الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم، اللهم يا حي يا قيوم! انفعنا بما علمتنا، واجعلنا من عبادك المتقين، وحزبك المفلحين، ومن حاملي سنة نبيك للمسلمين يا رب العالمين، وبعد:
قول المؤلف رحمه الله: (وتسن صلاة الضحى). سميت صلاة الضحى من باب إضافة الشيء إلى وقته، يعني: الصلاة التي تفعل في وقت الضحى، والمؤلف رحمه الله ذكر أن السنة فيها أن تفعل أحياناً بحيث تصلى غباً مرة تصلى، ومرة لا تصلى، وهذا هو المذهب عند الحنابلة، واستدلوا على ذلك بأن عائشة رضي الله عنها قالت: ( ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي سبحة الضحى قط، وإن كنت لأسبحها، وإن كان يدع الشيء وهو يحب أن يعمله مخافة أن يفرض على الناس )، فهذا الذي جعل الحنابلة يقولون بذلك، ويقولون: إنه ورد أن النبي صلى الله عليه وسلم حث بعض الصحابة على فعلها، كما في حديث أبي هريرة : ( أوصاني خليلي بثلاث.. وأن أصلي سبحة الضحى )، وفعلها أحياناً، وتركها، وقد جاء عن مورق العجلي رضي الله عنه أنه قال: ( سألت
وقد روى ابن أبي شيبة من طريق مجاهد قال: دخلت أنا و عروة بن الزبير المسجد، فإذا ابن عمر رضي الله عنه جالس عند حجرة عائشة ، وإذا الناس في المسجد يصلون الضحى، فسألناه عن صلاتهم، فقال: بدعة، وقال مرة: ونعمت البدعة، وهذا الحديث قال عنه الحافظ ابن حجر في الفتح: إسناده صحيح، وقول ابن عمر : (بدعة) يعني: بدعة لغوية، وليس بدعة شرعية، ولهذا قال: ونعمت البدعة، يعني: أن فعل الناس بهذه الطريقة لم يكن في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يكن القصد من ذلك أنها بدعة محرمة، فهذا هو الأصل، كما قال عمر : نعمت البدعة هذه كما عند البخاري ، وهذا كما قلت: هو سبب قول الحنابلة: إنها تفعل غباً.
والقول الثاني في المسألة: إنها تفعل على سبيل الدوام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم حث بعض الصحابة على سبحة الضحى، كما في حديث أبي هريرة : ( أوصاني خليلي بثلاث: بأن أوتر قبل أن أنام، وأن أصوم ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى )، وجه الدلالة أنه إذا كان الوتر قبل أن ينام يستحب أن يفعله الإنسان كل يوم، وكذلك صيام ثلاثة أيام من كل شهر يفعله في كل شهر، فكذلك ركعتي الضحى تفعل في كل يوم، ولا دليل على التخصيص.
ثم قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم بين أنه ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة )، ثم قال: ( ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما المرء من صلاة الضحى، أو من النهار )، وهذا دليل على أن السلامى يستحب للمسلم أن يتصدق عليها، فإذا عجز فإن ركعتين من الضحى تجزئ عن ذلك.
إذاً: وجه الدلالة أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة، فكل تسبيحة صدقة، وكل تحميدة صدقة، وكل تكبيرة صدقة، ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى ) فهاتان الركعتان نوع من التصدق الذي يشرع للمسلم أن يفعله كل صباح.
ومما يدل على أن سنة الضحى تشرع في كل يوم: أنه إذا تعارض قوله وفعله عليه الصلاة والسلام قدم قوله، فإن فعله يدل على أنه يفعلها أحياناً، وقد قالت عائشة : ( ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسبح سبحة الضحى قط )، فنفت رؤيتها لفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض الصحابة رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي، كما قالت عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الضحى أربعاً ويزيد ما شاء )، فهنا أخبرت بما سمعته من غيرها.
إذاً: الرسول صلى الله عليه وسلم فعل أحياناً وترك أحياناً.
إذاً: فعل النبي صلى الله عليه وسلم هو الترك أحياناً، وقوله هو: الفعل على الدوام، والقاعدة إذا تعارض قوله وفعله فالمقدم القول، هذه قاعدة عند أكثر علماء الأصول، ومما يدل على تقوية القول أنه إنما ترك ذلك مخافة أن يفرض على الناس بدليل قول عائشة : ( وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليترك العمل وهو يحب أن يعمله مخافة أن يفرض على الناس )، كما فعل عليه الصلاة والسلام في صلاة الليل من رمضان.
القول الثالث: ذهب أبو العباس بن تيمية رحمه الله، إلى أن سنة الضحى يستحب فعلها لمن لم يصل من الليل، وأما من كان يداوم على صلاة الليل فإنه يفعلها لا على سبيل الدوام، وهو مثل قول الحنابلة.
القول الرابع: ذهب بعضهم إلى أنها لا تشرع مطلقاً؛ لقول ابن عمر بدعة، والصحيح هو القول الثاني، والله أعلم، ولهذا قال المؤلف: لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام )، يقول المؤلف: والحديث رواه الإمام أحمد و مسلم ، والواقع أن الحديث رواه البخاري و مسلم ، وليس مسلم فقط.
الأول: ( أوصاني خليلي بثلاث: صيام ثلاثة أيام من كل شهر، وركعتي الضحى، وأن أوتر قبل أن أنام )، فإذا كان الوتر يفعل في كل ليلة، وصيام ثلاثة أيام يفعل في كل شهر، فكذلك سنة الضحى.
والثاني: إذا تعارض قوله وفعله قدم قوله صلى الله عليه وسلم.
والثالث: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بين أن ركعتي الضحى تجزئ عن الصدقة التي تشرع للإنسان في كل صباح، وغير ذلك من الأدلة.
قال المؤلف رحمه الله: (وأقلها ركعتان). أقل سنة الضحى ركعتان، والدليل على ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: ( ويجزئ من ذلك ركعتان يركعهما المرء من صلاة الضحى ).
ولا يستحب التطوع بركعة، على الراجح إلا في صلاة الليل بالوتر، ومما يدل على عدم مشروعية التطوع بركعة في غير الوتر في الليل ما جاء في الحديث الذي رواه مسلم من حديث سليك الغطفاني أنه جاء ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب الجمعة، فجلس فقال الرسول: ( هل صليت ركعتين؟ قال: لا، قال: إذا جاء أحدكم المسجد والإمام يخطب للجمعة فليصل ركعتين، وليخفف فيهما )، وفي رواية: ( وليتجوز فيهما )، وجه الدلالة أن استماع الخطبة واجب، ولو كان ثمة صلاة تجزئ المسلم لأجل أن يستمع إلى الخطبة لكانت ركعة، ولما لم يأمر النبي صلى الله عليه وسلم إلا بالركعتين، دل على أن أقل من ذلك لا يجزئ، وهذا هو الراجح، ولما جاء في حديث أبي هريرة أنه قال: ( وأن أصلي ركعتي الضحى ).
المذهب أن أكثر سنة الضحى ثمان ركعات، واستدلوا بما روى البخاري و مسلم من حديث أم هانئ : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى عام الفتح ثمان ركعات )، ويسميها بعضهم سنة الفتح، ولهذا قالت أم هانئ : ( فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يغتسل و
والذي يظهر والله أعلم هو القول الثاني في المسألة: وهو أنه لا حد لأكثر الضحى، وإن كان ينبغي ألا يقتصر على اثنتين، بل على أربع، كما قالت عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى أربع ركعات ويزيد ما شاء )، والدليل على أنه لا حد لأكثره قولها: ( ويزيد ما شاء )، وأما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في فتح مكة، فإنه فعل وقد فعل أكثر منه، ولهذا قالت عائشة : ( ويزيد ما شاء )، يمكن يزيد ستاً أو ثماناً أو عشراً، وهذا هو الأظهر والله أعلم أنه لا حد لأكثره، وإن كان الأفضل أن لا ينقص المرء عن أربع ركعات، ومما يدل على ذلك قول عائشة : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي من الضحى أربعاً، ويزيد ما شاء ).
وما رواه الترمذي من حديث عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنه كان يصلي من النهار ركعتين، ثم يجلس فيصلي على الملائكة المقربين، ثم يقوم فيصلي ركعتين، ثم يسلم )، وهذا الحديث ظاهره يدل على أنه كان يجلس بين الركعتين يتشهد التشهد الأول، ثم يقوم، والحديث في سنده عاصم بن ضمرة ، وقد أنكر أبو حاتم هذا الحديث، ولو صح فإنه يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي الضحى أربع ركعات بتسليمتين.
قول المؤلف رحمه الله: (ووقتها)، يعني: وقت سنة الضحى (من خروج وقت النهي، أي: من ارتفاع الشمس قدر رمح)؛ لأن الوقت قبلها وقت نهي لقول عقبة بن عامر كما في صحيح مسلم : ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بارزة حتى ترتفع )، فبعد صلاة الفجر وقت نهي حتى تطلع الشمس، وبعد طلوع الشمس وقت نهي حتى ترتفع الشمس قيد رمح.
قال المؤلف رحمه الله: (قدر رمح) جاء ذلك في صحيح مسلم من حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا صليت الفجر، أقصر عن الصلاة حتى تطلع الشمس، حتى ترتفع ثم صل، فإن الصلاة حينئذٍ محضورة مشهودة )، هذا بدايتها.
قال المؤلف رحمه الله: (إلى قبيل الزوال)، يعني: ونهاية وقت الضحى إلى أن تصير الشمس في كبد السماء قبل أن تزول؛ لأن الشمس تخرج من جهة الشرق فتستمر في الارتفاع إلى جهة الغرب حتى إذا صارت في كبد السماء توقفت من ثمان إلى اثنتي عشرة دقيقة، ثم تبدأ بالزوال، فبداية زوالها دليل على دخول وقت الظهر، ولهذا قال عقبة بن عامر : (ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن، أو أن نقبر فيهن موتانا: حين تطلع الشمس بارزة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تزول)، ومعنى (حين يقوم قائم الظهيرة) يعني: حين تصير الشمس في كبد السماء، فإذا زالت شرع المؤذن في أذان الظهر، وقبل ذلك لا يشرع، وهذا يختلف على حسب الشتاء والصيف، فالشتاء قصير، والصيف طويل تقريباً، ولهذا لو جاء الإنسان قبل أذان الظهر بعشر دقائق، كما في التقويم يُمسك عن الصلاة؛ لأنه وقت نهي؛ لكان أفضل والله أعلم.
بين المؤلف من قبل أن سجود التلاوة سنة، ولهذا قال: (وتسن صلاة الضحى)، ثم قال: (وسجود التلاوة والشكر صلاة)، والراجح أن سجود التلاوة سنة وليس بواجب خلافاً للقول الآخر عند الشافعية الذي قواه السيوطي وغيره، والدليل أن سجود التلاوة ليس بواجب ما جاء في صحيح البخاري من حديث عمر أنه كان يخطب الجمعة، فقرأ سورة النحل فسجد فيها، فلما كان في الجمعة الأخرى قرأ سورة السجدة، فلما تهيأ الناس للسجود لم يسجد وقال: أيها الناس إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، وهذا فعله عمر على ملأ من الصحابة، ولم ينكر عليه، وهو الراجح.
والقول الآخر في المسألة: أن سجود التلاوة والشكر ليس بصلاة، ولا يشترط فيها ما يشترط للصلاة؛ لأن المحفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سجد للتلاوة، ولم يحفظ عنه أنه كبر في غير الصلاة، ولهذا قال ابن عمر كما في الصحيحين: ( قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم السجدة فسجد فسجدنا حتى لم يجد أحدنا موضعاً لسجوده )، وهذا الحديث من رواية عبيد الله بن عمر العمري عن نافع عن ابن عمر ، وأما ما جاء عند الحاكم من حديث عبد الله بن عمر العمري المكبر عن نافع عن ابن عمر أنه قال: فكبر، فهي رواية ضعيفة، وقد جاء في بعض نسخ الحاكم في هذا الإسناد بدل عبد الله بن عمر المكبر قال: عبيد الله ، وهذه الرواية بعض العلماء يصححها، والصحيح أنها خطأ في النسخة، وأن رواية الحاكم من طريق عبد الله ، وليس من طريق عبيد الله ؛ لأن هناك اثنين عبيد الله بن عمر بن عاصم المصغر، وهو ثقة ثبت، وأخاه عبد الله بن عمر العمري المكبر ضعيف، وإن كان من العباد الصلحاء، لكنه ضعيف الحديث.
وعلى هذا فالصحيح أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كبر، وقد روى سجود التلاوة أكثر من خمسة من الصحابة، كـزيد بن ثابت و ابن عباس و ابن عمر وغيرهم، ولم يحفظ عن واحد منهم أنه أشار إلى أنه كبر، ولم يشر أحدهم إلى أنه كان يسلم، ومن المعلوم أنها لو كانت صلاة لما جاز أن ينفلت المسلم منها إلا بتسليم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد من حديث علي : ( مفتاح الصلاة التكبير، وتحليلها التسليم )، فلما لم ينقل عن واحد من الصحابة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا سجد للتلاوة سلم، أو في سجود الشكر أنه سجد ورفع وسلم، دل على أنها ليست بصلاة.
وأما ما جاء عن ابن عمر أنه قال: لا يسجد الرجل إلا وهو طاهر، فإنما ذكره على سبيل الاستحباب، بدليل أن البخاري روى في صحيحه معلقاً بصيغة الجزم أن ابن عمر كان يسجد على غير وضوء، ومن المعلوم أن ابن عمر لم يكن ليسجد على غير وضوء في صلاة، فدل ذلك على أن سجوده ربما كان للتلاوة أو للشكر، وهذا دليل على أن استدلالهم بحديث ابن عمر إنما هو على سبيل الاستحباب، ولا نقول إلا بذاك، ولا يعني هذا أننا نقول: لا يشرع الطهارة، ولا استقبال القبلة، بل إنه يشرع، أما التكبير والتسليم فإنه لا يستحب، لعدم نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله على قول الجمهور: (فكان كسجود الصلاة، فيشترط له ما يشترط لصلاة النافلة من ستر العورة، واستقبال القبلة، والنية، وغير ذلك)، وقلنا: إن الراجح أنه لا يشترط، بل لا يستحب التسليم، ولا التكبير لعدم نقل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: (يشترط له ما يشترط لصلاة النافلة) ولم يقل: لصلاة الفرض؛ لأنه يجوز في النافلة ما لا يجوز في الفرض، فيجوز في النافلة أن يصلي جالساً ولو كانت مثل الفرض لما جاز، وسوف تأتي مسألة: أيهما أفضل أن يقوم لسجود التلاوة، أم يسجد وهو جالس؟ كما في الخلاف الذي بين الجمهور وبين ابن تيمية.
ولعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر