الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم فقهنا في الدين، وعلمنا التأويل يا رب العالمين، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ (وهما) أي ركعتا الفجر (آكدهما) أي أفضل الرواتب؛ لقول عائشة رضي الله عنها: ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر ) متفق عليه، فيخير فيما عداهما، وعدا الوتر سفراً ].
أولاً: لأنه جاء فيها من الفضل ما لم يأتِ لغيرها، فقد روى مسلم في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها ).
ثانياً: لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على شيء أشد تعاهداً من ركعتي الفجر، فلذا صارت ركعتا الفجر آكد هذه الرواتب، ولهذا قال المؤلف مستدلاً بقول عائشة : ( لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر )، متفق عليه.
وذهب أبو حنيفة و الشافعي إلى أنه يستحب له فعل السنن الرواتب في السفر، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم، وهو مذهب ابن عمر على أن السنة الترك، والفعل جائز، لما روى البخاري و مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( لو كنت مسبحاً يعني: متطوعاً لأتممت صلاتي )، يعني: لو كان التسبيح فيه فضيلة لكان إكمال الفرض أولى من التطوع، هذا المعنى الأول، لأن قوله: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) يحتمل ثلاثة معان:
المعنى الأول: لو كنت أردت أن أصلي النوافل لكان إكمال الفرض أولى من فعل النفل، لما جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة في الحديث القدسي: ( وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه )، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: أن قوله: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي)، يعني: أن التسبيح لا يكون إلا بالإتمام، يعني: لو أردت أن أسبح لأتممت الصلاة، وأما إذا أنقصت الصلاة يعني: قصرت، فإني لا أسبح، هذا المعنى الثاني.
إذاً: المعنى الأول، لو كنت أردت أن أتقرب إلى الله لتقربت إليه بإتمام الفرض، وتركت النافلة.
كأنه يقول: إذا كانت المسألة مسألة قياس، فإن فعل الفرض أولى من فعل النفل، ولهذا قال في الحديث القدسي: ( وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه )، فيقول: إكمال الفرض أولى من فعل السنة، هذا المعنى الأول.
والمعنى الثاني: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي، يعني: لو أردت أن أتطوع بالسنن الرواتب لأتممت الصلاة، فكأن الإتمام مربوط بفعل السنن الرواتب، والنقص مربوط بالترك، هذا المعنى الثاني، والمعنى الأول والثاني أقوى من المعنى الثالث.
والمعنى الثالث: هو أني لو أردت أن أفعل السنن الرواتب لأتممت الصلاة، يعني: أن الإتمام مربوط بالسنن الرواتب، فمن صلى مع إمام أتم فعل السنن الرواتب، ومن قصر لا يفعل السنن الرواتب.
إذاً: المعنى الأول كان فيه إنكار على الذين يصلون الرواتب في السفر، فعندما التفت قال: (ما شأن هؤلاء؟ قالوا: يسبحون، قال: يا ابن أخي! لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي)، فكأنه يقول: لو كنت أردت أن أفعل الطاعة لأتممت الفرض فهو أولى من أفعل السنة، ( وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ).
المعنى الثاني: أنه يقول: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي، يعني: كأن السنن الرواتب مربوطة بإتمام الصلاة، فمن أتم الصلاة فعل السنن الرواتب، ومن قصر الصلاة لم يفعل السنن الرواتب.
المعنى الثالث، هو الذي لم أجد أحداً من شراح الحديث قال به، وقال به بعض مشايخنا، وهو: لو أنني صليت مع إمام أنا مسافر، فأتممت معه، فإنني على هذا الحال سأفعل السنن الرواتب؛ فلو ذهبت مثلاً إلى مكة، فصليت مع الناس في المسجد الحرام يومين، فأنا الآن مسافر بإجماع الأئمة الأربعة.
فعلى المعنى الثالث: إذا كنت تصلي مع الإمام فإنك تفعل السنن الرواتب؛ لقول ابن عمر : ( لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي )، يعني: لو أتممت الصلاة لسبحت.
وهناك فرق بين المعنى الأول والثاني، يقول ابن عمر : أنا الآن أقصر، وأنتم الآن تسبحون، يقول: لو كنت مسبحاً لأتممت الصلاة، يعني: لو أتممت الصلاة فإنني سأسبح، لكن السنة الإتمام أم عدم عدم الإتمام، إذاً لا أسبح.
المعنى الثاني: يقول: لا، لو أنك أتممت الصلاة وأنت مسافر سبح، ولو قصرت الصلاة لا تسبح، فعلق الأمر بمجرد الفعل، لا بمجرد القول.
على كل حال، الذي يظهر والله أعلم من المعنى أن ابن عمر إنما ذكر ذلك على سبيل الإنكار، وأن معنى الثاني هو الأول، لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي، يعني: أن الإتمام مرتبط بالسنن الرواتب، ومع القصر لا يفعل السنن الرواتب، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنه ( يا ابن أخي! صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزد على ركعتين حتى فارقه الله، ثم صليت مع
بعض الناس يظن أنه إذا سافر نقصت طاعته، فيقول: ماذا أصنع؟ نقول: اصنع التطوعات العامة، فالأولى سنة الضحى، فهي لا تسقط حضراً ولا سفراً؛ لأنها ليست من السنن الرواتب، فتطوع، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السنن المطلقة في السفر، وقد روى البخاري و مسلم من حديث أم هانئ ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات في فتح مكة )، وهذا من السنن العامة.
الثاني: بين كل أذانين صلاة، فإن الإنسان يصلي.
الثالث: ( صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب )، متفق عليه من حديث عبد الله بن مغفل المزني .
الرابع: قيام الليل.
إذاً: لم يبق إلا السنة البعدية للمغرب، والسنة البعدية للعشاء والسنة القبلية والبعدية للظهر، لحديث: ( صلوا بين كل أذانين صلاة ) ثم إن العبد في الأماكن الفاضلة يزيد فيها من النوافل، فإن الآفاقي إذا قدم مكة فإن الأفضل في حقه الطواف، ثم التطوع المطلق.
وأنا أتعجب كثيراً من بعض الشباب حينما يأتي إلى مكة لا يستغلها: لا بالطواف، ولا بالصلاة، ولا بقراءة القرآن، بل يستغلها بقراءة الكتب، ولا شك أن العلم نافع، لكن مثل هذا المكان، وهو يجلس أربعة أيام، أو خمسة أيام، أو أسبوعاً، أو شهراً، ينبغي له أن يكثر من الطاعات، فإن الصلاة في مكة تعدل مائة ألف صلاة في غيرها من البقاع، فتجد أن حديثهم وسمرهم واجتماعاتهم لا تكون إلا في المسجد الحرام، وهذا ليس بلائق، بل يجب على الإنسان أن يتخفى، وألا يعرفه أحد، وأن يكثر من الطاعة لله سبحانه وتعالى، عسى أن يجعل ذلك من رصيد أعماله وطاعته، فهذا هو الأصل، وأما اليوم فإنك لا تكاد تمر على مجموعة إلا وهم يتحدثون، حتى إن أحدهم ربما وهو جالس يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، فإذا رأى شخصاً ربما لم يره إلا في الابتدائي ذهب إليه وتحدث معه، وكأنه يقطع عنه عناء الطريق، وهذا ليس بلائق، وليس من السنة، ولهذا كان ابن القيم رحمه الله يستغل مثل هذه المواطن، حتى كان ذلك يشق على رفقائه من شدة طاعته وابتهاله وتضرعه إلى الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا فالسنة أو الترك، ولو فعل جاز، وهذه رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهذا هو ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر ، وهو قول ابن عمر .
قال المؤلف رحمه الله: (وما عدا الوتر سفراً). فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الوتر حضراً ولا سفراً؛ لقول عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع ركعتي الفجر والوتر لا في حضر ولا في سفر )، وليس المقصود بالوتر صلاة الليل، وإنما المقصود بالوتر ركعة، أو ثلاث ركعات، أو خمس ركعات، أو سبع ركعات، أو تسع ركعات بتشهد وسلام واحد.
قول المؤلف رحمه الله: (ويسن تخفيفهما)، مذهب الحنابلة والشافعية أنه يستحب تخفيف هاتين الصلاتين؛ لما روى البخاري و مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفف الركعتين قبل صلاة الصبح، حتى إني لأقول: هل قرأ فيهما بأم الكتاب؟ ) فيخفف فيها، ولا يطيل، ومن القاعدة أنه إذا أطال القيام أطال الركوع والسجود، وإذا خفف القيام خفف الركوع والسجود، هذه هي السنة.
وذهب أبو حنيفة إلى أن السنة إطالتها، وذهب مالك إلى أن السنة التخفيف حتى أنه يستحب ألا تقرأ سورة الفاتحة، والذي يظهر والله أعلم هو قول الشافعية والحنابلة أنه يشرع التخفيف مع قراءة الفاتحة، وقول عائشة : ( حتى إني لأقول )، هذا دليل على أنه لم يدعها، لكن من خفة وسرعة قراءته عليه الصلاة والسلام.
القول الأول: قول الحنابلة أنه يسن؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصنع ذلك، وقد جاء في الصحيحين من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى سنة الفجر فإن كنت مستيقظة حدثني، وإلا اضطجع )، وهذا الأقرب أنه لا يفيد السنة، ولكن يفيد الإباحة.
القول الثاني: أن الاضطجاع لم يكن مقصوداً لذاته، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يتقصد الاضطجاع، وإنما كان لأجل الترويح عن نفسه، فإنه كان كثير القيام، فإذا صلى الفجر جلس يرتاح، وربما نام، وإذا نام نفخ، وهذا من خصوصياته عليه الصلاة والسلام، وأما ما جاء في الحديث الذي يرويه عبد الواحد بن زياد عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع )، فهذا الحديث لو صح لكان حجة على الاستحباب، ولكن الحديث لا يفرح به؛ فإن عبد الواحد بن زياد تفرد به، كما أنكره ابن معين ، و أبو داود ، ومن المعلوم أن سلسلة الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة سلسلة معروفة، وقد روى بها الأئمة الكبار، فروى عن الأعمش بهذا الإسناد، شعبة و سفيان ، و أبو معاوية محمد بن خازم الضرير ، وهو أوثق الناس في الأعمش ، فلم يرووا هذه اللفظة، وقد روى سهيل بن أبي صالح عن أبيه الذي هو أبو صالح عن أبي هريرة ولم يذكر الأمر، وإنما ذكر فعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، والفعل لا يدل على الاستحباب، بدليل أنه أحياناً يتركها قصداً، كما قالت عائشة : ( فإن كنت مستيقظة حدثني وإلا اضطجع )، وكذلك خالفه محمد بن إبراهيم عن أبي صالح لم يذكر لفظة الأمر، فدل ذلك على أن جميع الأحاديث الواردة بالأمر بالاضطجاع ضعيفة، ولا عبرة بتصحيح ابن حزم .
القول الثالث: وجوب الاضطجاع، وهو قول ابن حزم رحمه الله؛ لحديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة : ( إذا صلى أحدكم ركعتي الفجر فليضطجع على جنبه الأيمن )، رواه الإمام أحمد و أبو داود و الترمذي ، وهذا الحديث ضعيف، وابن حزم يوجب ذلك، وتخيلوا أن ندخل المسجد وكلهم مضطجعون: والله مشكلة، اللهم اهدنا فيمن هديت.
القول الرابع: أنه يستحب في حق من يقوم الليل، ولا يشرع في حق من لم يقم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما كان يصنع ذلك لأنه كان يقوم الليل، وهذا اختاره ابن العربي ، وبعضهم يرى أنه مكروه وبدعة، كما كان ابن عمر يقول بذلك؛ فإنه كان إذا رأى أحداً يضطجع حصبه بالحصباء رضي الله عنه.
على كل حال الذي يظهر والله أعلم أن ذلك لم يكن مقصوداً لذاته، وأنه جائز، إذا كان في بيته، إذا كان يريد أن يرتاح حتى يصلي الفرض، أما أن يضطجع في المسجد فإنه لم يكن عليه الصلاة والسلام يضطجع في المسجد، ولهذا فالسنة في المسجد عدم الاضطجاع، والسنة هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تقدموا وأتموا بي، وليأتم بكم من بعدكم، ولا يزال قوم يتأخرون حتى يؤخرهم الله )، والله أعلم.
هذه هي السنة الواردة، ويدل عليه: الحديث الأول حديث أبي هريرة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعتين من الفجر بـ(قل يا أيها الكافرون) و (قل هو الله أحد) )، والثاني ما رواه مسلم في صحيحه من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الركعة الأولى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ [البقرة:136]، أو قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ [آل عمران:84]، آخر الوجه من الجزء الثالث، والركعة الثانية قوله تعالى: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ [آل عمران:64] في سورة آل عمران، وقد جاء حديث يرويه الترمذي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في سنة المغرب بسورة الإخلاص ) ، كما رواه ابن مسعود ، وهذا الحديث لا يفرح به؛ لأنه ضعيف، والصحيح أنه لم يرد قراءة سورة معينة إلا في سنة الفجر، وقد ذكر أبو العباس ابن تيمية رحمه الله لفتة حسنة فقال: ولذا كان عليه الصلاة والسلام يقرأ سورتي الإخلاص والكافرون في سنة الفجر وسنة المغرب، وذلك لأن سنة الفجر بداية العمل، فيقرأ ويذكر بتوحيد العلم والعمل، وتوحيد المعرفة والقصد والاعتقاد، وأما في المساء فيختم يومه بتذكيره في ذلك، وهذه لفتة حسنة إن صح الحديث، والصحيح أن الحديث ضعيف، في سنة المغرب، فإن للإنسان أن يقرأ ما شاء.
وقد روى الإمام أحمد من حديث ميسرة عن المنهال بن عمرو عن حذيفة أنه قال: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم قام فصلى، فلم يزل يصلي حتى أذن العشاء )، وهذا من التطوع العام، وينبغي للإنسان أن يفعله أحياناً، خاصة في مكة أو المدينة، والأماكن الفاضلة.
قال المؤلف رحمه الله: (ويلي الفجر ركعتا المغرب ويسن أن يقرأ فيهما بـ (الكافرون) و(الإخلاص) ).
وذلك لما روى ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( لا أحصي ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الركعتين بعد المغرب، وفي الركعتين قبل الفجر: قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ [الكافرون:1]، و قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ [الإخلاص:1] )، والحديث كما قلت: رواه الترمذي ، وهو حديث ضعيف، بل أشار الترمذي إلى ضعفه حيث قال: هذا حديث حسن غريب، لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وهذا إشارة إلى تضعيفه -رحمه الله- للحديث.
المؤلف يقول: يستحب للإنسان أن يقضي السنن الرواتب؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى سنة الفجر، كما في صحيح مسلم من حديث أبي قتادة حينما نام عن صلاة الفجر، فصلى الركعتين، ثم أمر بلالاً فأقام الصلاة، والثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر من قضى الصلاة، كما جاء ذلك في حديث قيس بن عمرو ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه قضى سنة الفجر، فقال: يا
الثالث: أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد العصر كما في الصحيحين، فقال: ( إني قد شغلت عن ركعتي الظهر التي بعدها حينما جاءني وفد بني عمرو بن عوف )، وعلى هذا فالسنة أن يقضيها، سواء في وقت النهي أم لا؟
القول الأول: لا تقضى السنن الرواتب في أوقات النهي، وهو قول الحنابلة رحمهم الله، ونسبوه إلى جمهور أهل العلم من الحنفية والحنابلة والمالكية، قالوا: لا يستحب قضاء السنن الرواتب في أوقات النهي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة بعد الفجر إلا ركعتي الفجر، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس، ولا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس )، ولعموم حديث عقبة : ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا )، واستدلوا أيضاً بما رواه الإمام أحمد و البيهقي من حديث ذكوان مولى عائشة عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما قضى الركعتين بعد العصر قالت أم سلمة : ( أفنقضيهما يا رسول الله! إذا فاتتا؟ قال: لا )، قالوا: وهذا يدل على عدم استحباب القضاء.
والقول الثاني في المسألة هو مذهب الشافعية، وهو رواية عند الإمام أحمد واختاره أبو العباس بن تيمية أن السنن الرواتب تقضى ولو في أوقات النهي، ولعل هذا القول أظهر، وذلك لأمور:
الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر قيس بن عمرو حينما صلى بعد صلاة الفجر، كما روى ذلك أبو داود و الترمذي و ابن خزيمة وصححه، وحسنه العراقي ، حينما قال: (الصبح أربعاً يا
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه صلى الركعتين اللتين بعد الظهر بعد العصر، وقال: (إني شغلت عنهما)، والقاعدة أن ما فعله النبي فهو مستحب لأمته، وأما الحديث الذي رواه ذكوان مولى عائشة عن أم سلمة : (أفنقضيهما إذا فاتتا؟ قال: لا) والأقرب أن الحديث ضعيف؛ وذلك لأن ذكوان مولى عائشة لم يحفظ أنه روى عن أم سلمة ، فهو من تلاميذ عائشة ، ومما يدل على ضعفه أن البخاري و مسلم رويا هذا الحديث؛ حديث عمرو بن عوف من طريق ذكوان مولى عائشة عن عائشة عن أم سلمة ، وهذا الحديث رواه الإمام أحمد و البيهقي من طريق ذكوان مولى عائشة عن أم سلمة ، وأشار البيهقي رحمه الله إلى تضعيفه، ومال ابن رجب إلى تقوية هذا الأثر، والصحيح أن الحديث ضعيف؛ لمخالفته رواية البخاري و مسلم من وجهين:
الوجه الأول: مخالفته في الإسناد.
الثاني: مخالفته في المتن؛ لأن القصة واحدة، والله أعلم.
وأما دعوى أن ركعتي القضاء بعد النهي في قصة عمرو بن عوف خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، فالصحيح أن الخصوصية إنما هي في ملازمته لها، لا فعلها أحياناً قضاءً، وعائشة حينما رأت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الركعتين بعد العصر قالت: ( ثم أثبتها، وكان إذا صلى صلاة أثبتها ) يعني: داوم عليها، فهذا من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلم، أما نحن فإننا نفعل السنة بعد العصر قضاءً، لكن لا يستحب لنا أن نداوم عليها، وقد فهمت عائشة و عبد الله بن الزبير من ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم لبعد العصر أنه يستحب، وكانت عائشة تتطوع بعد العصر ما لم تصفر الشمس، وكان ابن الزبير يصنع ذلك، والصحيح أن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعل ذلك لأن هذا من خصوصياته؛ أنه إذا صلى صلاة داوم عليها، يعني: أثبتها، والله أعلم.
وعلى هذا فالراجح هو مذهب الشافعية، ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية أن السنن الرواتب تقضى، وعلى هذا لو صلى الظهر والعصر جمعاً بلا قصر، كما لو جمع للمطر على قول بعض العلماء، أو جمع للمرض، أو للحاجة، فهل يصلي سنة الظهر البعدية بعد الفرض، على مذهب الحنابلة، والجمهور أنها لا تقضى السنن الرواتب في أوقات النهي، وهذا رأي شيخنا عبد العزيز بن باز ، وقد راجعته في ذلك وخفف بعد ذلك، لكن المعروف أن الشيخ لا يرى بناءً على مذهب الحنابلة، وأنه يصحح حديث: ( أفنقضيهما إذا فاتتا )، وإلا فإن مذهب الشافعي واختيار ابن تيمية أنها تقضى، وهذا هو الظاهر، والله أعلم.
هذا الحديث: ( من نام عن الوتر أو نسيه فليصلِ إذا أصبح أو ذكر )، هذا الحديث أخرجه أبو داود و الترمذي ، والإمام أحمد ، وغيرهم من حديث أبي سعيد ، والحديث يرويه زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ، وقد رواه بهذا الإسناد عبد الرحمن بن زيد بن أسلم و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ضعيف، تابعه محمد بن مطرف ، كلاهما عن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد ، والصحيح أن الحديث مرسل، فقد روى الحديث عبد الله بن زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأسقط فيه أبا سعيد ، وقال الترمذي في حديث عبد الله بن زيد بن أسلم عن أبيه عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: والمرسل أصح، وهذا هو الصحيح، ولكن ليس معنى ذلك أن الوتر لا يقضى، بل يقضى لحديث عائشة كما رواه قتادة عن سعد بن هشام عن عائشة : ( وكان إذا غلبه نوم أو نعاس صلى من النهار ثنتي عشرة ركعة )، وقد استدل بحديث أبي سعيد من قال: إن الوتر يقضى كما هو، ولكنه لا يفرح به، والله أعلم.
مثلاً الذي عنده فقر الدم فإنه يعقل، لكنه هزيل البنية، ترك الصلاة؛ لأنه يستطيع، اجتهاداً منه، فكثرت عليه الفرائض، فيقول المؤلف: (لكن من فاته مع فرضه وكثر فالأولى تركه)؛ لأجل ألا يشق عليه فيؤخر الفرض، فإذا علم أنه سوف يصلي الظهر وأربع ركعات أو ركعتين قبلها وركعتين بعدها، وسوف يصلي المغرب وركعتين بعدها ربما أخر الفرض، فطلب منه الترك؛ لأجل أن يستعجل في قضاء وإبراء ذمته، وهذا حسن، إلا إذا كان القضاء يسيراً فلا حرج، وهو أفضل.
قال المؤلف رحمه الله: (إلا سنة الفجر) لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يدعها في حضر ولا سفر، وهذا حسن، إلا إذا كان ذلك مدعاة إلى أن يؤخر صلاة الفرض، فإن الفرض أولى، والله أعلم. لعلنا نقف عند هذا؛ لأن هناك مسألة: ووقت كل سنة قبل الصلاة من دخول وقتها إلى فعلها، والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر