بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
قال المؤلف رحمه الله: (فيخير فيما عداهما)، يعني: أن السنن الرواتب إذا كن في السفر فإنهن يتركن إلا سنة الفجر؛ لقول
عائشة : (
لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع ركعتي الفجر في حضر ولا في سفر )، وأما غير سنة الفجر كالسنة القبلية والبعدية في الظهر، والسنة البعدية في المغرب، والسنة البعدية في العشاء، فإنه عليه الصلاة والسلام لم يكن يصليهن في السفر، إلا أن المؤلف قال: (فيخير فيما عداهما)، فيكون الترك من باب الرخصة والتخفيف، فلهذا قال: (فيخير فيما عداهما)، فيخير بين الترك ويخير بين الفعل.
وذهب أبو حنيفة و الشافعي إلى أنه يستحب له فعل السنن الرواتب في السفر، والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم، وهو مذهب ابن عمر على أن السنة الترك، والفعل جائز، لما روى البخاري و مسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ( لو كنت مسبحاً يعني: متطوعاً لأتممت صلاتي )، يعني: لو كان التسبيح فيه فضيلة لكان إكمال الفرض أولى من التطوع، هذا المعنى الأول، لأن قوله: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي) يحتمل ثلاثة معان:
المعنى الأول: لو كنت أردت أن أصلي النوافل لكان إكمال الفرض أولى من فعل النفل، لما جاء عند البخاري من حديث أبي هريرة في الحديث القدسي: ( وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه )، هذا المعنى الأول.
المعنى الثاني: أن قوله: (لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي)، يعني: أن التسبيح لا يكون إلا بالإتمام، يعني: لو أردت أن أسبح لأتممت الصلاة، وأما إذا أنقصت الصلاة يعني: قصرت، فإني لا أسبح، هذا المعنى الثاني.
إذاً: المعنى الأول، لو كنت أردت أن أتقرب إلى الله لتقربت إليه بإتمام الفرض، وتركت النافلة.
كأنه يقول: إذا كانت المسألة مسألة قياس، فإن فعل الفرض أولى من فعل النفل، ولهذا قال في الحديث القدسي: ( وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه )، فيقول: إكمال الفرض أولى من فعل السنة، هذا المعنى الأول.
والمعنى الثاني: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي، يعني: لو أردت أن أتطوع بالسنن الرواتب لأتممت الصلاة، فكأن الإتمام مربوط بفعل السنن الرواتب، والنقص مربوط بالترك، هذا المعنى الثاني، والمعنى الأول والثاني أقوى من المعنى الثالث.
والمعنى الثالث: هو أني لو أردت أن أفعل السنن الرواتب لأتممت الصلاة، يعني: أن الإتمام مربوط بالسنن الرواتب، فمن صلى مع إمام أتم فعل السنن الرواتب، ومن قصر لا يفعل السنن الرواتب.
إذاً: المعنى الأول كان فيه إنكار على الذين يصلون الرواتب في السفر، فعندما التفت قال: (ما شأن هؤلاء؟ قالوا: يسبحون، قال: يا ابن أخي! لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي)، فكأنه يقول: لو كنت أردت أن أفعل الطاعة لأتممت الفرض فهو أولى من أفعل السنة، ( وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ).
المعنى الثاني: أنه يقول: لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي، يعني: كأن السنن الرواتب مربوطة بإتمام الصلاة، فمن أتم الصلاة فعل السنن الرواتب، ومن قصر الصلاة لم يفعل السنن الرواتب.
المعنى الثالث، هو الذي لم أجد أحداً من شراح الحديث قال به، وقال به بعض مشايخنا، وهو: لو أنني صليت مع إمام أنا مسافر، فأتممت معه، فإنني على هذا الحال سأفعل السنن الرواتب؛ فلو ذهبت مثلاً إلى مكة، فصليت مع الناس في المسجد الحرام يومين، فأنا الآن مسافر بإجماع الأئمة الأربعة.
فعلى المعنى الثالث: إذا كنت تصلي مع الإمام فإنك تفعل السنن الرواتب؛ لقول ابن عمر : ( لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي )، يعني: لو أتممت الصلاة لسبحت.
وهناك فرق بين المعنى الأول والثاني، يقول ابن عمر : أنا الآن أقصر، وأنتم الآن تسبحون، يقول: لو كنت مسبحاً لأتممت الصلاة، يعني: لو أتممت الصلاة فإنني سأسبح، لكن السنة الإتمام أم عدم عدم الإتمام، إذاً لا أسبح.
المعنى الثاني: يقول: لا، لو أنك أتممت الصلاة وأنت مسافر سبح، ولو قصرت الصلاة لا تسبح، فعلق الأمر بمجرد الفعل، لا بمجرد القول.
على كل حال، الذي يظهر والله أعلم من المعنى أن ابن عمر إنما ذكر ذلك على سبيل الإنكار، وأن معنى الثاني هو الأول، لو كنت مسبحاً لأتممت صلاتي، يعني: أن الإتمام مرتبط بالسنن الرواتب، ومع القصر لا يفعل السنن الرواتب، ولهذا قال ابن عمر رضي الله عنه ( يا ابن أخي! صليت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يزد على ركعتين حتى فارقه الله، ثم صليت مع أبي بكر ، فلم يزد ركعتين حتى فارقه الله، ثم صليت مع عمر فلم يزد على ركعتين حتى فارقه الله )، فهذا يقول العلماء فيه: إن هذا الترك مقصود، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله، فحينئذٍ نقول: إن السنة الترك، ولو فعل كان جائزاً.
بعض الناس يظن أنه إذا سافر نقصت طاعته، فيقول: ماذا أصنع؟ نقول: اصنع التطوعات العامة، فالأولى سنة الضحى، فهي لا تسقط حضراً ولا سفراً؛ لأنها ليست من السنن الرواتب، فتطوع، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي السنن المطلقة في السفر، وقد روى البخاري و مسلم من حديث أم هانئ ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ثمان ركعات في فتح مكة )، وهذا من السنن العامة.
الثاني: بين كل أذانين صلاة، فإن الإنسان يصلي.
الثالث: ( صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب، صلوا قبل المغرب )، متفق عليه من حديث عبد الله بن مغفل المزني .
الرابع: قيام الليل.
إذاً: لم يبق إلا السنة البعدية للمغرب، والسنة البعدية للعشاء والسنة القبلية والبعدية للظهر، لحديث: ( صلوا بين كل أذانين صلاة ) ثم إن العبد في الأماكن الفاضلة يزيد فيها من النوافل، فإن الآفاقي إذا قدم مكة فإن الأفضل في حقه الطواف، ثم التطوع المطلق.
وأنا أتعجب كثيراً من بعض الشباب حينما يأتي إلى مكة لا يستغلها: لا بالطواف، ولا بالصلاة، ولا بقراءة القرآن، بل يستغلها بقراءة الكتب، ولا شك أن العلم نافع، لكن مثل هذا المكان، وهو يجلس أربعة أيام، أو خمسة أيام، أو أسبوعاً، أو شهراً، ينبغي له أن يكثر من الطاعات، فإن الصلاة في مكة تعدل مائة ألف صلاة في غيرها من البقاع، فتجد أن حديثهم وسمرهم واجتماعاتهم لا تكون إلا في المسجد الحرام، وهذا ليس بلائق، بل يجب على الإنسان أن يتخفى، وألا يعرفه أحد، وأن يكثر من الطاعة لله سبحانه وتعالى، عسى أن يجعل ذلك من رصيد أعماله وطاعته، فهذا هو الأصل، وأما اليوم فإنك لا تكاد تمر على مجموعة إلا وهم يتحدثون، حتى إن أحدهم ربما وهو جالس يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، فإذا رأى شخصاً ربما لم يره إلا في الابتدائي ذهب إليه وتحدث معه، وكأنه يقطع عنه عناء الطريق، وهذا ليس بلائق، وليس من السنة، ولهذا كان ابن القيم رحمه الله يستغل مثل هذه المواطن، حتى كان ذلك يشق على رفقائه من شدة طاعته وابتهاله وتضرعه إلى الله سبحانه وتعالى.
وعلى هذا فالسنة أو الترك، ولو فعل جاز، وهذه رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله، وهذا هو ظاهر فعل النبي صلى الله عليه وسلم و أبي بكر و عمر ، وهو قول ابن عمر .
قال المؤلف رحمه الله: (وما عدا الوتر سفراً). فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك الوتر حضراً ولا سفراً؛ لقول عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يدع ركعتي الفجر والوتر لا في حضر ولا في سفر )، وليس المقصود بالوتر صلاة الليل، وإنما المقصود بالوتر ركعة، أو ثلاث ركعات، أو خمس ركعات، أو سبع ركعات، أو تسع ركعات بتشهد وسلام واحد.