الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ولا تصح صلاة رجل وخنثى خلف امرأة؛ لحديث جابر السابق, ولا خلف خنثى للرجال والخناثى لاحتمال أن يكون امرأة].
أولاً: قال المؤلف رحمه الله: (لحديث جابر ), وهو قوله صلى الله عليه وسلم كما عند ابن ماجه : ( لا تؤمن امرأة رجلاً، ولا أعرابي مهاجراً، ولا فاجر مؤمناً، إلا أن يقهره سلطان ) الحديث, وهذا الحديث ضعيف؛ لأن في سنده عبد الله بن محمد العدوي وهو ضعيف, والغالب في مفاريد ابن ماجه عن الكتب الستة أنها ضعيفة.
ثانياً: أنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أن امرأة أمت في مسجد، سواء كان في مسجد أهلها أو في غيره، أو أذن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك، مع توافر الدواعي لمثل هذه الأحوال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( وليؤمكم أكثركم قرآناً ), وكان من النساء الصحابيات من كانت أكثر قرآناً من أهل بيتها, ومع ذلك لم تؤمهم, فمع توفر الدواعي إلى نقل ذلك, ومع توفر الهمم لمثل ذلك, فلما لم ينقل علمنا أنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أذن لامرأة أن تؤم أهل بيتها.
ثالثاً: أن الإمامة نوع من التقديم, وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري : ( لا يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة ).
رابعاً: أنه من المعلوم أن المرأة مأمورة بالستر, فتقديمها أمام الرجال مدعاة لأن يظهر شيء من أمورها التي لا ينبغي أن تظهر, فهي تركع وتسجد، وهذا كله مدعاة إلى إثارة الفتن، والله أعلم.
إذا ثبت هذا فإن بعض أهل العلم جوز للمرأة أن تؤم أهل بيتها في التراويح, كما هي رواية الإمام أحمد رحمه الله.
وجوز أبو ثور و ابن جرير الطبري أن تؤم المرأة وتكون إماماً للرجال, واختلفوا هل تكون وسطهم أم أمامهم, واستدل أصحاب القول الثاني والثالث بما رواه أبو داود (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر
ثم إن الحديث على فرض صحته ليس فيه ما يدل على أن المرأة تؤم أهل بيتها؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لها أن تؤم أهل دارها, والمرأة هي التي تصلي في البيت, وأما الرجل فلا يصلي في البيت, فكأن هذا إذن للمرأة أن تكون إماماً للنساء, وأما أمر خادمها أن يؤذن لها، فهذا دليل لنا لا علينا؛ لأنه لما أذن لخادمها أن يؤذن، دل ذلك على أن الأذان لا يصلح للنساء, فإذا لم يجز للمرأة أن تكون مؤذناً فمن باب أولى ألا تؤم الرجال, وهذا واضح إن شاء الله لمن تأمل, والله أعلم.
وعلى هذا: فليس في الحديث لو صح ما يفيد أنها تصلي.
وأما ما جاء في بعض الروايات أنها كانت تمسك بالقرآن فتقرأ منه في صلاة التراويح فيحمل على أنها كانت تصلي بأهل بيتها من النساء, وقد جاء عند عبد الرزاق من حديث عائشة و أم سلمة أنها كانت تؤم أهل بيتها من النساء وتقوم وسطهن, والحديث في إسناده كلام، لكن إسناده إن شاء الله إلى الحسن أقرب، وهذا يدل على الجواز لا على الاستحباب.
وأما أبو ثور و المزني و ابن جرير فإنما جوزوا ذلك بناءً على حديث أم ورقة ، والحديث -كما قلت- ضعيف.
ومما يدل على ضعف ذلك: ما جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خير صفوف النساء آخرها, وشرها أولها ), فلا يمكن أن تكون المرأة إماماً؛ لأنها سوف تدخل في شر الصفوف, وهو أولها.
إذا ثبت هذا فاعلم رعاك ربي! أنه لم ينقل عن أحد من أهل العلم -فيما أعلم- أنه جوز للمرأة أن تكون إماماً في صلاة الجمعة والأعياد, وإنما الخلاف في الفرض, وأما الجمعة والأعياد فلها حكم مستقل, وعليه فما ذكر من زوبعة قبل عدة سنوات أنه يجوز للمرأة أن تؤم في صلاة الجمعة، فهذا لم يقل به أحد من أهل العلم, وإنما الخلاف في الفرض مع ضعفه, وقد قال به أبو ثور و المزني من الشافعية وابن جرير الطبري وأما الحنابلة في رواية إنهم جوزوا إقامتها في صلاة التراويح, وإلا فإن مذهب الأئمة الأربعة في المشهور عندهم عدم صحة الصلاة.
قال المؤلف رحمه الله: (والخناثى لاحتمال أن يكون امرأة), يعني: لا يصح أن تكون الخنثى إماماً لخناثى؛ لاحتمال أن تكون الخناثى من المأمومين رجالاً.
وذهب الشافعي في قول، وهو إحدى الروايتين عن أحمد ، وهو ظاهر صنيع أبي العباس بن تيمية ، أنه يجوز للصبي المميز أن يؤم الكبار إذا كان يحسن قراءة الفاتحة؛ وذلك لأمور:
أولاً: لما روى البخاري من حديث عمرو بن أبي سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لوفده: ( وليؤمكم أكثركم قرآناً, قال
ومما يدل على جواز إمامة الصبي أيضاً: هو أن الاختلاف الوارد في الحديث إنما هو اختلاف أفعال لا اختلاف نيات، بدليل أن قوله صلى الله عليه وسلم: ( فلا تختلفوا عليه ), عام في الفرض والنفل, وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم إمامة الصبي وائتمامه في النفل؛ ولهذا فالحنابلة يجوزون في النفل دون الفرض، والصحيح جواز ذلك مطلقاً, هذا هو الراجح والله أعلم.
وأما حديث: ( لا تقدموا صبيانكم ), فهذا الحديث رواه الديلمي في مسند الفردوس, وفي سنده يحيى بن يعلى الأسلمي و عبد الواحد بن زيد البصري , وهؤلاء لا يحتج بحديثهم, والغريب أن مسند الفردوس إنما وضعه للموضوعات، والأحاديث المكذوبة عن النبي صلى الله عليه وسلم, وبعض المحققين يقول: أخرجه الديلمي في مسند الفردوس بإسناد لا بأس به, ولا يمكن أن يكون مسند الفردوس لا بأس بإسناده أبداً؛ لأنه وضعه للضعف. كذلك تجدهم يقولون: رواه تمام في فوائده بإسناد جيد, إذا قيل في الحديث: فائدة فهو ضعيف، كما قال الإمام أحمد ، إذا قال أهل الحديث: هذا حديث فائدة يقصدون به الضعف؛ لأنه دخل في علم الحديث من ليس أهلاً لذلك, بسبب وجود الفهارس ووسائل البحث السريعة, وأذكر أني قرأت كتاباً لـابن القيم يحققه لجنة من العلماء بإشراف دور النشر, فعندما ذكر ابن القيم رحمه الله حديثاً قدسياً عن الله؛ يقول ابن القيم: قال الله تعالى.. ثم ذكر الحديث القدسي, جاء هؤلاء العلماء الذين وصفهم المؤلف أو الناشر ووضعوا هامشاً من تحت وقالوا: لم نجده في كتاب الله تعالى, مرحى لهذا المحقق.
الديلمي و ابن عدي في الكامل و العقيلي و ابن حبان في المجروحين والطبراني في معاجمه الثلاثة، كل هذه مواطن ضعف, إلا أن يستدل للطبراني في الكبير إذا جاءت متابعة أصولها في المسانيد.
الأخرس هو الذي لا يتكلم, فقالوا: لا تصح إمامة الأخرس ولو بمثله؛ لأنه أخل بفرض الصلاة وهي قراءة الفاتحة وهي ركن, وهذا هو المذهب، وهو قول أكثر أهل العلم.
القول الثاني في المسألة: أن كل من صحت صلاته صحت إمامته, خاصة أن الأخرس يؤم الناس في ما لا يجهر فيه بالقراءة، لكن لا شك أن الإمامة محل قصد سماع قراءة الإمام وإسماع الناس القرآن, فلا ينبغي ولو قيل بالصحة, فلا ينبغي أن يؤم الأخرس سواء أم من هو مثله أم دونه, وعلى القول بجواز إمامة الأخرس لا بد أن يعرف أحكام الصلاة، والله أعلم.
على كل حال، الجمهور على أنه لا تصح إمامة الأخرس، والقول الثاني: تصح وهو قول أبي محمد بن قدامة .
وأما سبب قولنا: إنها تصح لكنها مع الكراهة؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( يؤم القوم اقرؤهم لكتاب الله ), والأخرس لا يقرأ, وهذا هو الذي نقول به: إنه لا ينبغي أن يؤم والله أعلم, لكن لو صلى بالناس خاصة في غير الجهرية، فالقول بالإعادة يحتاج إلى دليل، وهذا يحصل كثيراً, فأحياناً يكون هيئته هيئة طالب علم، فيقدموه وهو يسكت ويصلي ولا يدرون، وهذا لا ينبغي.
هذه المسألة من المسائل الشائكة في باب الإمامة والائتمام وهي أن الحنابلة رحمهم الله يرون أن العاجز عن الركوع أو السجود أو القيام ولو إلى بدل، لا يصح أن يكون إماماً لمن هو قادر على ذلك, وقولنا: (ولو إلى بدل)؛ لأن الركوع إذا عجز عنه يؤمئ إيماءً, وكذلك السجود, والقيام إذا عجز عنه فإنه يجلس فيكون بدلاً عن القيام, فالحنابلة يرون أنه لا تصح إمامة العاجز عن القيام والركوع والسجود إلا في حالة واحدة وهو إمام الحي المرجو زوال علته, وأما غيره فإن إمامته لا تصح، فإذا كان إمام الحي لا يرجى زوال علته فلا تصح إمامته؛ خوفاً من أن يفضي ذلك إلى ترك الركن مطلقاً أو ترك القيام مطلقاً, هذا مذهب الحنابلة.
فقولنا: إمام الحي، يشكل عليه حديث أنس ؛ لأن الصحابة لم يصلوا فقط مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته, إنما صلوا مع من زاره وصلى في بيته, وصلى بعض أصحابه في المسجد.
واستثناء الحنابلة للإمام الحي الراتب محل نظر؛ ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز أن يؤم العاجز عن القيام أو الركوع أو السجود وأنتم تقولون: إن الإمام الراتب والإمام في البيت واحد؛ لأن حكمه السابق واحد, لكن يشكل عليه أن الإمام الراتب إنما استثني لأجل أن له حقاً في ذلك. وقولنا: (إمام البيت), لم تجب عليهم الصلاة عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم, لهم أن يصلوا في المسجد, فلما صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن صلاتهم في المسجد من حيث المكان أفضل, وإن كان إمامتهم خلف النبي أفضل بلا شك، دل ذلك أن استثناء إمامة الحي محل نظر؛ ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز إمامة العاجز عن القيام أو الركوع أو السجود, هذا قول الجمهور؛ لأن كل من صحت صلاته صحت إمامته, لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه وهو عاجز, ولا فرق بين إمام الحي أو الإمام الراتب, ولو كان ثمة فرق لبين، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, وعلى هذا (فيؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله), كما في حديث أبي مسعود .
القول الثاني: قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنفية يقولون: تصح إمامة العاجز عن القيام أو الركوع أو السجود، لكن من خلفه يجب أن يصلوا قياماً؛ لأن هذا هو آخر الأمرين عن النبي صلى الله عليه وسلم, فإن الصحابة كانوا يصلون وراءه قياماً, فأمرهم بالجلوس, ثم بعد ذلك تركهم, فيكون هذا آخر الأمرين, أو يكون الإذن بالقيام في آخر حياته دليلاً على إرجاع الحكم إلى قبل الأمر بالجلوس.
ولهذا ذهب الجمهور إلى وجوب القيام خلافاً لقول الحنابلة في استحباب الجلوس.
القول الثالث: استحباب القيام وجواز الجلوس؛ وهذا هو الأولى لأن الصحابة رضي الله عنهم قاموا في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيامهم إرجاع إلى الأصل, والأصل أن الإنسان يصلي قائماً, فهذا القول فيما يظهر أقوى, فهو ليس كقول الجمهور أنه يجب القيام، وليس هو كقول الحنابلة أنه يستحب الجلوس, ولكن الأقرب أنه يستحب القيام.
إذاً لا فرق بين ابتداء الإمام جالساً أو جلوسه أثناء الصلاة؛ لأن الحنابلة رحمهم الله يرون أن جلوسه أثناء الصلاة يوجب على المأمومين القيام؛ ولهذا قال: (ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً), فإذا كان ابتداء العلة في أول صلاته يستحب للمأمومين أن يجلسوا, وإن جاءته العلة أثناء صلاته وجب على المأمومين أن يقوموا, فهذا يجعل الأمر محل نظر كما قال الجمهور, فإما أن نجعل القيام في الأول مستحباً, وإما أن نجعل القيام واجباً في الجميع, أما أن نجعل الجلوس مستحباً في ابتداء الصلاة والقيام واجباً إذا جاءت العلة أثناء الصلاة فهذا محل نظر, فهو تفريق بين متماثلين فيما يظهر, وإن كان ثمة فرق، لكن مثل هذا الفرق لا يستدل به؛ لأنه وقع اتفاقاً.
ولهذا عندما أوجب الحنابلة القيام قلنا: هذا محض فعل, كيف يوجب القيام وهو فعل من الصحابة؟ الصحابة قاموا, فلماذا أوجبنا القيام وهو فعل؟ قالوا: لأن هذا إرجاع للأصل, ولو قيل بالاستحباب لم يكن بعيداً, والله أعلم.
أما الجمهور فيرون وجوب القيام مطلقاً, سواء وجدت العلة في ابتداء الصلاة أو وجدت في أثنائه، والحنابلة يرون إن كانت العلة في أثناء الصلاة وجب القيام, وإن كانت العلة في ابتداء الصلاة في الإمام الراتب استحب الجلوس, والقول الثالث استحباب القيام مطلقاً, ويجوز الجلوس عند ابتداء العلة في أول صلاته، ولعل هذا هو الظاهر والله أعلم.
وأما استدلال المؤلف بحديث عائشة : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ), أو ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين ), إنما هذا يدل على الجواز؛ لأنه في آخر عهده صلى الله عليه وسلم قام الصحابة ولم يجلسوا؛ ولهذا قال: (لأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته قاعداً, وصلى أبو بكر والناس خلفه قياماً, متفق عليه عن عائشة، وكان أبو بكر قد ابتدأ بهم قائماً كما أجاب به الإمام).
اعلم أن هذا الحديث تكلم فيه أهل العلم, هل كان الإمام هو الرسول صلى الله عليه وسلم أم أبو بكر ؟ والصحيح أن الإمام كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث إن أبا بكر تقهقر وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة يصلون بصلاة أبي بكر كما جاء ذلك في بعض الروايات, وأما الروايات الأخرى المخالفة, فإنما هي اختصار من بعض الرواة.
لعل في هذا كفاية, نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر