: إنه فعل، وإذا اتفق الجماعة أن يصلوا وسط الليل أو آخر الليل فلا حرج إن شاء الله، لكنه إنما صلى أول الليل لأجل أن يكثر الناس المصلون، فإذا أخرت الصلاة في وسط الليل فربما تكاسل الناس، فلأجل هذا استحب؛ لأنه كلما كان المصلي أكثر صلاة كلما كان ذلك أفضل.
قال المؤلف رحمه الله: (بعد العشاء) لا يجوز ولا يصح أن تصلى صلاة التراويح بعد المغرب؛ لأن ذلك يلزم منه الوتر، وهو خلاف المشروع، ومن المعلوم أن صلاة التطوع جماعة لا بأس، شريطة ألا يكون معتاداً، فإذا اعتاد الناس أن يصلوا صلاة التراويح بعد المغرب من غير وتر فهذا غير مشروع، فأما مع الوتر فإننا قلنا: إنه لا يصح الوتر إلا بعد صلاة العشاء، خلافاً لـمالك و أبي حنيفة .
قال المؤلف رحمه الله: (في رمضان).
يعني: يستحب الصلاة في رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم ثلاث ليال كما في الصحيحين من حديث عائشة ، ومن حديث زيد بن ثابت ، وأما في غير رمضان فإن صلاة التطوع جماعة جائزة إذا لم يعتد الناس عليها، كما ذكر ذلك أبو العباس بن تيمية في كتابه العظيم (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم)، فلو كنا مسافرين، وقلت: أريد أن أصلي بكم صلاة الليل، فقمنا جميعاً لا بأس، أما أن نجعل ذلك عادة فهذا غير مشروع، ولهذا قال الإمام أحمد : لا بأس ما لم يعتادوه.
قال المؤلف رحمه الله: (لما روي في الصحيحين من حديث عائشة : ( أنه صلى الله عليه وسلم صلاها ليالي فصلوها معه، ثم تأخر وصلى في بيته باقي الشهر، وقال: إني خشيت أن تفرض عليكم فتعجزوا عنها ) ) هذا الحديث متفق عليه من حديث عائشة ، وأيضاً من حديث زيد بن ثابت.
قال المؤلف رحمه الله: (وفي البخاري أن عمر جمع الناس على أبي بن كعب فصلى بهم التراويح، وروى أحمد وصححه الترمذي : ( من قام مع إمامه حتى ينصرف كتب له قيام ليلة ) )، هذا الحديث جعل بعض العلماء يفضل الصلاة مع الإمام، يعني: صلاة التراويح مع الإمام أفضل من صلاته وحده لهذا الحديث، لكن يشكل على هذا أن أبا بكر لم يفعل ذلك، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستمر على ذلك، فدل على أن الأفضل ما كان عليه الرسول صلى الله عليه سلم، ثم أبو بكر ، لكن وجود التراويح كما قلنا هو الأفضل، والله أعلم.
المعنى الثاني: أنه إذا كان في الصلاة الواحدة إمامان فإنك لا تنصرف حتى ينتهي الإمام الثاني، مثل الصلاة في المسجد الحرام، فإذا صلى أحد الأئمة خمس تسليمات فإن السنة ألا تنصرف حينما ينتهي هذا الإمام، بل تكمل جميع الصلاة؛ لأن هذين الإمامين في حكم الإمام الواحد؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنه من قام مع إمامه حتى ينصرف ) يعني: ينصرف من الصلاة، والمقصود من الصلاة الصلاة المعهودة، وهي التي اجتمع الناس لأجلها، والصلاة التي اجتمع الناس لأجلها ليست صلاة الإمام الذي صلى بهم وانصرف، هذا هو الأظهر.
إذاً: الأظهر أن المقصود أنه من قام مع إمامه حتى ينصرف، المقصود بانصرافه من الصلاة التي اجتمع الناس لها، والله أعلم.
يعني: أن الأفضل أن يوتر المتهجد بعده، يعني: بعد تهجده؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين: ( من خاف ألا يقوم آخر الليل فليوتر أوله، ومن طمع أن يقوم آخر الليل فليوتر آخره، فإن صلاة آخر الليل مشهودة )، والمتهجد: هو الذي يقوم من آخر الليل، وذهب بعضهم أن التهجد لا يكون إلا بعد نوم، كما هو في الناشئة، لقوله تعالى: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ [المزمل:6] وهو قول عائشة ، ويروى عن ابن عباس : هو القيام بعد النوم، والأقرب أن هذا لا يلزم.
السنة أنه ( لا وتران في ليلة )، كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث معقل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا وتران في ليلة )، فلا يجوز على سبيل الاعتياد، ولا يسوغ أن يوتر مرتين، بأن يوتر ثم يقوم فيصلي ركعة، ثم يصلي ركعتين ثم يوتر، كما يروى عن ابن عمر : السنة هو أن يصلي بعد وتره إن رغب ركعتين ركعتين ركعتين؛ لأن أبا بكر رضي الله عنه كان يوتر قبل أن ينام، فإن قام صلى ركعتين ركعتين، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بهذا، فقال: ( أما هذا فقد أخذ بالحزم )، ولهذا قال المؤلف: فإن قام من الليل بعد ذلك شفعها بركعة، يقول: (وإن شفعه بركعة، أي: ضم لوتره الذي تبع إمامه فيه ركعة جاز)، إنما قال العلماء: جاز لأن ابن عمر كان يصنع ذلك، وقد قلنا: إن الصحابة إذا فعلوا أمراً لا يدل ذلك على البدعية، ولكن السنة عدمه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا وتران في ليلة ).
قال المؤلف رحمه الله: (وتحصل له فضيلة متابعة إمامه، وجعل وتره آخر صلاته). يعني: أنه لو صلى مع الإمام، ثم أوتر الإمام، فلو قام وأتى بركعة ولم يوتر إلا آخر الليل، فإنه يدرك أنه قد صلى مع إمامه حتى ينصرف، فلا يلزم متابعته في السلام، وهذا -كما قلت- في حق من كان لا يعرفه الناس، أما الذي يعرفه الناس فيخشى أن يكون ذلك رياء، والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر