الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ويسن سجود التلاوة للقارئ والمستمع، لقول ابن عمر رضي الله عنهما: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ علينا السورة فيها سجدة فيسجد ونسجد معه حتى ما يجد أحدنا موضعاً لجبهته )، متفق عليه، وقال عمر رضي الله عنه: إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، رواه البخاري، ويسجد في طواف مع قصر فصل، ويتيمم محدث بشرطه، ويسجد مع قصره، وإذا نسي سجدة لم يعد الآية لأجله].
استحباب سجود التلاوة على القارئ
ذكرنا سابقاً خلاف أهل العلم في مسألة سجود التلاوة، هل هو صلاة أم لا؟ وقلنا: إن جمهور الفقهاء يرون أنها صلاة، ويرتبون عليها ما يرتبون على النافلة، وعلى هذا فسوف نأتي إلى بعض المسائل التي ترتبط بمسألة الصلاة، ونحن بصدد مسألة أنه يسن للقارئ والمستمع، أما القارئ فقد قرأ السجدة، وقد ذم الله سبحانه وتعالى من لا يسجد لله، قال تعالى:
وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ 
[الانشقاق:21].
وقد سجد النبي صلى الله عليه وسلم في غير ما آية من آيات السجدات التي في القرآن، كما سوف يأتي خلاف أهل العلم في عددها.
استحباب سجود التلاوة على المستمع
سجود التلاوة لمن يطوف بالبيت
طول الفصل بين القراءة وسجود التلاوة
وأشار بقول: (مع قصر فصل)، إلى الموالاة، وهذا لا يضير، وإنما قال ذلك؛ لأن الطواف بالبيت صلاة، كما صح ذلك عن
ابن عباس من قوله، وكذا
ابن عمر.
ومعنى (مع قصر فصل)، يعني: إذا طال الفصل بين القراءة والسجود، مثل أن يطوف ثم يمر على آية سجدة، فبدأ يبحث عن مكان يسجد فيه، فيقول: (ويسجد في طواف مع قصر فصل)، يعني إذا طال الفصل بين القراءة وبين السجود؛ يزول حكم السجود، هذا على كلام المؤلف، ولهذا سوف يذكر كل مسألة قصر فصل فيها.
والذي يظهر والله أعلم، أن الإنسان إذا بحث عن مكان للسجود ولو طال الفصل؛ فلا حرج، فإذا طفت ثم مررت بآية سجود، فبدأت أبحث وأنا قد وقفت على آية السجود، فلو طال الفصل فلا حرج؛ لأن هذا مما لا يتم المستحب إلا به والقاعدة تقول: ما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب.
سجود التلاوة بغير طهارة
قال المؤلف رحمه الله: (ويتيمم محدث بشرطه، ويسجد مع قصره)، وهذا مثله، يعني: لو أن القارئ قرأ وهو محدث حدثاً أصغر؛ لأن من أحدث حدثاً أكبر الراجح فيه أنه لا يقرأ، كما هو مذهب الأئمة الأربعة، وصح عن
عمر و
علي كما في مصنف
عبد الرزاق .
فإذا أراد المحدث الذي قرأ سورةً فيها سجدة أن يسجد، فإنه لا يسجد على غير طهارة، كما هو مذهب الأئمة الأربعة؛ لأنهم يرون أن سجود التلاوة صلاة، فيقولون: يذهب يتيمم، فإن طال الفصل بين القراءة والسجود فلا يسجد، وإن قصر سجد.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (ويسجد مع قصره)، يعني: مع قصر الفصل. والراجح والله أعلم: أنه له أن يسجد، ولو على غير طهارة، وقد روى البخاري كما مر معنا أن عبد الله بن عمر كان يسجد وهو على غير طهارة، ويبعد أن يكون ابن عمر قد سجد سجود صلاة، ولكن الذي يظهر أنه سجد سجود شكر أو سجود تلاوة، وهذا هو الصحيح والله أعلم، وما جاء عنه أنه قال: لا يسجد المسلم إلا وهو طاهر، كما عند البيهقي ، فهذا على سبيل الاستحباب والله أعلم.
المسألة الثانية: الذي يظهر والله أعلم، أنه إذا توقف عن القراءة بعد آية سجود ليتيمم فلا حرج؛ لأن هذا من باب: ما لا يتم المستحب إلا به فهو مستحب، بشرط ألا يطول الفصل طويلاً؛ لأنه إذا طال الفصل طويلاً لا يمكن أن يكون سجوده لأجل السجدة.
الرجوع لآية السجدة لمن نسي سجود التلاوة
قال المؤلف رحمه الله: (وإذا نسي سجدة لم يعد الآية لأجله)، مثاله: لو أن القارئ قرأ سورةً فيها سجدة ثم نسي ولم يسجد، ثم قرأ الآية التي بعدها، قال المؤلف: لم يعد الآية لأجل السجود، لكنه إن أعادها لمعنىً آخر، مثل المراجعة، أو الحفظ، أو التدبر، فإنه حينئذ يسجد، لأن رجوعه حينئذ ليس لأجل السجود، ولكن لأجل معنىً آخر.
سجود السهو لمن نسي سجود التلاوة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يسجد لهذا السهو].
يعني: أن سهوه هنا لا يسجد له؛ لأن سجود السهو إنما شرع في الصلاة فحسب، وهذه ليس فيها ركوع وقيام.
تكرار سجود التلاوة بتكرار الآية
قال المؤلف رحمه الله: [ويكرر السجود بتكرار التلاوة كركعتي الطواف].
قول المؤلف رحمه الله: (ويكرر السجود بتكرار التلاوة كركعتي الطواف) يعني أنه إن أعاد الآية التي فيها سجدة لأجل الحفظ، أو لأجل التدبر؛ فإنه يسجد مع كل تكرار، هذا مذهب الحنابلة، وهو أيضاً مذهب الشافعية في الأصح عندهم، وهو ظاهر مذهب المالكية، وهذا مبني على أن الأمر هل يفيد التكرار أم لا؟ وقاسوها فقالوا: (كركعتي الطواف)، فكما أن المسلم لو طاف سبعة أشواط، استحب بعدها ركعتين، فلو طاف سبعة أشواط، ثم سبعة أشواط، ثم سبعة أشواط؛ استحب له أن يصلي ركعتين، ثم ركعتين، ثم ركعتين، فكانت كل سبعة مربوطة بركعتين، فكذلك كل قراءة للسجدة فيها سجود.
والقول الثاني في المسألة: أنه إن كرر الآية للحفظ؛ فإنه جائز أن يسجد، وإن ترك فلم يكن قد ترك الاستحباب؛ لأن أقل ما يكون المأمور فيه بفعل واحدة، ولا يقال: إن الأمر يفيد التكرار إلا بقرينة، والله أعلم.
ويفرق بين ركعتي الطواف وسجود التلاوة؛ لأن سجود التلاوة المقصود فيها مطلق السجدة، فإذا فعل مرةً فقد حصل المأمور، وأما ركعتي الطواف فهي مربوطة بسبعة أشواط، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [قال في الفروع: وكذا يتوجه في تحية المسجد إن تكرر دخوله].
قول المؤلف رحمه الله: (وكذا يتوجه في تحية المسجد إن تكرر دخوله)، يعني: كما قلنا في ركعتي الطواف: يصليهما بعد كل سبعة أشواط، فكذلك إذا دخل المسجد ثم خرج، فإنه إذا عاد مرة ثانية، فإنه يصلي ركعتي تحية المسجد.
قال المؤلف رحمه الله: [ومراده غير قيم المسجد] قيم المسجد الذي دائماً يدخل، مثل الفراش ونحوه، فإن العلماء رحمهم الله جعلوا لمن يكثر المرور والمداومة حكماً مستقلاً عن غيره، فجعلوا الذي يدخل الحرم وهو من عادته أن يدخل ويخرج كالحشاش والحطاب، حكمه يختلف عن حكم من لم يكن كذلك، فكذلك هنا، فإن الذي يظهر والله أعلم، أن الذي يخرج من المسجد بعد ما دخله لا يخلو من حالين:
الحال الأول: أن تكون نيته ألا يعود ثم عاد، مثل من كان في المسجد، ثم ودع أصحابه ثم خرج بنية عدم العودة، ثم بدا له بعد ما خرج أن يعود، فالأفضل في حقه الركعتين؛ لأنه مخاطب ابتداءً، فكان كحال من جاء أولاً.
الحال الثاني: أن يخرج لقضاء حاجة لمصلحة المسجد، أو وهو في المسجد، يعني: لم يقصد الخروج، لكن يأخذ شيئاً للرجوع إلى المسجد مثل حال المعتكف، فإن الذي يظهر والله أعلم أنه ما زال حكمه في المسجد، فلو أن شخصاً أراد أن يخرج من المسجد ليأخذ شيئاً من السيارة ثم يرجع، فإنه لا يركع.
دليله: كما أن المعتكف يجوز له الخروج كعابر سبيل ثم يرجع، فهذا لا يسمى خارجاً من المسجد، فكذلك الذي يخرج بنية العودة؛ فإنه لا يلزمه ركعتي تحية المسجد، فالذي يقصد الرجوع ولم يطل الفصل، قلنا: لا يلزمه ركعتي تحية المسجد كحال المعتكف، فإن المعتكف يخرج ولا يسمى خارجاً من المسجد، لأننا لو قلنا: إنه خارج من المسجد؛ بطل اعتكافه.
سجود التلاوة على السامع بغير قصد الاستماع
قال المؤلف رحمه الله: [دون السامع الذي لم يقصد الاستماع، لما روي أن
عثمان بن عفان رضي الله عنه مر بقارئ يقرأ سجدة ليسجد معه
عثمان فلم يسجد وقال: إنما السجدة على من استمع؛ ولأنه لا يشارك القارئ في الأجر فلم يشاركه في السجود].
الذي يظهر و الله أعلم أن السامع لا يسجد؛ لأن عثمان رضي الله عنه كما رواه البخاري معلقاً بصيغة الجزم: أنه كان قد مر وقال: إنما السجدة على من استمع، وقد صح -كما قلنا- عن ابن عباس أيضاً أنه قال: إنما السجدة على من جلس لها، والسامع لم يجلس لها.
سجود المستمع للتلاوة إذا لم يسجد القارئ
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن لم يسجد القارئ، أو كان لا يصلح إماماً للمستمع لم يسجد].
هذا مبني على مسألة أن سجود التلاوة صلاة، فيقولون: إن القارئ إذا لم يسجد، لم يسجد المستمع؛ لأن القارئ بمثابة الإمام، فكما أن المأموم لا يفعل خلاف ما يفعله الإمام، فكذلك المستمع لا يفعل خلاف ما يفعله القارئ، وقد جاء في ذلك حديث سوف يذكره المؤلف: ( أن النبي صلى عليه وسلم أتى إلى نفر من أصحابه، فقرأ رجل منهم السجدة، ثم نظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إنك كنت إمامنا، ولو سجدت لسجدنا )، وهذا الحديث يرويه زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة مرفوعاً ولا يصح، والصواب أنه مرسل عن عطاء بن يسار وعن زيد بن أسلم .
ويشهد لذلك: قصة عمر رضي الله عنه، كما رواها البخاري أنه قرأ آية فيها سجدة في المنبر فسجد؛ فسجد الناس معه، فلما كانت الجمعة القادمة قرأ سورةً فيها سجدة، فلما تهيأ الناس للسجود قال: أيها الناس! إن الله لم يفرض علينا السجود إلا أن نشاء، فلم يسجد، ولم يسجد معه الصحابة، فهذا يفيد على أن المستمع لا يسجد إذا لم يسجد الإمام، وهذا هو القول الأول في المسألة، وهو قول الحنابلة.
والقول الثاني في المسألة وهو مذهب الشافعية: إن المستمع يسجد، لما جاء عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: إنما السجدة على من جلس لها، وقول عثمان : إنما السجدة على من استمع، فكما أننا نقول: إن المستمع يشارك القارئ في الأجر، فإن حكم كل واحد منهما مستقلاً، فلو سجد القارئ ثم سجد المستمع جاز للمستمع أن يرتفع قبل القارئ، فكان ذلك دليلاً على أنه إذا جاز أن يخالف في آخر السجدة؛ جاز أن يخالفه في أول السجود، فالحنابلة يقولون: يجوز للمستمع أن يرفع قبل القارئ، فإذا جاز أن يخالفه بعد السجود جاز أن يخالفه قبل ذلك، هذا الذي يظهر.
وأما قصة عمر أنه لم يسجد الصحابة، فإن الراوي سكت عن ذلك، فإنه قال: فلم يسجد عمر ، ولم يقل: لم يسجد الصحابة والله أعلم، وقد صح عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه لم يسجد، فسجد قال: إنما أنت إمامنا، فلو سجدت لسجدنا، أو كلمة نحوها، وهذا دليل على الاقتداء، لكن الذي يظهر ترجيح قصة عثمان و ابن عباس والله أعلم.
انطباق أحكام الصلاة على سجود التلاوة
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يسجد المستمع قدام القارئ، ولا عن يساره مع خلو يمينه، ولا رجل لتلاوة امرأة، ويسجد لتلاوة أمي وصبي].
هذا بناءً على أن سجود التلاوة صلاة، فقال: لا يسجد المستمع متقدماً على القارئ، ولا يسجد المستمع إذا كان القارئ لا يصلح لإمامة الفرض ولا النفل، وقولنا: لا إمامة الفرض ولا إمامة النفل؛ لأن الحنابلة يجوزون اقتداء الكبير بالصبي في النفل، ولا يجوزون في الفرض، وعلى هذا فيجوزون أن يسجد الكبير لسجود الصبي، لكنه لا يصح اقتداء الرجل بالمرأة، فلو كانت المرأة هي التي تقرأ؛ فإنه لا يسجد؛ لأنها لا تصلح أن تكون إماماً، والراجح: أنه يسجد لأنه ليس في صلاة، فيسجد ولو لم يسجد القارئ، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ولا عن يساره مع خلو يمينه)، هذا بناءً على مسألة الاقتداء في الصلاة، والراجح: أنه يصح الصلاة عن يسار الإمام ولكنه خلاف السنة، لما جاء في قصة جبار بن صخر و جابر بن عبد الله قال: فكان أحدنا عن يمينه والآخر عن يساره. فالرسول أقرهما في تكبيرة الإحرام، ثم أخذ بيديه فأقامهما خلفه، وهذا يدل على جواز الصلاة عن يسار الإمام، ولو كانت الصلاة غير صحيحة، لما أكمل صلاته.
ومما يدل على ذلك: ما جاء عند مسلم في صحيحه في قصة عبد الله بن مسعود أنه أقام الأسود و علقمة أحدهما عن يمينه والآخر عن شماله، وقال: إذا كنتم ثلاثة فليكن إمامكم وسطكم، وهذا في أول الإسلام، ولكن يدل على صحة الصلاة، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويسجد لتلاوة أمي وصبي)، أما الأمي فإن مذهب الأئمة الأربعة: أنه لا يصح الائتمام بأمي، والأمي هو الذي لا يقرأ الفاتحة، وإنما جاز هنا؛ لأن سجود التلاوة ليس فيها قراءة، والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا؛ لأن الكلام متواصل وطويل، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.