الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهو أي: سجود التلاوة، أربع عشرة سجدة: في الأعراف، والرعد، والنحل، والإسراء، ومريم، وفي الحج منها اثنتان، والفرقان، والنمل، وألم تنزيل، وحم فصلت، والنجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك. وسجدة ص سجدة شكر ].
وقوله صلى الله عليه وسلم: عن سجدة ص، على الخلاف هل روي مرفوعاً أو هو من قول ابن عباس ؟ والصواب أنه من قول ابن عباس كما روى البخاري : ( (ص) ليست من عزائم السجود، ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها )، فذهب الحنابلة والشافعية إلى أنها ليست من عزائم السجود، وأنها سجدة شكر، وهذا يسميه العلماء سبب الخلاف، فسبب خلافهم هو أنه وجد في بعض الروايات أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد فيها، فجعلوا عدم سجود النبي صلى الله عليه وسلم فيها دليلاً على أنها ليس فيها سجدة، أو أن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن سجوده هنا إنما سجدها شكراً؛ لأن داود عليه السلام كما في سورة ص سجد شكراً لله، فقال صلى الله عليه وسلم: ( فنحن نسجدها ).
والذي يظهر والله تبارك وتعالى أعلم: أنه ما دام أن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها؛ فإنه يشرع للإنسان أن يسجد، وكونه صلى الله عليه وسلم أشار إلى علة السجود -وهو الشكر- لا ينافي أنها موضع سجود، ولهذا قال ابن عباس : ( ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها )، يعني: سجدة (ص).
وأيضاً: من المعلوم أن فعل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام -عبادةً شكراً لله- يستحب لنا الاقتداء بهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما علل سجود داود بأنه شكر واقتدى به، لقوله تعالى: فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ [الأنعام:90]، ومن المعلوم أن موسى عليه السلام صام يوم عاشوراء شكراً لله، فصامه صلى الله عليه وسلم وأمر بصيامه، وكان ذلك في أول الإسلام من عزائم الصيام، فكون النبي الذي قبل النبي صلى الله عليه وسلم يفعل عبادةً شكراً لله ويقتدي النبي صلى الله عليه وسلم به، لا يمنع أن يكون ذلك مشروعاً، فمعرفة العلل وأسباب الخلاف مهم لطالب العلم.
إذاً: الذي يظهر والله أعلم أن سجدات التلاوة خمس عشرة سجدة، ومنع الحنابلة والشافعية من سجود سجدة (ص) وقالوا: لأنها ليست من عزائم السجود، وهذا محل نظر، والذي يظهر هو مذهب الحنفية والمالكية ورواية عند الإمام أحمد ، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم سجد فيها.
وأما قولهم: إنها ليست من عزائم السجود، فيقال: ما المقصود بالعزائم؟ إن قصد بالعزائم أن سجودها عزيمة، وواجب، وهو ما ثبت موافقةً للدليل، قلنا: نعم، فليست سجدة (ص) ولا غيرها من السجدات عزائم.
وإن قيل: إن عزيمة معناه أن سجودها ليس لأجل التلاوة ذاتها، ولكن لأجل شكر داود عليه السلام لربه، فكما أن العبد يشكر ربه بالدعاء، فيشكر ربه بالصلاة.
قيل: تعليل النبي صلى الله عليه وسلم سجود داود بأنه للشكر، لا ينفي مشروعية السجود بدليل أنه سجد، فاقتداؤنا هو بفعله صلى الله عليه وسلم لا بفعل داود كما نقول ذلك في صيام عاشوراء، فاقتداؤنا هو بفعله لا بفعل موسى، كما نقول أيضاً في السعي بين الصفا والمروة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء عند ابن خزيمة عن ابن عباس أن الرسول صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت هاجر ، فاقتداؤنا في السعي بين الصفا والمروة إنما هو بفعله لا بفعل هاجر ، وهذا إن شاء الله بين واضح والله أعلم.
وعلى هذا: فإن الراجح والله تبارك وتعالى أعلم: أن سجدات التلاوة خمس عشرة سجدة، وكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجد في المفصل، فهذا ليس فيه دلالة على عدم مشروعية السجود، ولكنه دليل على عدم وجوب سجود التلاوة، بدليل: أن ما حفظ عنه عليه الصلاة والسلام في أنه لم يسجد، قد حفظ عنه عليه الصلاة والسلام أنه سجد، هذه هي قاعدة هذه المسألة.
وبالمناسبة في نسخ بعض الروض خطأ، لأنه قال: (ألم تنزيل)، ثم قال: و(حم السجدة)، حتى في الحاشية، والمعروف أن (ألم تنزيل) هي السجدة، و(حم) هي فصلت.
وسورة (النجم، والانشقاق، واقرأ باسم ربك، وسجدة ص)، إذاً: هي أربع عشرة سجدة على المذهب من غير سجدة ص، والراجح -والله أعلم- هو مذهب أبي حنيفة و مالك ورواية عند الإمام أحمد : أن سجدة ص يسجد فيها، لقول ابن عباس: ( ورأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ).
أما ما معنى عزائم السجود، فقد قلنا: إن كان المقصود بالعزائم هو الوجوب، فليست سجدة (ص) ولا غيرها من سجدات القرآن عزيمة، وإن قيل: إن العزيمة بمعنى ما قصد بها سجود التلاوة، قلنا: اقتداؤنا في سجدة (ص) هي بفعله صلى الله عليه وسلم لا بفعل داود عليه السلام.
هذا مذهب جمهور أهل العلم خلافاً للحنفية، فإن الحنفية قالوا: يجزئه الركوع عن السجود، وهذا محل نظر، وذلك أن موضع السجود فيه من التذلل والخضوع ما ليس في الركوع، ثم إنه لا يكون الإنسان قد فعل المأمور حينما يقال له: اسجد فيركع، فكما أنه لا يدل على فعل المأمور فإنه يدل على أنه لا يجزئه، وسجدة الصلاة لا تجزئ أيضاً لأمور:
لأن سجدة الصلاة ركن لها موضع، وسجدة التلاوة سنة لها موضع، ولو سجد للصلاة عن سجدة التلاوة لقيل: سنة فات محلها، لأن السجدة في الصلاة لا تتم إلا بعد قراءة وركوع، ورفع من الركوع، ثم سجود.
المذهب أن الإنسان يكبر تكبيرتين لسجود التلاوة، سواء كان داخل الصلاة أو خارج الصلاة، يكبر للخفض، ويكبر للرفع، استدلالاً بما رواه الحاكم من حديث ابن عمر ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ سورةً فيها سجدة فكبر وسجد، وكبر ورفع )، وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن عمر العمري المكبر ، وما جاء في بعض نسخ الحاكم أنها من رواية عبيد الله فهذا وهم، والصحيح في رواية عبيد الله عن نافع عن ابن عمر كما في الصحيحين، أنه ليس فيها ذكر التكبير، لا في الرفع، ولا في الخفض، قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ سورة فيها سجدة، فسجد، فسجدنا معه حتى ما يجد أحدنا موضعاً لمكان جبهته )، إذاً: ليس فيها ذكر التكبير.
ومما يستدل به الحنابلة أن سجود التلاوة صلاة، أن النبي صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد من حديث أبي هريرة ( يكبر في كل خفض ورفع )، فإذا كان سجود التلاوة صلاة؛ فهو يكبر في كل خفض ورفع.
والراجح أن سجود التلاوة ليس بصلاة، وهو مذهب ابن حزم ورواية عند الإمام أحمد ، اختارها أبو العباس بن تيمية .
ولو قلنا: إن سجود التلاوة صلاة؛ فليس المقصود بأنه كالصلاة، ولكن المقصود أن سجود التلاوة يفعل فيه ما يفعل في صلاة النافلة من الشروط والأركان، ومن المعلوم أن سجود التلاوة ليس فيه ركوع ولا قيام، وحديث أبي هريرة : ( أنه كان يكبر في كل خفض ورفع )، المقصود به ما كان فيه قيام وخفض، وهذا خارج الصلاة.
الحنابلة يقولون: إذا رفع من السجود، فإنه يجلس إذا لم يكن في صلاة؛ لأنه إذا كان في صلاة فإن جلوسه ليس موضعاً للجلوس، فإن الواجب في حقه أن يقوم: إما ليكمل القراءة، وإما ليركع، وأما إن كان خارج الصلاة فإنهم قالوا: يجلس وجوباً ويسلم، لأنهم يرونها صلاة.
والراجح والله أعلم، أنها ليست بصلاة، خلافاً للأئمة، وأنه لا يشرع فيها سلام كما هو مذهب أبي حنيفة و مالك ، ولهذا قال أبو العباس بن تيمية رحمه الله : لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه أن فيه تسليماً.
أي: لا يتشهد لسجود التلاوة كصلاة الجنازة، فإن صلاة الجنازة ليس فيها تشهد، فكذلك سجود التلاوة، وأقول: إن هذا القياس محل نظر؛ لأن صلاة الجنازة ليس فيها جلوس، وسجود التلاوة على المذهب فيه جلوس، وعلى هذا فقياسه بالصلاة العامة، أولى من قياسه بصلاة الجنازة، وإن كان الراجح والله أعلم أنه لا يشرع التشهد، لعدم ورود ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا عن أحد من أصحابه، ولو قيل بأنه لا يشرع التشهد؛ لأن وجود التشهد يدل على أن المقصود ليس سجود التلاوة لو قيل بذلك لم يكن ببعيد.
المذهب عند الحنابلة أنه إذا أراد أن يسجد رفع يديه، كما جاء ذلك في حديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه في كل خفض ورفع )، وهذا الحديث ضعيف، والصحيح فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر وليس يرفع يديه ( أن النبي كان يكبر في كل خفض ورفع )، وأما رواية ابن مسعود : (كان يرفع يديه في كل خفض ورفع )، فضعيفة، ولهذا كان القول الراجح هو مذهب جمهور أهل العلم على أنه لا يرفع يديه، ومما يدل على ذلك ما جاء في الصحيحين من حديث ابن عمر أنه حينما ذكر رفع اليدين قال: ( ولا يفعل ذلك في السجود ).
فإن قيل: إن المثبت مقدم على النافي؛ لأن حديث ابن مسعود مثبت، وحديث عبد الله بن عمر -ولا يفعل ذلك في السجود- ناف، والقاعدة أن المثبت مقدم على النافي.
فالجواب: أن هذه القاعدة في حق من أثبت على من سكت عن النفي، وأما من نفى عن علم فلا يقال فيه: المثبت مقدم على النافي.
فإذا قال الصحابي: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل كذا وكذا، فهذا دليل عن إثبات لا عن مطلق النفي والله أعلم. كما أشار إلى ذلك ابن تيمية رحمه الله.
وعلى هذا: فالراجح هو عدم رفع اليدين.
يعني: إذا كان خارج الصلاة وقرأ آية فيها سجدة فإنه يقوم ثم يسجد، فالمذهب يستحب القيام، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، وقد رجحه في الفتاوى المصرية التي تسمى الفتاوى الكبرى، استدلالاً بما رواه البيهقي من حديث مولاة لـأم سلمة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصنع ذلك، والحديث ضعيف، وقد ضعفه النووي رحمه الله، وروي عن عائشة أيضاً، وهو ضعيف.
واستدلوا أيضاً بقوله تعالى: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً [الإسراء:109]، قال ابن تيمية : فكون الإنسان يأتي من أعلى خاراً لسجوده أدل على الخضوع والانقياد مما لو كان ساجداً.
والجواب على هذا أن يقال: إن هذه الآية في حق من قرأ القرآن وهو قائم؛ لأن الله إنما ذكر صفة أهل التقوى، حينما كانوا يقرءون القرآن وهم في الصلاة: وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا [الإسراء:109].
وأيضاً: أن كل من نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم قراءة السجدة خارج الصلاة، لم يحفظ عنه أنه حكى أن النبي صلى الله عليه وسلم قام ثم سجد، فيقال لـابن تيمية رحمه الله: فكما أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه تسليماً في سجود التلاوة، فكذلك لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه بإسناد صحيح قيام في سجود التلاوة.
فكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعله مع وجود المقتضي لفعله؛ دل على أنه ليس بمشروع، والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر