الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فإذا كنتم ترون أن هذا جيد استعنا بالله سبحانه وتعالى، وبدأنا من الأسبوع القادم يوم الإثنين في المعاملات، وإذا انتهينا من كتاب القواعد الأصولية لـابن اللحام جعلنا الإثنين والثلاثاء في المعاملات المالية، فيكون درس الروض أربعة أيام حتى ننتهي بإذن الله.
ويستفيد الطالب حتى إذا تخرج من الجامعة يكون قد حصل على شيء ليس بالقليل في قسم المعاملات، خاصة أن المعاملات المالية في الغالب لن يكون الخلاف فيها والنقاش مثل العبادات؛ لأن العبادات مبنية على التوقيف، والمعاملات مبنية على الحل، والقواعد فيها أسهل، وتقرير القواعد أسهل من ضبط الأدلة، وكل مسألة في العبادات لا بد أن تسدل لها، فإذا كنتم ترون هذا استعنا بالله، وتوكلنا عليه، وسألناه المدد، نبدأ إن شاء الله.
نحن لا نود أن تكون المسألة مسألة إكراه ملجأ أو إكراه غير ملجأ، أحببنا التوفيق، وكل واحد له أن يؤيد أو لا يؤيد وهذه ورقة سوف تدار عليكم كل واحد يكتب اسمه وهل هو موافق أم لا؟ هذه نقطة.
النقطة الثانية: رغب بعض الإخوة أن يكون هناك معرفة ببحث المسائل الفقهية، كيف نبحث المسألة الفقهية؟ وكيف نعرف أن الحديث صحيح أم ضعيف؟ وكيفية التعامل مع كتب الفقهاء؟ يقول: فلو كان هناك جلسات لمعرفة هذا لكان طيباً.
لكن أنا أحببت أيضاً أن يكون بيني والذين يحضرون معي الدرس علاقة علمية حتى خارج الدرس، فأنا عندي اقتراح أن يكون هناك تواصل علمي، بمعنى: أني أضع منهجية قد استفدتها في حياتي، منهجية تأصيل طالب العلم في كل فن أربعة كتب، كل واحد يقول: أنا أبدأ بالفن المعين، أعطيه الكتاب، وبعد شهر يكون هناك اجتماع مثلاً يوم خميس يحدث فيه مناقشة ما وصل إليه، أو الاتصال فيما بيني وبينه، وأسأله: هل قرأت أم لا؟ وإلى أين وصلت؟ وأسأله أسئلة في نفس الكتاب أنظر مدى إدراك الطالب وفهمه للكتاب.
والطالب بهذه الطريقة يستطيع أن يستفيد فائدة كبيرة جداً جداً.
أولاً: أنه مشى على منهجية معينة، ثانياً: وجد من يتواصل معه، ولا مانع أن يكون فيما بين كل طالب وطالب، أو يكون هناك مجموعة بسيطة يتواصلون فيما بينهم، فإذا رأيتم ذلك إن شاء الله سأكتب أسماءكم، وأرقام كل واحد منكم حتى نتواصل.
أنا أرى أن هذه الطريقة جيدة جداً وفيها فائدة كبيرة جداً، ولن يستطع أحد أن يكون طالب علم متمكن إلا إذا سار على منهجية معينة، وطريقة مرتبة.
وجعلت الفجر مراجعة، إما مراجعة القرآن، أو مراجعة الحديث، وجعلت الظهر -مع أني أدرس في الكلية أو أدرس- جعلته للقراءة العامة، إما قراءة في التراجم أو قراءة في السير، وجعلت العصر أربعة أيام في الفقه، وثلاثة أيام في شروح الحديث، وثلاثة أيام في النحو -يعني: إذا قلنا ثلاثة أيام، يعني: ثلاث فترات مقسمة على الأسبوع- وثلاثة أيام في المصطلح، وثلاثة أيام في أصول الفقه، وثلاثة أيام في التفسير، والأيام الباقية أضع فراغات بحيث أزور وأذهب، وللقراءة العامة.
واخترت في كل فن أصول الكتب فيه، فتجد أنك لو ذهبت في رحلة مع الشباب، أو سافرت مع الأهل، إذا رجعت وجدت لك جدولاً، المشكلة عند الطالب أنه أول ما يسافر الإجازة يقول: سأبدأ يوم السبت القادم، وإذا جاء السبت القادم ارتبط، وقال: إن شاء الله أبدأ من يوم الإثنين، ثم يقول: الإثنين وسط الأسبوع ولا صلح سأبدأ من السبت القادم حتى يضيع جدوله، لكن بهذه الطريقة لو سافر الأحد وجاء الثلاثاء سيجد له جدولاً، ولو ذهب الثلاثاء وجاء الجمعة سيجد له جدولاً، فيعرف أين يبدأ وأين ينتهي.
وبهذه الطريقة ستجد أنك حصلت شيئاً كثيراً، وإذا انتهيت من كتاب الحديث انتقلت إلى كتاب آخر، فإذا انتهيت مثلاً من شرح البلوغ انتقلت إلى فتح الباري لـابن رجب ، فإذا انتهيت منه انتقلت إلى الإحكام لـابن دقيق العيد وأنت تقيد الفوائد.
وطريقة القراءة أيضاً لها فن، وليس العبرة بالانتهاء بل العبرة بأن تكون قراءتك قراءة نقدية، لا تسلم لكل إمام، لا تدير عقلك لفلان أو علان، ولكن اعتمد على الدليل، وموطن الاستدلال. فإذا كنت تقرأ في كتاب مثل الروض، وقرأت في فتح الباري مسألة غريبة رجعت إلى الروض، ثم راجعت المسألة من عدة كتب كالتمهيد لـابن عبد البر وهكذا، وهذه الطريقة تجعل طالب العلم محققاً، ولذلك هناك فرق بين المحقق وغيره.
فهذه الطريقة تجعل طالب العلم يستحضر العلم والمسائل، وأقوال أهل العلم بل يكون العلم بين عينيه.
ولهذا هناك فرق بين أن تقول: المسألة ذكرها فلان، وذكرها فلان، وذكرها فلان، وبين أن تقول: المسألة الأقرب فيها قول كذا في حين أن قول فلان به كذا، فتكون قراءتك قراءة نقدية، تعرف أين مدار كل مسألة وفي أي كتاب، وهذه الطريقة تجعل طالب العلم بإذن الله بعد سبع سنوات أو عشر سنوات -وليست بطويلة- بإذن الله متمكناً في العلم، ولهذا كلما كان طالب العلم متمكناً في علمه، مستحضراً العلم عند أدائه فبإذن الله يكون إماماً.
ودعنا نقول: إن هذا البرنامج يصنع إماماً ليس في الفقه فقط، بل إماماً عاماً، ولا تستصغر نفسك؛ لأن استصغار النفس هي المشكلة، ولا تكبر نفسك، ولكن قل بقول القائل: اللهم اجعلني في عيني صغيراً، وفي أعين الناس كبيراً، يعني: أنك متواضع مع الخلق، لكنك في نفس الوقت كبيراً.
نفس عصام سودت عصاماً
وعلمته المكر والإقداما
وصيرته ملكاً هماماً
ودائماً طالب العلم إذا لم يكن مرتباً؛ فإنه يتعب نفسه ويتعب مطيته، وأنا أقول: طالب العلم مثل الهاردسك، إذا اشتغل سنة وما نظف ولا رتب فإنه يتعب، كذلك طالب العلم إذا لم يكن مرتباً تجده يتعب، والعلم واحد، وما يدري ما السبب، فنقول: نظف ذهنك واضبط أمورك، تجد أنك بإذن الله توفق للخير.
وعود نفسك طريقة الاستحضار عند الاستدلال، يعني: تقول: الدليل قوله صلى الله عليه وسلم كذا، وفي حال تذكر الدليل استحضر هل هناك دليل آخر آية أو نص فقهي أو كلام للأئمة؟ إذا بدأت تعود نفسك في كل مسألة أن تبحث عنها فإن ذهنك سيتعود على البحث، لكن إذا قلنا لك: ما الدليل؟ قلت: قال صلى الله عليه وسلم كذا، قلنا: هل هناك دليل آخر؟ قلت: يكفي هذا الدليل.
إذاً: أنت بدأت تعود نفسك يكفي، وهذا لا ينبغي أن تعود حافظتك عليه بل عودها على البحث؛ لأن الذهن يتعود على ما يعوده صاحبه، ولهذا تجدون المسابقات العلمية بعض الناس يمل منها؛ لأنه لم يعود ذهنه البحث فتجده يمل، فإذا قلنا مثلاً: ما الشيء الذي خلقه الله وسأل عنه؟ تجد بعض الناس يقول: أنا ما أحب الأسئلة هذه؛ لأنه ما عود نفسه أن تعود ذهنه البحث والمراجعة والتنقيب.
فهذه الطريقة تجعل طالب العلم بإذن الله إماماً يقتدى به إن صلحت النية وأخلص في الطوية، الآن نشرح كتاب الروض.
لقد تحدثنا عن مسألة الإمامة، وقلنا: إن الصحيح أن الإمامة مبنية على قراءة القرآن وجودته، ثم الفقه، ثم الهجرة، ثم السن، ولا علاقة لها بالشرف ولا بالنسب، كما ذكرنا أن كل الأحاديث الواردة في هذا إما ضعيفة أو غير مخصوصة بالمراد، مثل: ( قدموا قريشاً ولا تقدموها )، قلنا: إن هذا إنما هو في الإمامة الكبرى، ولا علاقة لها بالإمامة الصغرى، وإذا ثبت هذا فإن ثمة أحكاماً تختلف فيها تقديم الإمامة لوجود اعتبارات أخرى، فمسألة ( يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله ) إنما هي في الأمور العامة أو الأمور الطبيعية.
لكن إذا كان الناس في ولاية شخص كأن يكونوا في بيته أو حكمه فإن لها حكماً آخر، ولذا قال المؤلف رحمه الله: (وساكن البيت وإمام المسجد أحق) أي: بالإمامة، فإذا كان الإنسان في بيته، وجاءه الآخرون، فإنه أولى بالإمامة إلا أن يستأذنه الآخرون، أما أن يتقدم أحد الضيوف للإمامة ولو كان أتقى أو أعلم أو أفقه من صاحب البيت فلا يسوغ إلا أن يستأذنه، وكذلك إمام المسجد الراتب هو أولى بالإمامة ممن هو أحسن منه إذا جاء؛ لأن إمام المسجد أحق بذلك، وهذه المسألة تسمى عند الفقهاء بمسألة الافتيات على حق الغير، وهذا يدل على أن الدين الإسلامي دين يراعي الأشخاص، ويراعي الأحوال وحقوقها، فإن ساكن البيت له ولاية على بيته دون غيره، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم : ( ولا يؤمن الرجل الرجل في سلطانه ولا يجلس على تكرمته إلا بإذنه )، ومعنى: (في سلطانه) فيما له ولاية عليه، كالبيت والاستراحة ونحوها.
قال المؤلف رحمه الله: ( ولا يجلس على تكرمته )، وهي المكان الذي أعد لصدارة المجلس، أو ما يسمى عند العامة بالمحكمة، أي التي تكون عند مكان الخدمة، أو مكان مشب النار ونحو ذلك، وكذلك إمامة المسجد، وقد اعتاد الناس إذا جاء قارئ مشهور مثل أئمة الحرم المكي والنبوي أن يقدموه، فتجد أن الناس في الغالب يفتاتون على حق الإمام فيرتبون مع هذا القارئ ويقدمونه في الصلاة دون إذن من إمام المسجد، وهذا بلا شك وإن كان المقصد فيه التقدير لكن تقدير إمام المسجد الراتب مطلوب وذلك بالاستئذان من غيره، ولا يسوغ الافتيات على حقه إلا بإذنه، فإذا كان لا يرضى فلا يسوغ، وليست المسألة مسألة مجاملة ولا فرصة كما يقول بعض الشباب بل لا بد من إذن الإمام؛ لأنه هو أولى بالإمامة.
وأذكر أننا كنا عند شيخنا عبد العزيز بن باز في مسجده القريب من بيته، وكان الذي يصلي بنا أحد الإخوة الفضلاء من الجنسية الباكستانية، وكان هو إمام المسجد الراتب، فجاء مرةً أحد أئمة المسجد النبوي المشهورين وهو الشيخ علي الحذيفي ، وكان جزاه الله خيراً قد جاء قبل صلاة العشاء ليسلم على الشيخ؛ لأن بعد صلاة العشاء هناك درس للشيخ عبد العزيز بن باز ، وكان الناس ينتظرون من الشيخ علي أن يتقدم ليصلي بنا، فقال إمام المسجد للشيخ عبد العزيز وأنا بجانبهم: هل ترى نقدم الشيخ؟ فقال له: أنت الإمام، وأنت الذي تحكم، والله! إني أعجبت بهذا الموقف، فكأن الشيخ أراد أن يبين أن الحكم لك، ولست أنا الذي أعطي رأيي.
ولا ينفع أن يقول الإنسان: دعه يتقدم هي فرصة؛ لأن الإمام ربما يقع في نفسه شيء أو ربما أن الإمام لا يريد أن يتقدم هذا الرجل، ثم تقدم الإمام الأصلي الباكستاني وصلى، ولم يتقدم الشيخ علي الحذيفي مع حبنا لسماع قراءته وتأثرنا بها، إلا أنني حمدت هذا الموقف، وشعرت أن هذا الإمام يقدر مشاعر الآخرين، وهو موقف حقيقة كبير في نفسي، وربما لم تستحضروا الموقف الذي شاهدته حتى تعيشوا الجو الذي عشته.
القصد من ذلك: أنه ينبغي لطالب العلم أن يقدر الأحكام الشرعية حق قدرها، وأن المسألة ليست مسألة مجاملات أو نحو ذلك.
وأما إمام المسجد فإنه ولو كان ليس أهلاً لذلك إنما وضعه السلطان فلا يتقدم بين يديه لما يحصل في ذلك من الفتنة، وعلى هذا فقوله: (إذا كانا أهلاً للإمامة بمن حضرهم ولو كان في الحاضرين من هو أقرأ أو أفقه)، ينبغي أن يفرق بين ساكن البيت وإمام المسجد إذا كان إماماً راتباً، فإنه ولو كان غير أهل لكنه لا ينبغي أن يفتات على المسجد خوفاً من وقوع الفتنة.
قال المؤلف رحمه الله: (لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يؤمن الرجل في بيته ولا في سلطانه )، رواه أبو داود عن ابن مسعود ) ورواه مسلم في صحيحه.
والذي يظهر والله أعلم: أن السلطان الأعظم إن كان في المسجد إمام راتب فلا حرج أن يتقدم عليه؛ لأنه هو الذي وضع الإمام، أما إن كان في البيت فإنه ليس له ولاية خاصة على صاحب المنزل إذا كان صاحب المنزل أهلاً للإمامة، إلا أن يستأذنه.
المقصوم أنه يقدم الحر على من ليس بحر كالعبد، والصحيح خلاف ذلك، فيقدم في الإمامة أقرؤهم لكتاب الله، وقد كان سالم مولى أبي حذيفة يقدم على غيره من الأحرار، وكان ابن عمر يقدم مولاه على غيره حينما كان إماماً، وقال عمر لوالي مكة: وليت على أهل الوادي مولى قال: إنه حافظ لكتاب الله، عالم بالفرائض، فقال عمر : أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً، ويضع به آخرين ).
وعلى هذا: فقول المؤلف في تقديم الحر على العبد ليس بصحيح لفعل عمر ، ولفعل ابن عمر ، ولعموم الأحاديث.
قال المؤلف رحمه الله: (حاضر أي: حضري وهو الناشئ في المدن والقرى)، يعني: فيقدم على من لم يكن كذلك لأمور واعتبارات منها: الجهل، وقلة الفقه ونحو ذلك، وهذا ليس على إطلاقه، فإن المؤلف إنما ذكر ذلك بناءً على ما كان في السابق: من أن الذي يسكن في البادية يظهر فيه الجهل، وعدم العلم.
والصحيح: أنه يقدم الأقرأ، ثم الأعلم بالسنة، ثم الأكبر سناً، وهذا هو الصحيح.
والصحيح: أن المقدم في ذلك هو الأقرأ لكتاب الله لحديث أبي مسعود البدري ، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتي مكة للحج والعمرة ويتقدم عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أولى بالإمامة، وكان يقول عمر بن الخطاب : أتموا صلاتكم فإنا قوم سفر، وقد روي مرفوعاً من حديث عمران بن حصين ولا يصح، والصواب وقفه على عمر كما رواه مالك وغيره.
وعلى هذا فالصحيح: أن المقيم لا يتقدم المسافر إلا إذا كان أولى منه بالإمامة، وعلى هذا: فإن الأولوية لا يلزم منها الكراهية، وعلى مذهب الحنابلة: أن الأولى المقيم والحضري، ولكن لو تقدم خلافهما فليس بمكروه، إلا أن الحنابلة رحمهم الله قالوا: إن المشروع في حق المسافر القصر، فإذا تقدم المسافر وأتم الصلاة كره، وهذا مبني على مسألة عند الحنابلة: أن السنة في حق المسافر القصر، فإذا أتم كره له ذلك، وهذا أحد القولين عن مالك وهو المذهب عند الإمام أحمد .
والصحيح: أنه ليس بمكروه ولكنه جائز، وإن كان السنة القصر، وأما الكراهة فلا شك أنها تحتاج إلى دليل ولا دليل.
إذا ثبت هذا: فإن الأولى بالإمامة أعلمهم وأفقههم لحديث أبي مسعود ، لكن إذا تقدم المسافر فإذا كان الناس أو غالبهم يعلمون أنه مسافر فالسنة في حقه أن يقصر الصلاة.
أما إذا كان المسجد له إمام راتب وتأخر الإمام وتقدم المسافر فإن الأولى ألا يتقدم المسافر؛ لأن الناس لا يعرفون من المصلي، إلا إذا كان شخصاً قد عرفه الناس، مثل: إمام المسجد الحرام النبوي أو المكي فإن الناس يعلمون أنه مسافر، لكن الأولى ألا يتقدم إلا في صلاة لا يقصر مثلها كالمغرب.
الأول: لعموم حديث أبي مسعود ، والثاني: لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم ابن أم مكتوم ويجعله إماماً لمسجده في الغزوات، مع وجود من ليس بأعمى، وقد كان ابن أم مكتوم يؤذن، فإذا كان يؤذن مع العلم أنه يحتاج إلى بصر لمعرفة ذلك فالإمامة أقل احتياجاً للبصر من الأذان، فالأولى عدم التفريق والله أعلم.
وعلى هذا فالصحيح: أن البصير ليس بأولى من الأعمى كما هو مذهب الحنابلة والحنفية، وليس الأعمى بأولى كما في إحدى الروايتين، بل هما سواء، والأفضلية إنما هي في أمر خارج عن الصفات الذاتية والله أعلم.
والصحيح: أنه لا فرق، فكل من صحت صلاته صحت إمامته، ولا فرق بين مختون وغيره. ثم إن الأقلف وهو غير المختون لا يخلو من حالين:
الحال الأولى: ألا يقدر على فتق قلفته وغسل ما تحتها، فهذا معفو عنه.
الحال الثانية: أن يقدر على فتق قلفته ولم يغسل ما تحتها فهذا صلاته لا تصح؛ لأنه مفرط في الطهارة، وإذا لم تصح صلاته ابتداءً فلا تصح إمامته ولا يجوز أن يتقدم، وهذا في حق بعض الجهلة الذين لا يحسنون التنظف.
يعني: أن من كان عنده ثوبان أولى ممن ليس له إلا ثوب واحد؛ لأن الذي له ثوب واحد سوف يقع في المنهي عنه لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين: ( لا يصلي أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء ).
فإذا كان له ثوبان فهو أولى ممن له ثوب واحد، ولكن الشارح زاد قوله: (وما يستر به رأسه)، وهل صلاة حاسر الرأس منهي عنها؟
جاءت أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعة رواها الطبراني و ابن عساكر في تاريخ دمشق ولا تصح، منها حديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصلي الرجل وهو حاسر الرأس )، ولا يصح، ورويت عن علي بن أبي طالب موقوفة ولا تصح، ولكنها داخلة في باب الزينة، فإذا كانت زينة البلد بهذا جاز وإلا فليس ثمة حكم بخصوصه.
وأما قول بعض الفقهاء: إن عامة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فإنما هو حينما يخرج للناس، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في ثوب واحد، وحينما سئل قال: ( أو لكلكم ثوبان؟ )، فهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في بيته لا يلزم أنه كان يلبس العمامة، فالغالب أنه لا يلبس العمامة والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (أولى من ضدهم)، يعني: أولى من ضد حر وحاضر، ومقيم، وبصير، ومختون.
قال المؤلف رحمه الله: [أولى من ضدهم خبر عن حر وما عطف عليه، فالحر أولى من العبد والمبعض، والحضري أولى من البدوي الناشئ بالبادية، والمقيم أولى من المسافر؛ لأنه ربما يقصر فيفوت المأمومين بعض الصلاة في جماعة، وبصير أولى من أعمى، ومختون أولى من أقلف، ومن له من الثياب ما ذكر أولى من مستور العورة مع أحد العاتقين فقط، وكذا المبعض أولى من العبد، والمتوضئ أولى من المتيمم، والمستأجر في البيت المؤجر أولى من المؤجر، والمعير أولى من المستعير]. وكل هذا ليس له دليل.
ثم يلزم من ذلك أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد فوت على الناس صلاتهم عندما كان في مكة، وقد جلس فيها أياماً كثيرة، وهذا ليس بجيد، والصحيح: أنهم إذا أدركوا ركعة مع الإمام فقد أدركوا الجماعة، والله أعلم.
وسياق الحديث أنه قال: ( غزوت مع أصحابي في غزوة ذات السلاسل، فأجنبت فخفت إن أنا اغتسلت أن أهلك، فتيممت، وصليت بأصحابي، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يا
فدل ذلك على أن إمامة المتيمم بالمتوضئ ليس فيها بأس، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
والمستأجر أولى بالإمامة من المالك؛ لأنه مالك المنفعة، فهو صاحب السلطة.
نقف عند هذا والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر