الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [والخامس: إذا شرعت الشمس فيه أي: في الغروب حتى يتم لما تقدم، ويجوز قضاء الفرائض فيها، أي: في أوقات النهي كلها، لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ) متفق عليه، ويجوز أيضاً فعل المنذورة فيها؛ لأنها صلاة واجبة، ويجوز حتى في الأوقات الثلاثة القصيرة فعل ركعتي طواف لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلى فيه في أي ساعة شاء من ليل أو نهار )، رواه الترمذي وصححه، وتجوز فيها إعادة جماعة أقيمت وهو بالمسجد، لما روى يزيد بن الأسود قال: ( صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الفجر فلما قضى صلاته إذا هو برجلين لم يصليا معه، فقال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله! قد صلينا في رحالنا، قال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم فإنها لكما نافلة )، رواه الترمذي وصححه، فإذا وجدهم يصلون لم يستحب الدخول. وتجوز الصلاة على الجنازة بعد الفجر والعصر دون بقية الأوقات، ما لم يخف عليها، ويحرم تطوع بغيرها، أي: غير المتقدمات: من نحو إعادة جماعة وركعتي طواف، وركعتي فجر قبلها في شيء من الأوقات الخمسة، حتى ما له سبب].
الوقت الخامس عند الحنابلة: وهو (إذا شرعت الشمس فيه أي في الغروب حتى يتم)، وقد ذكرنا في الشرط الرابع وهو: إذا صلى العصر إلى غروبها، أن الذي يظهر والله أعلم، أن قوله: إلى غروبها، يعني: إلى اصفرار الشمس، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ووقت العصر ما لم تصفر الشمس )، أي: إن العصر له وقتان: وقت اختيار، ووقت ضرورة، هذا الذي يظهر والله أعلم من مجموع النصوص.
ومعنى وقت الاختيار: أن للإنسان أن يؤخر صلاة العصر ما لم تصفر الشمس، فإن اصفرت الشمس فإنه وإن أداها في وقتها، إلا أنه يحرم عليه ذلك، هذا هو الذي يظهر والله أعلم، ودليل ذلك: ما ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، تلك صلاة المنافق، يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني شيطان قام فنقرها أربعاً لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلاً )، فسمى النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة بصلاة المنافق، لكونه أداها في وقتها الضروري، قبل أن تغرب الشمس، هذا الذي يظهر والله أعلم، وهذا هو مذهب الشافعية في الجملة، ورواية عند الإمام أحمد .
قال المؤلف رحمه الله: (والخامس إذا شرعت الشمس فيه أي: في الغروب حتى يتم)، ليس المقصود به أن يغيب أول القرص، وإن كان ظاهر كلام المؤلف، والذي يظهر أنه من اصفرار الشمس حتى الغروب، إلا أن الشمس إذا شرعت في الغروب؛ فإن الحرمة تزداد، لما روى ابن عمر مرفوعاً: ( إذا غاب حاجب الشمس فأخروا الصلاة حتى تغيب ) متفق عليه.
ومن المعلوم أنه إذا غاب حاجب الشمس؛ فإن الانتظار حتى يغيب قرص الشمس لا يزيد عن دقيقتين أو ثلاث، وهذا وقت مغلظ، ووقع إشكال عند من قال بجواز فعل ذوات الأسباب، هل للإنسان إذا دخل المسجد في مثل هذا الوقت أن ينتظر أم يصلي؟ لأنه يستطيع أن ينتظر، خاصةً أنه لو أراد أن يصلي، فإن صلاته سوف تنتهي بعد غروب الشمس، فهل لو انتظر قائماً يجوز؟ أو أن الحكم معلق بعدم إشغال بقعة في المسجد، فانتظاره قائماً كجلوسه؟ كما أشار إلى ذلك الإمام الشوكاني في شرحه لحديث النعمان بن بشير : ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس )، فقد أشار إلى مثل هذه المسألة.
فالذي يظهر لي والله أعلم: أنه إن كان الوقت قبل الأذان بدقيقتين تقريباً؛ فالأفضل له أن يؤخر، ويسبح ويهلل حتى يدخل الوقت، إلا إذا كانت الصلاة صلاة العصر؛ فإنه يصليها، لحديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أدرك ركعةً من صلاة العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر، ومن أدرك ركعةً من صلاة الفجر قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الفجر )، وهذا دليل على أنه ولو كان حاجب الشمس قد شرع في الغروب فإنه يقضي.
وإذا ثبت هذا، فإننا نقول: إن الشروع في الغروب يشتد فيه النهي، وإلا فإن النهي قد بدأ من اصفرار الشمس، لحديث عبد الله بن عمرو بن العاص ، وجاء في حديث قصة جبريل: أن وقت العصر إذا كان ظل الرجل مثليه، وقوله: (مثليه) هو وقت الاصفرار، وقد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : ( ووقت العصر إذا كان ظل الرجل كطوله ما لم تصفر الشمس )، فبين بدايته ونهايته الاختيارية، ما لم تصفر الشمس، أو إذا كان ظل الرجل مثليه، والله أعلم.
والذي يظهر: أن الصلاة المنذورة إن كان يخاف ألا يؤديها، أو يخاف عدم أدائها؛ فإنه يصليها كيفما اتفق ولو كان في وقت النهي.
وإن كان يغلب على الظن السلامة، فإن الذي يظهر والله أعلم أنه لا يصليها، وإن صلاها جاز؛ لأنها من ذوات الأسباب كما سوف يأتي، والخلاف هنا والتفصيل من باب الأفضلية.
مثاله: لو أن مدرس حلقة صلى العصر في مسجده، ثم جاء إلى المسجد الذي يدرس فيه والإمام يصلي العصر، فعلى مذهب الحنابلة لا يصلي مع الإمام، واستدلوا على ذلك بما جاء في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر صلاة الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها، قال أبو ذر : ( يا رسول الله ! فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها إذا كنت في المسجد ولا تقل: قد صليت )، فقوله: (إذا كنت في المسجد)، دليل على أن الحكم معلق بكونه في المسجد، وقت الإقامة، أما إن أقيمت وهو خارج المسجد فلا، هذا مذهب الحنابلة.
إذاً: يقضي في أوقات النهي: الفرائض، والمنذورة، ركعتي الطواف، وإذا أقيمت الصلاة وهو في المسجد.
والراجح والله أعلم: أنه إذا صلى ثم أقيمت الجماعة وهو خارج المسجد؛ فلا بأس أن يدخل المسجد فيصليها معهم؛ لعموم حديث جابر بن يزيد بن الأسود عن أبيه، وقد ذكره المؤلف، وفيه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ما منعكما أن تصليا معنا؟ فقالا: يا رسول الله! إنا كنا قد صلينا في رحالنا، فقال: لا تفعلا، إذا صليتما في رحالكما ثم أتيتما مسجد جماعة فصليا معهم تكن لكما نافلة )، فقوله صلى الله عليه وسلم: (ثم أتيتما مسجد جماعة)، عام، يفيد أتيتما مسجد جماعة قد أقيمت الجماعة أو لم تقم، فالقاعدة أن ترك الاستفصال في مقام الاحتمال ينزل منزلة العموم في المقال.
وعليه فيكون الشاهد من قوله صلى الله عليه وسلم في حديث أبي ذر : ( صل الصلاة لوقتها، فإن أقيمت وأنت في المسجد فصل، ولا تقل: إني صليت فلا أصلي )، أن الأئمة سوف يؤخرونها إلى قريب من وقت الأخرى، فيأتي الإنسان فيجلس في المسجد ينتظر الصلاة الثانية، ويكون هذا من باب حكاية الحال، أو أنه خرج مخرج الغالب.
وعليه: فالصحيح أن إعادة الجماعة تجوز إذا كان في مسجد، أما إذا لم يكن في المسجد، مثل: لو أن إنساناً صلى العصر في مسجده، ثم جاء إلى جماعته وجلس في الاستراحة وهم يصلون العصر فلا يصلي معهم؛ لعموم أحاديث النهي عن الصلاة بعد العصر، فالحكم معلق على الراجح بالمسجد، وعند الحنابلة معلق بشرطين: أن يكون في المسجد، وأن يكون متواجداً قبل الإقامة.
قال المؤلف رحمه الله: (فإذا وجدهم يصلون؛ لم يستحب الدخول)، الحنابلة يجوزون الدخول، لكنهم لا يستحبونه ففي أوقات النهي عند الحنابلة، إذا جاء والإمام يصلي؛ فلا يستحب له الدخول، فإن دخل جاز، لكن الأفضل عدمه لحديث أبي ذر ، وقلنا: إن الراجح استحباب ذلك مطلقاً.
وأما في الأوقات الثلاثة فقد جاء في حديث عقبة بن عامر : ( ثلاث ساعات نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نصلي فيهن أو أن نقبر فيهن موتانا )، فقوله: (أن نصلي فيهن)، هذا مخصوص بالصلاة العامة، ليست صلاة الجنازة، وأما قوله: (وأن نقبر فيهن)، فإن هذا في الدفن.
وعليه فالذي يظهر والله أعلم: أن صلاة الجنازة لا بأس بها، إلا أن الأفضل تأخير ذلك، مثل ما يحصل أحياناً يموت الإنسان في الصباح، ثم يغسل وينتهي تكفينه قبل الصلاة، وبعض الناس يرى أن السنة الإسراع، وعليه فربما صلوا حين يقوم قائم الظهيرة قبل أن تزول الشمس، وهذا الأولى تركه.
وما يفعله بعض الإخوة -هذه للمناسبة- حينما يأتون خاصة قبل صلاة الظهر وفي أوقات النهي، إلى جامع الراجحي فيصلون على الجنائز قبل أذان الظهر بخمس دقائق أو عشر دقائق، وهذا وقت نهي، ثم ينطلقون بعد الصلاة إلى جامع ابن تيمية ليدركوا الجنائز الأخرى، وهذا الحكم متعلق بأمرين:
الأمر الأول: أنه إن كان في وقت نهي، فإن هذا ليس من ذوات الأسباب، لأنه قصد الصلاة عليها في هذا الوقت، فهو ممنوع منه؛ لأن الجنازة لم يصل عليها إلا هو، فهذا ينبغي له ألا يصنع ذلك، لعموم حديث عقبة بن عامر ، ونحن وإن جوزنا الصلاة فيها للحاجة، لكن مثل هذا ليس للحاجة.
الأمر الثاني: حكم الطريقة هذه، حينما يذهب إلى المساجد ليصلي فيهن على الجنائز، الذي يظهر لي والله أعلم: أن هذا جائز، إذا لم يكن في وقت نهي، مثلما لو صلى بعد المغرب، أو قبل العصر، لكني أقول: إن فعلهم ليس بالأفضل، لكونه ربما تفوت عليهم تكبيرة الإحرام، والأفضل في حقهم أن يدركوا تكبيرة الإحرام مع الإمام، فهي خير من الدنيا وما فيها.
صحيح أن ابن عمر حينما بلغه حديث أبي هريرة : ( من صلى مع الجنازة فله قيراط ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان فقال: لقد فرطنا في قراريط كثيرة )، لكن هذا شيء، وما يفعله بعض الإخوة من المبالغة في هذا شيء آخر، بحيث أنهم لا يدركون الجماعة لشغلهم بالتنقل بين المساجد للصلاة على الجنائز؛ فأخشى أن يكونوا بحثوا عن سنة وتركوا سنةً أعظم، أو ربما تركوا واجباً وهو الجماعة.
وعلى هذا: فالذي يظهر أن صلاة الجنازة تجوز في مثل هذه الأوقات إذا خيف عليها، أو كثرت الجنائز كما في وقت الحروب والفيضانات والكوارث، فإنه يشق على الناس التأخير فلا حرج، فإن كان في وقت السعة والاختيار فالأفضل أن يؤخروهن.
إذاً: الحنابلة استثنوا خمس صلوات تصلى في أوقات النهي؛ لأنهم يرون أن فعل ذوات الأسباب في أوقات النهي محرم، وجمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والحنابلة يرون أن أوقات النهي لا يجوز أداء العبادة فيها، واستثنى الحنابلة هذه الأشياء الخمسة، مع أن البقية لم يستثنوا، إلا بعد صلاة العصر والفجر للجنائز إجماعاً، وأوقات الفرائض.
وذهب الشافعية ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية وهو ظاهر اختيار بعض المحققين كـالخطابي وغيره: أن الاستثناء ليس محصوراً على الخمسة هذه، بل يجوز كل ما له سبب.
إذاً نعيد ذكر الخمس التي ذكرها فنقول: الفرائض، والمنذورة، وركعتي طواف، وإعادة جماعة وهو في المسجد، وصلاة الجنازة بعد العصر والفجر.
وزادوا أمرين: الأمر الأول: ركعتي الفجر إذا لم يكن قد صلاها قبل الفجر فإنه يصليها بعده، الأمر الثاني: ركعتي الظهر إذا جمعت مع العصر في وقت الأولى أو وقت الثانية.
إذاً هي عند الحنابلة سبع، والذي يظهر والله أعلم: أن ذلك لا بأس به حتى السنن الرواتب على الراجح، وهو مذهب الشافعي والإمام أحمد في رواية اختارها أبو العباس بن تيمية وبعض المحققين كـالخطابي وغيره.
ودليل ذلك: أولاً: أن أوقات النهي إنما نهى عن تحري الصلاة فيها، فمن تحرى الصلاة في مثل هذه الأوقات؛ حرم عليه ذلك، لما جاء في صحيح مسلم من حديث عائشة ، وصحيح البخاري من حديث ابن عمر : ( لا تتحروا بصلاتكم طلوع الشمس ولا غروبها فتصلوا عند ذلك ).
ثانياً: أن أحاديث النهي من العام المخصوص، وأحاديث الأمر من العام المحفوظ، فهو خاص بالعبادة، عام في جميع الأوقات، كتحية المسجد فهي خاصة بتحية المسجد عامة في جميع الأوقات، وخاصة في سنة الوضوء عامة في جميع الأوقات، فهو من العام المحفوظ، وأما أوقات النهي فهي عامة في جميع الصلوات، خاصة في بعضها؛ كالسبعة التي ذكرناها عند الحنابلة.
فنقول: إن أحاديث أوقات النهي من العام المخصوص، فقد نص الشارع على تخصيص بعضها حتى في أوقات النهي، ولهذا قال: ( أي ساعة شاء من ليل أو نهار )، وأحاديث الأمر من العام المحفوظ، فلم يخصها عليه الصلاة والسلام بعدم فعلها في وقت دون وقت، والقاعدة: إذا تعارض عام مخصوص مع عام محفوظ، فالمقدم العام المحفوظ.
ثالثاً: أنه قد ثبت عندنا الأمر بالصلاة، حتى في وقت النهي، فدل ذلك على أن كل ما له سبب، فإنه يدخل في العموم، هذا من باب نفي الفارق، فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث جابر : أن سليكاً الغطفاني جاء والرسول صلى الله عليه وسلم يخطب، ومن المعلوم أنه لا يجوز الانشغال عن سماع الخطبة، فأمره صلى الله عليه وسلم أن يصلي ركعتين وليخفف فيهما، مع أن هذا وقت نهي لأداء عبادة مطلقاً، وأمر من دخل المسجد الحرام للطواف أن يصلي أي ساعة شاء من ليل أو نهار، فدل ذلك على أنه كل ما له سبب فلا حرج في فعله في أوقات النهي، والله أعلم.
نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر