الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم! نسأله سبحانه وتعالى كما من علينا باستكمال هذه الدروس، أن يمن علينا بتعلم العلم وتعليمه خالصاً لوجهه الكريم، وأن يرزقنا فقه الوحيين وحفظهما آناء الليل وأطراف النهار، وأن ينفعنا بما علمنا ويعلمنا ما ينفعنا، وأن يزيدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:
فلا شك أن الاشتغال بالعلم مع إخلاص النية من أعظم ما يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، خاصةً في زمن المدلهمات واختلاف الآراء والمشكلات التي يتطلب من المرء بعد الاعتصام وتقوى الله سبحانه وتعالى أن يطلب العلم، فالعلم بإذن الله معين صاف وحصن حصين لكل علاجات الشهوات والشبهات والآراء والاختلافات.
ولأجل هذا: ينبغي للإنسان ألا ينقطع عن العلم، وإذا أحس بانقطاع عن العلم فليعلم أن ذلك بسبب أمرين: نعمة كفرها، أو نعمة صد عنها، فإن كان نعمة كفرها، فليبادر بشكر النعمة بأن يعلمها ويتعلمها، وإن كان قد صد عنها والعياذ بالله! فلا أرى ذلك إلا بسبب معاصيه واقترافه على نفسه وإسرافه عليها، فليراجع نفسه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم يقول كما في الصحيحين من حديث معاوية : ( إنما أنا قاسم والله يقسم، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، فإذا أراد الله بعبده خيراً منحه العلم تعلماً وتعليماً وفقهه فيه، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إنما أنا قاسم والله يقسم، ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين )، فدل ذلك على أن أعظم القسم الذي يقسم الله سبحانه وتعالى به لأحد عباده هو العلم، ولهذا قال الإمام مالك رحمه الله في رسالته المعروفة لـيحيى و لـعبد الله بن عبد الله العمري قال: وأرى أن الله قسم لي العلم كما قسم لك العبادة، وأرى أن كلانا على خير، ولست بالذي أنا فيه بأقل مما بالذي أنت فيه، فدل ذلك على أن العلم وتعلم العلم وتعليمه من أعظم ما يتقرب به إلى الله سبحانه وتعالى، وينال العبد بإذن الله بعد الإخلاص شرف الدين والدنيا، يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وهذه المسألة من مشكلات باب الصلاة، أعني به باب الإمامة والائتمام، وهي أعظم مسألة وأكثر مسألة مشكلة، فقد صنفت فيها التصانيف ما بين مؤيد ومعارض، وتكلم الأئمة في الأحاديث الواردة في هذا الباب، ولعلنا بإذن الله نذكر قولاً نحسب أنه قول جامع للأحاديث غير متأثرين بقول فلان أو علان.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا قراءة على مأموم أي: يتحمل الإمام عنه قراءة الفاتحة لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من كان له إمام فقراءته له قراءة )، رواه أحمد ، ويستحب للمأموم أن يقرأ في إسرار إمامه، أي: فيما لا يجهر فيه الإمام، وفي سكوته أي: سكتات الإمام، وهي قبل الفاتحة وبعدها بقدرها، وبعد فراغ القراءة، وكذا لو سكت لتنفس، وفيما إذا لم يسمعه لبعد عنه لا إذا لم يسمعه لطرش، فلا يقرأ إن أشغل غيره عن الاستماع، وإن لم يشغل أحداً قرأ].
قول المؤلف رحمه الله: (ولا قراءة على مأموم)، يعني: في الجهرية، هذا مذهب الحنابلة، فالحنابلة وقد وافقهم على ذلك المالكية يرون أن المأموم لا يقرأ شيئاً من القرآن خلف إمامه في الجهرية، وأما في السرية فيستحب له أن يقرأ الفاتحة وما تيسر من القرآن، وأما في الجهرية فإنه لا يقرأ ولا يجب عليه أن يقرأ، ورأوا أن ذلك ليس من السنة، هذا مذهب الحنابلة وكذا المالكية.
الحديث الأول: حديث عبادة بن الصامت أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بأم الكتاب )، وهذا الحديث متفق عليه، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا صلاة) هل المقصود نفي صحة أم نفي كمال واجب أم نفي كمال مستحب؟
الحنابلة يرون أنها في حق الإمام والمنفرد نفي صحة، وفي حق المأموم نفي كمال مستحب في السرية دون الجهرية، ولأجل هذا المعنى المختلف فيه اختلف الفقهاء. وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها من باب نفي كمال المستحب في حق الإمام، إلا آية واحدة، وفي حق المأموم أنه غير داخل، بل جوز في السرية وكره في الجهرية.
وأما الشافعية وهو قول ابن حزم فإنهم أوجبوها في حق الإمام والمنفرد والمأموم، وقالوا: إن المراد في الحديث: نفي صحة، والقول الآخر: نفي صحة في حق الإمام ونفي كمال الواجب في حق المأموم.
الحديث الثاني: ما رواه البخاري في جزء القراءة خلف الإمام، وكذا الإمام أحمد وأهل السنن و البيهقي في السنن الكبرى من طريق محمد بن إسحاق عن مكحول عن محمود بن لبيد عن عبادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟! قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب، فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، وهذا الحديث تكلم فيه الحفاظ، فضعفه الإمام أحمد كما نقل ذلك ابن قدامة و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله، وصححه جمع من أهل العلم، فقد صححه الإمام البخاري و البيهقي و الدارقطني و ابن حبان وغيرهم وقالوا: إن محمد بن إسحاق هذا لم يتفرد بالحديث، فقد تابعه زيد بن واقد فدل ذلك على حسن هذا الحديث ونظافة إسناده هكذا يقوله الأئمة، والذي يظهر والله أعلم أن الحديث إلى الحسن أقرب.
الحديث الثالث: حديث يرويه الزهري عن أبي تميمة عن أبي هريرة رضي الله عنه ( أن النبي صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال: هل قرأ أحد منكم معي آنفاً؟ فقال رجل: نعم يا رسول الله! قال: إني أقول: ما لي أنازع القرآن؟ ما لي أنازع القرآن؟ ما لي أنازع القرآن؟ )، قال الزهري : ورويت مرفوعة ولا يصح، والصواب قول الزهري : فانتهى الناس عن القراءة خلف الإمام. وهذا الحديث رواه الإمام أحمد و أبو داود وغيرهما، وقد تكلم فيه العلماء بسبب وجود الراوي عن أبي هريرة ، وهذا الحديث من الأمثلة التي يحتج بها الأئمة في أن الراوي عن الصحابي مجهول، ولكن أبا حاتم و أبا عمر بن عبد البر صححا الحديث، وقالوا: إن هذا الراوي أبا تميمة ذكر هذا الحديث في مجلس سعيد بن المسيب ورضي سعيد بقوله، فلو لم يكن ثقة عند سعيد ومعروفاً بالحديث لما تكلم بين يدي سعيد بن المسيب ، ولعل هذا القول أقرب، وقد رواه الترمذي وصححه.
إلا أن أهل العلم قالوا: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( ما لي أنازع القرآن؟ )، فهم منه أهل العلم معنيان: المعنى الأول: وهو مذهب أحمد و مالك : أنه لا ينبغي لأحد أن يقرأ خلف الإمام، وهو قول أبي حنيفة ، فيكون هذا هو قول الجمهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( ما لي أنازع القرآن؟ )، ففهم أبو حنيفة أن القراءة خلف الإمام ليست مستحبة ولا واجبة سريةً كانت أم جهرية، ورأى أحمد و مالك أن هذه لا تتأتى إلا في المنازعة، والمنازعة حاصلة في الجهرية دون السرية، والحديث يحتمل؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: إنها في صلاة جهرية، لكن الواقع أنها في الجهرية؛ لأنه جاء في بعض الروايات: ( انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة )، فيكون قول مالك و أحمد أقوى.
المعنى الثاني: ذهب الشافعي و ابن حزم ومن معه: أن هذا الحديث على القول بصحته إنما هو في غير الفاتحة؛ لأن القاعدة عند علماء الأصول: أن الأحاديث التي تتعارض في نظر المجتهد والرائي يجمع بينها، فقد أمر بالفاتحة في حديث ونهى عن القراءة في حديث، فيكون النهي في غير الفاتحة.
وقوله: (فانتهى الناس) هذا الصحيح أنه من قول الزهري ، جاء في بعض الروايات أنه مرفوع، بمعنى أن الصحابي يقول: فانتهى الناس، لكن الصواب أنه ليس مرفوعاً، فحكم المرفوع معناه: أقرهم النبي صلى الله عليه وسلم على القراءة، هذا القصد، مثل قوله: ( كنا نعزل والقرآن ينزل ) هذا من نفس الباب.
الحديث الرابع: حديث أبي هريرة رضي الله عنه كما في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من لم يقرأ بفاتحة الكتاب فهي خداج خداج خداج غير تمام ).
الحديث الخامس: ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ولعبدي ما سأل، فإذا قال عبدي: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، قال الله: حمدني عبدي )، الحديث، قالوا: فهذا الحديث دليل على أنه لم يفرق بين مأموم وإمام.
الحديث السادس: حديث جابر بن عبد الله الذي رواه الدارقطني والإمام أحمد و ابن ماجه و الطحاوي في شرح معاني الآثار وغيرهم، وهو: ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )، وهذا الحديث تكلم فيه أهل العلم، وقد رأيت بعض المشايخ المتأخرين يقول: الحديث حسن ويعضده ظاهر القرآن والسنة، وهذا غريب! غريب أن تحسن حديثاً؛ لأن ظاهر الكتاب والسنة يعضده! مع أن الأحاديث متعارضة، ولا يقال في علم الرجال: إن هذا الحديث صحيح ويعضده القرآن، ولكن نقول: الحديث معناه صحيح؛ لأنه يعضده القرآن، لكن إن كان الحديث ضعيفاً فلا يصحح الحديث لأنه يعضده القرآن.
ولهذا كان الصواب في هذا الحديث: أنه مرسل، فقد ضعف الحديث الحافظ الذهبي و ابن الجوزي و ابن حزم ، وقد أطال العلماء في الكلام على هذا الحديث، وذكر الحافظ ابن حجر إرساله.
هذه الأحاديث المرفوعة.
ومن المعلوم أن الأئمة عندهم شبه إجماع: أن القراءة خلف الإمام في الجهرية في غير الفاتحة مكروهة، فدل ذلك على أن أثر ابن عمر وأثر ابن عباس ليس ظاهراً في المراد، وقد جاء عن ابن مسعود رضي الله عنه بإسناد جيد (أنه أمر بقراءة الفاتحة خلف الإمام تأسياً بقول عمر )، وقد لا يكاد يخالف ابن مسعود عمر بن الخطاب رضي الله عنه، فقد كان يقتدي به وبعلمه.
وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عن الجميع وهو ظاهر قول أبي هريرة : ( فهي خداج فهي خداج ).
وقد ورد أن أحد الصحابة قرأ خلف النبي صلى الله عليه وسلم غير الفاتحة فنهي عنه، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ( ما لي أنازع القرآن )، ولهذا جاء في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي إما الظهر وأما العصر فقرأ بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]. فلما سلم قال: أيكم قرأ بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]؟ فأرم القوم، فقال: أيكم قرأ بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]؟ فقال رحل: أنا يا رسول الله! ولم أرد بها إلا الخير قال: قد علمت أن بعضكم خالجنيها )، فتجد أن بعض الناس أحياناً يرفع صوته ويضر من معه.
إذاً هذه الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، وقد ذكرنا أقوال الأئمة، وقد تكلم الأئمة وصنفت في ذلك كتب، وعندي إيرادات سوف أذكر هذه الإيرادات ثم أقولها، لكن السؤال: لماذا ذكرت هذه الأحاديث والآثار؟
لأننا أحياناً نجد إماماً من الأئمة يأخذ أحد القولين ويكون قوله فيه قوة، فتجد أنك إذا تناقشت وتناظرت مع بعض طلاب العلم، يقول لك: قال أبو العباس بن تيمية ، وهل هذا إلا عبث في الشرع، دعونا من هذا الكلام، نحن متعبدون بالآثار، لو أن عامة أهل العلم على مسألة، وليس ثمة آثار فيها سمعنا وأطعنا، واتهمنا الرأي، لكن المسألة فيها إشكال، فيها قول عمر ، فيها قول ابن مسعود ، كنيف ملئ علماً، فالمسألة ليست بأكثر مما أن نتأمل الأحاديث وآثار الصحابة.
والذي يظهر: أنها ركن، وهذا قول جمهور أهل العلم، فهو قول مالك و أحمد وأحد القولين عن الشافعي و ابن حزم ، وعلى هذا هو قول عامة أهل العلم في حق الإمام والمنفرد، فيكون (لا صلاة) نفي صحة، وقال بعضهم: أنها في حق الإمام واجبة، والذي يظهر والأحوط هو القول الأول، وإن كان القول الثاني له حظ من النظر.
أما المأموم فإنه يبعد أن نقول: إن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، محمولة على الإمام ركنية وعلى المأموم سنية في سرية، ولا تستحب في جهرية، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد خاطب بحديث واحد، إلا أن تكون ثمة أحاديث تقوي هذا المعنى، فكونه صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، فهذا اللفظ الذي يظهر: إما أن يقال: إن المأموم حكمه حكم إمامه، أم أنه غير داخل في هذا الحديث. فيقال: إن المأموم داخل في حكم هذا الحديث فيكون حكمه حكم الإمام بأنها ركنية، أو يكون غير داخل في هذا الحديث، وهذا أقعد على طريقة علماء الأصول، أما أن أدخله لعموم الحديث وأعطيه حكماً آخر مخالفاً لحكم الإمام، فهذا يسمى عند علماء الأصول: تخلف للحكم، لكن نقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ )، الذي يظهر والله أعلم: أنها خاصة في هذا الحديث بالإمام.
والمأموم نقول: المأموم في حديث آخر -وإن كان ظاهره قريباً منه- وهو قوله صلى الله عليه وسلم: ( لعلكم تقرءون خلف إمامكم؟ قالوا: نعم، قال: فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب )، إذاً الأمر جاء ( إلا بأم الكتاب )، وعلى هذا: فالمأموم يجب عليه أن يقرأ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إلا بأم الكتاب )، وقوله في تمام الحديث: ( فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ )، فإن هذا نفي كمال الواجب في حق المأموم؛ لأنه اختلف اللفظ عن الأول، الأول لم يكن فيه قيد، وهذا فيه قيد ( فلا تفعلوا إلا بأم الكتاب ).
ومما يقوي أن المأموم له حكم غير حكم إمامه: ما رواه البخاري في صحيحه من حديث أبي بكرة رضي الله عنه ( أنه جاء وقد ركع صلى الله عليه وسلم فركع خلف الصف ثم تقدم حتى كان في الصف فقال صلى الله عليه وسلم: زادك الله حرصاً ولا تعد )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقر أبا بكرة في صحة هذه الركعة، ولو كانت الفاتحة في حق المأموم ركناً لما صحت هذه الركعة؛ لأن الركن لا يبطل بسهو ولا نسيان، فدل ذلك على أنها ليست بركن في حق المأموم.
فلأجل هذا قلنا: إن الفاتحة في حق المأموم ليست كما هي في حق الإمام لهذا الحديث الصريح، وقلنا بوجوبها لعموم الأحاديث الواردة في وجوب القراءة مطلقاً: حديث زيد بن واقد أو عموم حديث ( لا صلاة )، وخرجت الركنية في حق المأموم بحديث: ( زادك الله حرصاً ولا تعد )، ولعل هذا الجمع وهو مذهب الشافعي وقول عند الحنابلة ذكره ابن مفلح في النكت على المحرر أن قراءة الفاتحة واجبة على المأموم وليست بركن، لكنها تسقط مع العجز وعدم الإمكان، العجز الحسي أو المعنوي، مثل: أن يأتي والإمام راكع، هذا عاجز عن القراءة؛ لأنه ربما تفوته الركعة، ومثل: أن يصلي ولا يستطيع أن يقرأ الفاتحة إلا برفع صوته بحيث يؤذي من بجانبه، فنقول: لا تقرأ؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( كلكم يناجي ربه فلا يؤذي بعضكم على بعض في القراءة ).
ولأجل هذا: لو أن المأموم صلى ونسي قراءة الفاتحة، فإن كان قد أدرك مع الإمام كل صلاته فيتحملها الإمام، وإلا سجد للسهو، فهذا القول أحسن الأقوال وهو ظاهر قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأما أن نقول: إن قول عمر ليس ظاهراً في المسألة، وهو يقول: اقرأ ولو جهر، فما هو الظاهر إذاً؟! قول ابن عمر و ابن عباس هو الذي ليس بظاهر، لو أردنا أن نقول: ليس بظاهر، ولأجل هذا نقول: الذي يظهر والله أعلم: وجوب القراءة في حق المأموم، لكنها تسقط مع العجز وعدم الإمكان.
إذا ثبت هذا فإن المؤلف احتج بحديث الإمام أحمد : ( من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة )، وفي رواية: ( فقراءته له قراءة )، وهذا الحديث الصواب أنه مرسل، كما ذكر ذلك غير واحد من أهل العلم كـالخطيب البغدادي والحافظ الذهبي و ابن الجوزي .
يمكن يستدل حديث المسيء في صلاته، وأنه في عموم الصلاة، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث المسيء في صلاته أمره أن يقرأ الفاتحة، فيقال: إذاً على كلامك تكون في السرية واجبة؛ لأنه ليس فيها معنى زائداً، لماذا صارت مستحبة؟ المفترض أن تكون في السرية واجبة؛ لأنه ليس فيها معنى المنازعة.
إذاً: الحنابلة والمالكية يرون أنها في السرية مستحبة، وفي الجهرية مكروهة.
ومن العلماء من قال: إنها واجبة في السرية، مكروهة في الجهرية. والله أعلم.
يجوز للمأموم أن يقرأ الفاتحة قبل إمامه، ويجوز أن يقرأ بعد إمامه استكمالاً، وأما في سكتاته في القراءة فإن ذلك غير مشروع، كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم، يعني كأن يقرأ الإمام: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثم يقرأ المأموم في سكتاته، والمقصود في سكتاته هي السكتات التي يتوقف الإمام عن القراءة، مثل: بعد التكبير، وبعد الفاتحة، وبعد القراءة قبل الركوع، وإن كان لا يشرع للإمام أن يسكت مقدار ما يقرأ المأموم الفاتحة.
فإننا نجد بعض الأئمة إذا قرأ الفاتحة سكت حتى يقرأ المأموم، وهذا ليس بمشروع كما هو معلوم، بل بالغ أبو العباس بن تيمية وقال: إن ذلك بدعة.
والمقصود في سكتات الإمام هي السكتات المعروفة، إلا أن المذهب عند المتأخرين قالوا: له أن يقرأ حتى في سكتاته بين الآيات، يقول: حتى التنفس، ولهذا قال المؤلف: (وبعد فراغ القراءة، وكذا لو سكت لتنفس)، وأنكر ذلك بعض العلماء، كما هو مذهب مالك فإن مالكاً أنكر قراءة الفاتحة في السكتات.
والذي يظهر والله أعلم: أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه سكت سكوتاً مطلقاً، إلا سكتة يسيرة قبل أن يركع، وأما الأحاديث الواردة، ففيها حديثان: حديث سمرة بن جندب وهو ضعيف، لأن الحسن لم يسمع من سمرة هذا الحديث، والحديث الآخر حديث عمران بن حصين وهو أيضاً ضعيف.
إذاً: الحنابلة يرون أن قراءة الفاتحة خلف الإمام لا تشرع إلا في حال واحدة فتستحب، وهي إذا لم يسمع الإمام.
ولهذا قالوا: (فلا يقرأ إن أشغل غيره عن الاستماع، وإن لم يشغل أحداً قرأ)، يعني بذلك المريض.
لعلنا نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر