إسلام ويب

الروض المربع - كتاب الصلاة [77]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أحكام الإمامة متابعة الإمام في كل أحواله، وعدم التخلف عنه أو المسابقة له في الصلاة، فمن سبق إمامه بركن أو ركنين بطلت صلاته إن كان عامداً، ولا تبطل إذا كان جاهلاً أو ناسياً، ويستحب للإمام التخفيف في الصلاة مع التمام.

    1.   

    مسابقة الإمام في الصلاة

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:

    فكنا قد ذكرنا مسائل على مذهب الإمام أحمد وعلى المذهب الراجح في مسألة مسابقة المأموم إمامه في الركن سواء سبقه إلى الركن أو سبقه بالركن وقلنا: إن مسابقة المأموم إمامه لا تخلو أن تكون مسابقة إلى الركن أو مسابقة بالركن، وقلنا: معنى المسابقة إلى الركن: أن يركع المأموم قبل إمامه، لكنه يوافقه حال الركوع، وقلنا: إن المسابقة بالركن أن يركع أو يفعل الركن قبل إمامه ثم يرفع منه قبل أن يفعل الإمام الركن.

    وقلنا: إن الحنابلة يفرقون بين الركوع وغيره، وأنهم يرون أن مسابقة المأموم إمامه إلى الركوع إن فعل ذلك عالماً عامداً فهو آثم؛ لحديث النعمان وأبي هريرة قال صلى الله عليه وسلم: ( ما يأمن الذي يرفع رأسه )... الحديث، وقلنا: إنه مع إثمه فإنه إن لم يأت به بعد إمامه فإن صلاته باطلة، بمعنى: أنه إذا ركع قبل الإمام وجب عليه أن يرفع ثم يأتي به بعد الإمام، فإن لم يفعل على مذهب الحنابلة بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً أو ناسياً صحت صلاته، ولهم في هذا قولان هل يلزم متابعته أم لا؟ والمشهور كما ذكرت.

    وأما مسابقته بالركن، فإنهم يقولون: فإن ركع المأموم قبل إمامه ثم رفع بعد ذلك قبل أن يركع الإمام، فإن فعل ذلك عالماً عامداً بطلت صلاته، وإن كان جاهلاً أو ناسياً صحت بشرط: أن يأتي بعده ليوافقه في نفس الركوع، وقلنا: إن الراجح أنه إذا أتى بعده فلا يلزم أن يوافقه؛ لأن الجاهل والناسي له حكم، وذكرنا ذلك في صورة ما إذا قرأ الإمام ثم كبر فظن المأموم أن إمامه يركع، وهو سجد سجود التلاوة، فإذا قال: الله أكبر، ظن المأموم أنه رفع، فلا يلزم من ذلك أن يركع المأموم بعد ذلك؛ لأنه فعل الركن، وهذا الذي يظهر والله أعلم.

    حكم صلاة من سبق إمامه إلى الركوع ولم يعد إليه

    لم نذكر سابقاً في مسابقته في غير الركوع لأننا لم نصل إليه، وقد كنا توقفنا عند قوله: [فإن لم يفعل، أي: لم يعد عمداً حتى لحقه الإمام فيه بطلت صلاته]، وهذا من مسابقة المأموم إمامه إلى الركن.

    وعلى هذا قال المؤلف: (فإن لم يفعل)، يعني: فإن لم يفعل المأموم الذي سبق إمامه إلى الركن وهو الركوع، بأن رفع ثم ركع بعد إمامه فوافقه في الركوع، فإذا لم يفعل هذا عمداً فإن صلاته تبطل على مذهب الحنابلة، وهو اختيار ابن سعدي .

    ومذهب جمهور الفقهاء: أن صلاته صحيحة، وقلنا: هذا يحصل أحياناً إذا كان المأموم يغضب من إمامه من شدة تأخره مثلاً، فأحياناً يسبقه في أداء الركن، فإذا كان لم يقصد عدم المبالاة بالإمامة ذاتها، ولا الإمام نفسه، فإن فعل مثل ذلك ثم أعاد ثم ركع بعده فالذي يظهر والله أعلم هو مذهب الجمهور، لكن إذا تكاثر ذلك منه ولو أكثر من مرة في ركوع فإن صلاته باطلة، وإنما منعنا من عدم بطلان صلاته في أول مرة؛ لأن ماهية الصلاة لم تختلف، وما ثبت دخوله بيقين؛ فلا يخرج عنها إلا بيقين.

    قال المؤلف رحمه الله: [بطلت صلاته؛ لأنه ترك الواجب عمداً].

    الواجب هو المتابعة لما جاء في الحديث: ( إنما جعل الإمام ليؤتم به )، وهو في الصحيحين من حديث أبي هريرة ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد ، ومن حديث أبي موسى .

    قال المؤلف رحمه الله: [فإن كان سهواً أو جهلاً فصلاته صحيحة ويعتد به ].

    وهذا في حالة ما إذا سبق المأموم إمامه إلى الركن جاهلاً أو ناسياً، بحيث ركع قبل الإمام، ثم وافقه الإمام وهو راكع، فإنه يصح على مذهب الحنابلة إذا كان جاهلاً أو ناسياً.

    حالات صلاة من سبق إمامه إلى الركوع

    قال المؤلف رحمه الله: [وإن ركع ورفع قبل ركوع إمامه عالماً عمداً بطلت صلاته؛ لأنه سبقه بمعظم الركعة، وإن كان جاهلاً أو ناسياً وجوب المتابعة بطلت الركعة التي وقع السبق فيها فقط، فيعيدها وتصح صلاته للعذر، وإن سبقه مأموم بركنين بأن ركع ورفع].

    شرع المؤلف في مسابقة المأموم إمامه بالركن، وهذه المسألة لا تخلو من حالتين:

    الحالة الأولى: أن يكون ذلك عالماً عامداً.

    الحالة الثانية: أن يكون جاهلاً.

    فإن كان عالماً عامداً بطلت صلاته؛ لأنه سبقه بمعظم الركعة، هكذا علل الحنابلة، ولأنه لم يدرك مع إمامه الركوع، فبطلت صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( من أدرك ركعة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، وهو لم يدركها عالماً عامداً.

    والقول الثاني في المسألة هو مذهب جمهور أهل العلم: أن صلاته صحيحة؛ لأن هذا النهي لا يقتضي الفساد بدليل أن النهي لم يكن عائداً على ماهية العبادة، ولا على وصفها الذي لا ينفك عنها، وكل نهي لا يعود على ماهية العبادة ولا على وصفها الذي لا ينفك عنها فإن النهي لا يقتضي الفساد، ولأنه لم تختل ماهية العبادة، ولو بطلت صلاته لما جاز له أن ينفصل عن إمامه، فدل ذلك على عدم بطلان الصلاة.

    قلت: إن مسابقة المأموم إمامه إذا تكرر ذلك منه فإن صلاته باطلة لعدم صحة المتابعة، وأما إذا كان فعل ذلك فإنه يخفف عنه وقلنا: مرة أو مرتين أو ثلاثاً ليس على سبيل الاستحسان، ولكن ربما يكون وإن كان متعمداً، لكنه لم يقصد المخالفة في المتابعة بأكثر مما يكون بينه وبين إمامه، فمتى تحقق عدم القصد بمخالفة المتابعة قلنا بعدم بطلان صلاته، وإلا فإنه إذا كان قاصداً فالقول ببطلانها قوي.

    أما الجاهل والناسي فإن الحنابلة قالوا: وتبطل الركعة فقط، وعليه: فإن وافق الإمام في الركن بعده، فإنها تبطل تلك الركعة، هذا رأي بعض مشايخنا، وقال بعضهم: تبطل مطلقاً وتكون زائدة، وإذا سلم الإمام قام وقضى.

    والذي يظهر والله أعلم: هو مذهب جمهور أهل العلم: أنه إذا كان جاهلاً أو ناسياً فإن صلاته صحيحة، كما قلنا أيضاً في مسابقته بالركن.

    وعليه: فلو ركع المأموم قبل إمامه ثم رفع جاهلاً أو ناسياً فإن صلاته صحيحة والله أعلم، وإن كان الأفضل أن يأتي بالركن ذلك بعده إمامه؛ لأن ركوعه الأول لم يكن موافقاً ومتابعاً لإمامه متابعة حقيقية، فشرع له أن يركع بعد ذلك لتحصل المتابعة، ويكون الفعل الأول زائداً والله أعلم، وعلى هذا فيسجد للسهو إن كان مسبوقاً، ولا يسجد إن لم يكن مسبوقاً، وأما الحنابلة فإنهم يقولون: بطلت الركعة التي وقع السبق فيها فقط، ويقولون: فيعيدها وتصح صلاته للعذر.

    حكم مسابقة الإمام بركنين في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [وإن سبقه مأموم بركنين بأن ركع ورفع قبل ركوعه، ثم سجد قبل رفعه، أي: رفع إمامه من الركوع بطلت صلاته؛ لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة].

    هذا الكلام في مسابقة المأموم إمامه بركنين، فإن كان الركنان ركوع وسجود مثلاً صار حكمه حكم من سبق إمامه بالركن، ولهذا قال: (لأنه لم يقتد بإمامه في أكثر الركعة) والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [إلا الجاهل والناسي فتصح صلاتهما للعذر، ويصلي الجاهل والناسي تلك الركعة قضاءً لبطلانها لأنه لم يقتد بإمامه فيها].

    قلنا في مسابقة المأموم إمامه بالركن: إذا كان جاهلاً أو ناسياً فإن الصلاة صحيحة، هذا الذي يظهر، وإن كان الأفضل أن يأتي بالركن بعد الإمام لتحصل المتابعة، ولم نقل بوجوب ذلك؛ لأنه ربما يوافق الإمام المأموم، مثل صورة ما إذا ركع المأموم جاهلاً أو ناسياً والإمام ساجد للتلاوة، ثم كبر للرفع، فيرفع المأموم فيسبح الناس ولا يدري، فيقول: سمع الله لمن حمد فيسجد المأموم، فسبقه بركنين، ولم نقل بوجوب أن يأتي بها بعد ذلك لمشقة معرفة ذلك والله أعلم، ولأن الجاهل والناسي يعذر في ذلك؛ لأنه لم يقصد المخالفة.

    قول المؤلف: (ويصلي الجاهل أو الناسي تلك الركعة قضاءً)؛ لأنها باطلة على مذهب الحنابلة، وعلى القول الراجح: لا يقضيها، لكن إن أعاد في نفس الركعة بعدما علم أن الإمام ركع فرجع فأتى مع الإمام فهو أفضل لتحصل المتابعة، وإن لم يفعل فلا حرج، لكن إنما شرعنا له أن يأتي بها بعد الإمام ما لم يوافقه الإمام في الركن الذي هو فيه، مثلاً: لو قال الإمام في سجود التلاوة الذي صورناه وقلنا: الإمام سجد والمأموم ركع، ثم قال الإمام: الله أكبر؛ فرفع المأموم، ثم قال: الله أكبر؛ فسجد المأموم، والإمام قال: سمع الله لمن حمده. حينئذٍ إذا قال الإمام: الله أكبر، فرفع المأموم من السجود، فوجد الإمام قد سجد، فسجد المأموم معه، هنا يشق أن نقول: يرجع؛ لأنه سوف تختل الصلاة تماماً، فنقول: يبقى إذا وافقه في الركن فيبقى ولا يعيد، هذا الذي يظهر والله أعلم.

    قال المؤلف رحمه الله: [ومحله إذا لم يأت بذلك مع إمامه].

    هذا القيد ذكره الشارح صاحب الروض، ولم يذكره صاحب الزاد، صاحب الزاد ظاهر كلامه: أن من سبق إمامه بركن أو بركنين جاهلاً أو ناسياً بطلت تلك الركعة فقط، أما صاحب الروض فيقول: بطلت تلك الركعة إن لم يأت به بعد إمامه، فإن لم يأت به بعد إمامه بطلت صلاته.

    حكم مسابقة الإمام بركن غير الركوع

    قال المؤلف رحمه الله: [ولا تبطل بسبق بركن واحد غير ركوع، والتخلف عنه كسبقه على ما تقدم].

    قول المؤلف رحمه الله: (ولا تبطل بسبق بركن)، كالسجود مثلاً؛ لأن السجود لا تحصل به الجماعة، ولا إدراك الركعة، وإن كان يدرك بذلك الجماعة على مذهب الحنابلة، فالحنابلة رحمهم الله يرون أن إدراك الجماعة يكون بجزء من الصلاة، وأما إدراك الركعة فيكون بالركوع والله أعلم، وعلى الراجح: أن الجماعة إنما تدرك بالركوع أو بالركعة، وأما حديث عائشة عند مسلم: ( من أدرك سجدة من الصلاة فقد أدرك الصلاة )، فإنما ذلك على سبيل الاختصار، والله أعلم.

    1.   

    تخلف المأموم عن الإمام في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: (والتخلف عنه كسبقه على ما تقدم)، (كسبقه) يعني: مثل مسابقة المأموم إمامه، والتخلف مثل أن ينعس المأموم فيركع الإمام ثم يرفع من الركوع والمأموم نائم، فهنا تخلف عنه بالركن، ولهذا قال المؤلف: (كسبقه)، يعني: كسبقه بالركن؛ لأن الغالب أن التخلف يحصل بإنهاء الركن، ولكن الذي يظهر والله أعلم: أنه إذا كان جاهلاً أو ناسياً فإن صلاته صحيحة، بشرط أن يأتي بالركن، وإن كان عالماً ذاكراً فإنه إذا كثر منه المخالفة فإن صلاته لا تصح فيها المتابعة، والله أعلم.

    إذاً: الظاهر أنه لا يوجد فرق بين الركن والركنين والثلاثة على القول الراجح؛ فإن فعل ذلك عالماً عامداً فإنه لا تصح في الركوع إذا فعل ذلك أكثر من مرة، إلا إذا لم يكن عنده قصد المخالفة فقد تصح صلاته، وإما إذا كان جاهلاً أو ناسياً فإن الصلاة صحيحة وهو مذهب الجمهور، وأما مسابقته بالركن، فإن الذي يظهر والله أعلم: أن مسابقته بالركن تبطل صلاته، وأما مسابقته جاهلاً أو ناسياً بالركن فإن الصلاة صحيحة، لكن الأفضل أن يأتي به بعد إمامه، والتخلف مثلها.

    1.   

    استحباب تخفيف الإمام في الصلاة

    قال المؤلف رحمه الله: [ويسن للإمام التخفيف مع الإتمام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إذا صلى أحدكم بالناس فليخفف )، قال في المبدع: ومعناه أن يقتصر على أدنى الكمال من التسبيح وسائر أجزاء الصلاة، إلا أن يؤثر المأموم التطويل وعددهم ينحصر، وهو عام في كل الصلوات، مع أنه سبق أنه يستحب أن يقرأ في الفجر بطوال المفصل، وتكره سرعة تمنع المأموم فعل ما يسن، ويسن تطويل الركعة الأولى أكثر من الثانية].

    المؤلف رحمه الله عندما أنهى ما تحصل فيه الموافقة وما لم تحصل فيه في صلاة الجماعة في فعل المأموم مع إمامه، شرع فيما يشرع لإمام الجماعة فقال: (ويسن لإمام التخفيف مع الإتمام)، يعني: أن يفعل أدنى الكمال الواجب، بأن يسبح بعد الطمأنينة ثلاثاً، كسبحان ربي الأعلى ثلاثاً، وسبحان ربي العظيم ثلاثاً، ويقول: ربنا ولك الحمد ويطمئن في ذلك، هذا معنى أدنى الكمال.

    وقد ذكر أبو العباس بن تيمية في كتابه العظيم القواعد النورانية حديث البراء حيث قال: ( كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم قيامه وركوعه والرفع منه والسجود كل ذلك قريباً من السواء )، ثم قال: ليس المقصود أن الركوع بمثابة القيام، وأن السجود بمثابة القيام والركوع، ولكن المقصود: أنه إذا أطال القيام أطال الركوع بحسبه، ثم أطال السجود بحسبه، وليس المقصود بأنه إذا أطال القيام مثلاً جلس خمس دقائق فيطيل الركوع والسجود لخمس دقائق ليس معناه ذلك، بل المقصود أن يكون ركوعه طويلاً مناسباً لقيامه والله أعلم.

    واعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الناس بالتخفيف، فقال صلى الله عليه وسلم: ( أيكم أم الناس فليخفف ) في حديث أبي مسعود البدري في صحيح مسلم ( أن رجلًا قال: يا رسول الله! إنني أتأخر بصلاة الفجر من أجل فلان مما يطيل بنا، فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم غضب في موعظة قط أشد مما غضب يومئذ فقال: أيها الناس! إن منكم منفرين فأيكم أم الناس فليخفف، فإن من ورائه الضعيف والصغير وذا الحاجة )، وقال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أنس : ( إني لأدخل الصلاة وأنا أريد إطالتها، فأسمع بكاء الصبي فأخفف من وجد أمه له )، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطيل الصلاة، وإطالته عليه الصلاة والسلام بمناسبة المأموم له، فكان المأموم يؤثر ذلك.

    ومن الغرائب ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي سعيد قال: ( إن كان صلاة الظهر لتقام في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيخرج الرجل إلى البقيع فيقضي حاجته ثم يتوضأ ثم يرجع إلى المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الركعة الأولى )، هذا في صلاة الظهر، وهذه إطالة كبيرة، وجاء في صحيح مسلم من حديث عمران بن حصين ( أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي وهي الظهر فلما سلم قال: أيكم الذي قرأ خلفي بسبح اسم ربك الأعلى؟ فقال رجل: أنا يا رسول الله! ولم أرد بها إلا الخير، قال: قد علمت أن بعضكم خالجنيها )، فهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحياناً يطيل، وأحياناً يخفف، فدل ذلك على أن إطالته عليه الصلاة والسلام بمناسبة: إما مناسبة حال، أو مناسبة إيثار مأموم.

    وإلا فإن الأصل في المساجد التي يغلب على الظن وقوع الحاجة فيها، وهي مساجد الأسواق أو الدوائر الحكومية، فإنه لا ينبغي الإطالة في الصلاة؛ لأنها تجعل الناس لا يخشعون في الصلاة، وهذا هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فإن من ورائه ذا الحاجة )، فالمساجد التي تكون قريبة من الدوائر الحكومية، أو مساجد الأسواق لا ينبغي إطالتها، وبعض الأئمة -جزاهم الله خيراً- يقول: هؤلاء ما عندهم إلا الدنيا، فيفتتح بهم سورة الطور أو سورة البقرة ويقول: اجعلهم يتعودون، هذا لا يصلح؛ لأن هذا تنفير للناس عن دينهم، فقد قال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : ( أفتان أنت يا معاذ! )، وهذا ملاحظ أنه ينبغي للعالم وللداعية أن تكون فتواه رحمة وليس عذاباً، ومعنى رحمة أن يرحم الخلق ويوجد لهم السبل التي ترغبهم للطاعة، وليس تمنعهم من استمرارها، فبعض الناس لو أن قريبه الذي يستفتيه لبحث له عن مخرج على مذهب أبي ثور أو على مذهب الحسين الكرابيسي ولو كان المستفتي لا يعرفه قال قوله ولم يبال وهذا لا ينبغي.

    وقد جاء الأثر ( إن من أحب الناس إلى الله من حبب إليه عياله أو عباده )، وهذا يدل على أنه ينبغي للعالم وطالب العلم والداعية أن يحبب للناس العبادة والطاعة، ومن ذلك عدم إطالتها، ولا ينبغي للإمام أن يطيل الصلاة إذا كان إماماً ولا يطيل إذا كان منفرداً، بمعنى أن يخفف صلاته لوحده، لكنه إذا صلى إماماً نظر الساعة، صلاة الظهر مقدارها كذا، وصلاة العصر مقدارها كذا، فيصلي وينظر الساعة، هذا لا يصلح، بل يعود نفسه على إطالة الصلاة إذا كان لوحده.

    فقد ذكر الإمام ابن رجب أن ابن القيم رحمه الله كان كثير الإطالة في الصلاة، حتى كان ذلك يشق على نفسه وعلى إخوانه، وكان إخوانه يعاتبونه في ذلك فيأبى، وهذا يدل على لذته في الطاعة، وأما الذي يخفف إذا صار وحده، وإذا دخل الجماعة تغيرت صلاته، فهذا لا يصلح، وأذكر أن أحد طلبة العلم وأحد العباد في إحدى قرى القصيم كانت صلاته طويلة جداً، وكان الناس يقصدونه، وكان يقول أحد المشايخ -هذا في زمن غابر- يقول: كنت أول ما جاءت الساعة العربي أحسبها له وهي ساعة إلا عشر دقائق في صلاة الظهر، ومن شدة طاعته كان يسمى أبو ركعة، وكان عابداً تقياً صالحاً، هديه على منهاج السلف، حتى كان يراسل أبناءه رسائل تذكير بالتقوى وتذكير بالطاعة، وكان الناس يذهبون إلى الرياض وكانت الرياض محل تجارة، كانوا يراسلونهم رسائل كأنه ذهب إلى مكان آخر، يذكره بالطاعة، يذكره بالعبادة، ويذكره من فلان ابن فلان الأب إلى فلان ابن فلان الابن السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وكان عليها نور.

    وهؤلاء ذهبوا نسأل الله أن يصلح الحال، وكانوا إذا انطلقوا من قرية إلى قرية، يتفاصلون، يعني: إذا طلعوا من قرية إلى قرية أو من قرية إلى نفس المدينة، كان يقول لصاحبه: كل واحد يمشي في حاله، كل واحد يمشي وحده، فيقرءون القرآن حين يخرجون من القرية إلى أن يصلوا المدينة ولهذا يتعارفون، فيقول له مثلاً: كم بين بريدة ورديسية؟ يقول له: مائتان وخمسون آية، كم بين الرديسية والبصر؟ يقول: مائة وخمسون آية، وهذا يدل على أثر العبادة في نفوسهم.

    نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767985968