الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقناً اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله في كتابه الروض المربع في باب صلاة الجماعة: [وحر بالرفع على الابتداء، وحاضر أي حضري وهو الناشئ في المدن والقرى، ومقيم، وبصير، ومختون أي: مقطوع القلفة، ومن له ثياب أي ثوبان وما يستر به رأسه أولى من ضدهم، خبر عن حر وما عطف عليه، فالحر أولى من العبد والمبعض، والحضري أولى من البدوي الناشئ في البادية، والمقيم أولى من المسافر؛ لأنه ربما يقصر فيفوت المأمومين بعض الصلاة في جماعة، وبصير أولى من أعمى، ومختون أولى من أقلف، ومن له من الثياب ما ذكر أولى من مستور العورة مع أحد العاتقين فقط، وكذا المبعض أولى من العبد، والمتوضأ أولى من المتيمم، والمستأجر في البيت المؤجر أولى من المؤجر، والمعير أولى من المستعير].
عندما ذكر المؤلف ما سبق أنهم أولى من غيرهم فلا يخلو حينئذ من أحوال:
الحال الأولى: أن يتقدم المفضول على الفاضل بإذنه، الآن المقيم أولى من المسافر، فيكون تقديم المسافر مفضولاً على الفاضل وغيره مما سبق، فيكون تقديم المفضول على الفاضل بإذنه قالوا: تصح الصلاة من غير كراهة إذا كان بإذنه، قالوا: ويحمل كل ما سبق خلافه على أن ثمة إذناً قائماً فإمامة سالم مولى أبي حذيفة كان بإذن، وإمامة المسافر كان بإذن، هذا هو المذهب.
والراجح: أنه إذا كان بإذن فهو على المذهب فلا حرج أصلاً، إلا أنه إمامة صاحب المسجد وإمامة صاحب البيت نقول: إذا كان بإذن جاز، وإذا لم يكن بإذن فهو محرم؛ لأن هذا نوع من الافتيات عليه، وهذا هو القسم الثاني، إذا كان بغير إذن، فإن المذهب يرون أن إمامة المفضول على الفاضل بلا إذن تكره على الصحيح من المذهب، فإمامة المسافر بالمقيم بلا إذنه، وإمامة المتيمم بالمتوضئ بلا إذنه على المذهب كل ذلك مكروه، وعلى هذا فقس في الحاضر، والمقيم، والمختون، والبصير.
والذي يظهر والله أعلم: أن ذلك من غير كراهة؛ لأن الكراهة حكم شرعي لا تثبت إلا بدليل شرعي، وأما إمامة غير صاحب البيت على البيت من غير إذنه، أو إمامة الشخص على إمام المسجد بلا إذنه فإن ذلك محرم؛ لأن هذا افتيات على حق المخلوق بلا إذنه، والرواية الأخرى: أن ذلك مكروه.
واستثنى الحنابلة السلطان؛ لأن له ولاية على الجميع، قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم دخل بيت عتبان بن مالك فصلى به، ودخل بيت أنس وصلى به، العلماء يقولون: بأن تقدمة السلطان الأعظم إنما هو من باب الإذن الضمني، وهذا الذي يظهر؛ لأن صاحب البيت يفرح أن يأتي السلطان في العادة بيته ويصلي به، فهذا من باب الإذن الضمني.
ثم ذكر المؤلف حديث: ( إذا أمّ الرجل القوم وفيهم من هو خير منه لم يزالوا في سفال )، والحديث لا يصح، وقاعدتنا أن الحديث إذا أخرجه العقيلي في الضعفاء أو ابن عدي في الكامل أو الديلمي في مسند الفردوس أو الطبراني في الكبير فإن هذه التخريجات مواطن ضعف فتنبه، وهذا الحديث مداره على رجل يقال له: الهيثم بن عقاب الكوفي ولا يحتج به، والإمام أحمد رحمه الله في رسالة الصلاة لم يقل: وفي الحديث، إنما قال: فإن الناس إذا صلى من ليس أهلاً لذلك لم يزالوا في سفال، وهذا من قوله رحمه الله، ولم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، حتى يظن أن أحمد أسنده في هذه الرسالة، وهو لم يسنده ولم ينسبه إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
قال المؤلف رحمه الله: (إلا إمام المسجد وصاحب البيت فتحرم)، هذا المذهب.
إذاً الفاسق هو من أتى كبيرة أو أكثر من الصغائر، قالوا: فإن الصلاة خلف الفاسق عند الحنابلة لا تصح، وهذا هو مذهب مالك ، سواءً أكان فسقه من جهة الأفعال، أم كان فسقه من جهة الاعتقاد، وقولنا: من جهة الأفعال أي العمل، أما الاعتقاد فهو أن يأتي بشبهة هوى، ليست بمكفرة، كمن وصف الله سبحانه وتعالى بأنه سميع بلا سمع كالمعتزلة أو الأشاعرة أو غير ذلك كما هو معروف.
والراجح والله تبارك وتعالى أعلم: القول الثاني في المسألة، وهو مذهب أبي حنيفة و الشافعي ورواية عن مالك ، وهو ظاهر صنيع وتقريرات أبي العباس بن تيمية رحمهم الله جميعاً، وهو أن الصلاة خلف الفاسق تصح؛ لأن كل من صحت صلاته صحت إمامته.
وأما حديث: ( صلوا خلف كل من قال: لا إله إلا الله )، فهذا حديث رواه الدارقطني وهو ضعيف جداً، وأصح شيء في الباب: ما ثبت من حديث عبيد الله بن عدي بن الخيار : ( أنه دخل على
ولحديث أبي هريرة عند البخاري : ( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم )، وقد صلى عبد الله بن عمر خلف الحجاج بن يوسف ، وأما القول بأنهم صلوا خلف مروان بن الحكم فإن مروان بن الحكم ثقة ثبت، وإنما أخطأ في بعض اجتهاده، والتأويل ليس مثل من يقع في المحذور، هذا هو الراجح.
فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد صحح صلاتهم في غير الجمعة فصلاة الجمعة من باب أولى، وهل تجدون في كتاب الله أو سنة رسوله أن النبي صلى الله عليه وسلم صحح الصلاة خلفهم؟ نقول: نعم، فأصح شيء في الباب من الموقوف حديث عثمان ، وأما المرفوع فكما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كيف أنت إذا كان عليك أمراء يؤخرون الصلاة عن ميقاتها؟ قال: يا رسول الله! فما تأمرني؟ قال: صل الصلاة لوقتها، فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة )، ومن المعلوم أن الذي يؤخر الصلاة إلى خروج وقتها واقع في الفسق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( تلك صلاة المنافق يجلس يرقب الشمس، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان؛ قام فنقر أربعاً لا يذكر الله تعالى فيها إلا قليلاً )، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( صل الصلاة لوقتها فإن أدركتها معهم فصل فإنها لك نافلة)، وهذا يفيد أمرين: الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم صحح الصلاة معهم نافلة، والثاني: أنهم لو صلوا الصلاة في أول الوقت لجاز أن يصلي خلفهم، فدل ذلك على صحة الصلاة خلف الفاسق والله أعلم.
وأما ما استدل به المؤلف رحمه الله وهو ( لا تؤمن امرأة رجلاً ولا أعرابي مهاجراً ولا فاجر مؤمناً إلا أن يقهره سلطان يخاف سوطه أو سيفه )، فهذا الحديث رواه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله ، وفي سنده عبد الله بن محمد العدوي عن علي بن زيد بن جدعان ، وهما ضعيفان ولا يحتج بهما.
قال المؤلف رحمه الله: (ككافر)، بمعنى: أنه لا تصح الصلاة خلف الفاسق، سواء أعلم فسقه بعد الصلاة أو قبل الصلاة، كما أنها لا تصح الصلاة خلف كافر سواء علمنا كفره قبل الصلاة أو علمنا كفره بعد الصلاة، فإن علمنا كفره قبل الصلاة لم تصح الصلاة وأثم فاعله، وأما بعد الصلاة فلا يأثم ولكنه يعيد الصلاة.
والرواية الثانية عند الحنابلة: أن الصلاة خلف الفاسق بعد انتهاء الصلاة لا يلزمه الإعادة؛ لأنه صلى حسب قدرته، وهذا أظهر، بمعنى: أننا لو صلينا خلف من لا تصح صلاته ولم نعلم إلا بعد انتهاء الصلاة فالصلاة صحيحة، كما قلنا في إمامة غير المتوضئ، يعني: الذي ليس بطاهر فالحنابلة يرون الإعادة، وقلنا: الصحيح أنه لا يلزم الإعادة، وقلنا: أصح شيء في الباب قصة عمر رضي الله عنه حينما صلى بأصحابه، فلما وصل الجرف وجد على ثيابه بللاً، يعني: أنه احتلم، فاغتسل وأعاد الصلاة ولم يأمر أصحابه بذلك، كما روى ذلك ابن المنذر في الأوسط و ابن أبي شيبة وغيرهما.
وعلى هذا فالذي يظهر: أن الإنسان لا يلزمه الإعادة بعد انتهاء العبادة. لكن إذا كنت في خارج المملكة وكان هناك قادياني أو شخص عالم يرى عبادة القبور وبناء الأضرحة ودعاء الموتى ويقرر ذلك، واستتيب فلم يتب، فهذا والعياذ بالله كافر، ولا تصح الصلاة خلفه، لكن لو لم نعلم إلا بعد الانتهاء، فالحنابلة لهم روايتان: أشهرهما وأصحها عندهم: أنه يلزم الإعادة، والرواية الثانية: أنه لا يلزم الإعادة، والأحوط الإعادة، والله أعلم.
ذكر المؤلف فروعاً على صحة الصلاة خلف مخالف الفروع، إلا أن ثمة مسائل تحتاج إلى بحث، قالوا: وإذا ترك الإمام ما يعتقده واجباً وحده دون المأموم؛ بطلت صلاتهما، صورتها: إذا كان الإمام يرى نقض الوضوء من لحم الجزور، والمأموم لا يرى ذلك -مثل: أن يكون المأموم حنفياً أو مالكياً أو شافعياً، والإمام حنبلياً- ويرى المأموم أن الإمام يرى بأن لحم الجزور ينقض الوضوء، فأكل الإمام لحم الجزور وصلى بهم، فالآن الإمام ترك ما يعتقده واجباً فتكون صلاته غير صحيحة.
وهل المأموم صلاته لا تصح بناءً على أنه يرى أن الإمام ترك ما يعتقده باطلاً أم تصح بناءً على أن المأموم يرى أن ما تركه الإمام تصح في حقه؟
قولان عند أهل العلم:
فذهب الحنابلة إلى أن الصلاة تبطل في حق الإمام؛ لأنه فعل ما يعتقده مبطلاً للصلاة، وصلاة المأموم تبطل؛ لأنه صلى خلف من يعتقد أن فعله تبطل به الصلاة، وهذا أظهر وهو الراجح خلافاً للشافعية والحنفية الذين قالوا: إن الصلاة تصح في حق المأموم ولا تصح في حق الإمام؛ لأن الصلاة في نظر المأموم صحيحة، فإذا ترك الإمام ما يعتقده واجباً، والمأموم يرى أنه ليس بواجب فإن المأموم حينئذ قد صلى خلف إمام على ما يعتقده غير واجب، فتكون صلاة المأموم صحيحة وصلاة الإمام باطلة.
والصحيح القول الأول: وهو أن صلاتهما باطلة؛ لأن المأموم صلى خلف إمام فعل ما يعتقده باطلاً، فحينئذ لا تصح.
بمعنى: أن المأموم يرى أن هذا واجب، والإمام لا يرى ذلك، يقول المؤلف: (لم يعد المأموم)، مثل: أن أصلي خلف من لا يرى في لحم الجزور أنه ناقض، فقول المؤلف: (لم يعد)، أفادنا المؤلف أمرين:
الأمر الأول: أن المأموم لا يعيد إذا صلى خلف من يعتقد بطلان صلاته.
الأمر الثاني: إن الإمامة هنا صحيحة، سواء علم به قبل الصلاة أم بعده، وهذا هو مذهب الحنابلة والمالكية.
وذهب الحنفية والشافعية إلى أن من صلى خلف من يعتقد بطلان صلاته لم تصح، وقد ألف متأخروهم في ذلك كتباً ما كان ينبغي لهم أن يؤلفوها، رحمهم الله وغفر الله لنا ولهم، ولهذا يذكرون في كتبهم المتأخرة: ولو صلى شافعي خلف حنفي لم تصح صلاته؛ لأن الحنفي يرى أن الفاتحة لا تجب، والشافعي يرى ذلك، والحنفي لا يرى الطمأنينة بعد الركوع، والشافعي يرى ذلك، فقالوا: ومن صلى خلف حنفي لم تصح صلاته والعياذ بالله، وهذا كله من الخطأ وتفريق جماعة المسلمين.
والصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: ( يصلون لكم فإن أصابوا فلكم ولهم، وإن أخطئوا فلكم وعليهم ).
المؤلف ذكر صورة ثالثة: وهي صورة من صلى وقد ترك ركناً مثل: ترك الطمأنينة في الصلاة، أو ترك شرطاً من شروط الصلاة مثل: استقبال القبلة أو القيام، أو واجباً مثل قول: سبحان ربي الأعلى أو سبحان ربي العظيم أو الفاتحة في حق المأموم على القول الراجح، يقول: (مختلفاً فيه)، أفادنا على أنه مختلف فيه في ركنيته من عدمه، أما لو ترك ركناً لم يخالف فيه أحد لم تصح صلاته؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ارجع فصل فإنك لم تصل ).
قال المؤلف رحمه الله: (بلا تأويل) أي: بلا اجتهاد، يعني: لم يجتهد في هذا الأمر، قال: (ولا تقليد) أي: ولم يقلد إماماً ممن يرى عدم الوجوب أو عدم الركنية أو عدم الشرطية، فإنهم يقولون: أعاد الصلاة، وقد ذكره بعضهم إجماعاً، وفي نقل الإجماع نظر وإنما أعاد الصلاةكما نقله المرداوي في الإنصاف قال: بلا نزاع؛ لأنه إنما فعل من غير علم، وقد قال صلى الله عليه وسلم للمسيء في صلاته: ( ارجع فصل فإنك لم تصل )، فهذا بناءً على جهله، أما لو كان عن اعتقاد أو تقليد فإنه قد أحسن من انتهى إلى ما سمع، وهذا يكثر كثيراً.
ولعل في هذا الأمر كفاية، نسأل الله أن يرزقنا وإياكم الفقه في الدين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر