قال المؤلف رحمه الله: [ ولا إمامة عاجز عن ركوع أو سجود أو قعود إلا لمثله أو قيام أي: لا تصح إمامة العاجز عن القيام لقادر عليه, إلا إمام الحي الراتب بمسجد المرجو زوال علته؛ لئلا يفضي إلى ترك القيام على الدوام, ويصلون وراءه جلوساً ندباً, ولو كانوا قادرين على القيام؛ لقول
: روي هذا مرفوعاً من طرق متواترة، فإن ابتدأ بهم الإمام الصلاة قائماً ثم اعتل, أي: حصلت له علة عجز معها عن القيام فجلس، أتموا خلفه قياماً وجوباً؛ لأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته قاعداً، وصلى
قد ابتدأ بهم قائماً، كما أجاب به الإمام ].
هذه المسألة من المسائل الشائكة في باب الإمامة والائتمام وهي أن الحنابلة رحمهم الله يرون أن العاجز عن الركوع أو السجود أو القيام ولو إلى بدل، لا يصح أن يكون إماماً لمن هو قادر على ذلك, وقولنا: (ولو إلى بدل)؛ لأن الركوع إذا عجز عنه يؤمئ إيماءً, وكذلك السجود, والقيام إذا عجز عنه فإنه يجلس فيكون بدلاً عن القيام, فالحنابلة يرون أنه لا تصح إمامة العاجز عن القيام والركوع والسجود إلا في حالة واحدة وهو إمام الحي المرجو زوال علته, وأما غيره فإن إمامته لا تصح، فإذا كان إمام الحي لا يرجى زوال علته فلا تصح إمامته؛ خوفاً من أن يفضي ذلك إلى ترك الركن مطلقاً أو ترك القيام مطلقاً, هذا مذهب الحنابلة.
وإنما استثنى الحنابلة إمام الحي قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أم أصحابه حينما كان شاكياً, و
عائشة رضي الله عنها ذكرت هذا, وفي الصحيحين من حديث
أنس : (
أن النبي صلى الله عليه وسلم سقط عن فرس فجحش شقه الأيمن، فجاء أصحابه يعودونه, فحضرت الصلاة فأمهم ), وهذا الحديث يشكل على ما اختاره الحنابلة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمهم في بيته ولم يكن إماماً راتباً في مسجده؛ ولهذا كان من الصحابة من ذهب فصلى في المسجد.
فقولنا: إمام الحي، يشكل عليه حديث أنس ؛ لأن الصحابة لم يصلوا فقط مع النبي صلى الله عليه وسلم في بيته, إنما صلوا مع من زاره وصلى في بيته, وصلى بعض أصحابه في المسجد.
واستثناء الحنابلة للإمام الحي الراتب محل نظر؛ ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز أن يؤم العاجز عن القيام أو الركوع أو السجود وأنتم تقولون: إن الإمام الراتب والإمام في البيت واحد؛ لأن حكمه السابق واحد, لكن يشكل عليه أن الإمام الراتب إنما استثني لأجل أن له حقاً في ذلك. وقولنا: (إمام البيت), لم تجب عليهم الصلاة عند بيت الرسول صلى الله عليه وسلم, لهم أن يصلوا في المسجد, فلما صلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم مع أن صلاتهم في المسجد من حيث المكان أفضل, وإن كان إمامتهم خلف النبي أفضل بلا شك، دل ذلك أن استثناء إمامة الحي محل نظر؛ ولهذا ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز إمامة العاجز عن القيام أو الركوع أو السجود, هذا قول الجمهور؛ لأن كل من صحت صلاته صحت إمامته, لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه وهو عاجز, ولا فرق بين إمام الحي أو الإمام الراتب, ولو كان ثمة فرق لبين، ولا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة, وعلى هذا (فيؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله), كما في حديث أبي مسعود .
إذاً: القول الأول في المسألة: الحنابلة يقولون: إذا ابتدأ بهم جالساً, ففي هذه الحالة يستحب لمن خلفه أن يصلوا جلوساً, قال المؤلف: (ندباً)؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه أن يجلسوا؛ ولهذا قال: (
وإذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعون ), وفي رواية: (
أجمعين ), ولم يقل الحنابلة بوجوب القيام ولا باستحباب القيام؛ لهذا الحديث, ولم يقولوا بوجوب الجلوس؛ لأن الصحابة في قصة
أبي بكر قاموا, فيكون قيام الصحابة مع عدم نهي النبي صلى الله عليه وسلم دليل على جواز القيام, وأمره صلى الله عليه وسلم بالجلوس دليل على الاستحباب، وهذا جمع للأدلة.
القول الثاني: قول الجمهور من المالكية والشافعية والحنفية يقولون: تصح إمامة العاجز عن القيام أو الركوع أو السجود، لكن من خلفه يجب أن يصلوا قياماً؛ لأن هذا هو آخر الأمرين عن النبي صلى الله عليه وسلم, فإن الصحابة كانوا يصلون وراءه قياماً, فأمرهم بالجلوس, ثم بعد ذلك تركهم, فيكون هذا آخر الأمرين, أو يكون الإذن بالقيام في آخر حياته دليلاً على إرجاع الحكم إلى قبل الأمر بالجلوس.
ولهذا ذهب الجمهور إلى وجوب القيام خلافاً لقول الحنابلة في استحباب الجلوس.
القول الثالث: استحباب القيام وجواز الجلوس؛ وهذا هو الأولى لأن الصحابة رضي الله عنهم قاموا في آخر عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيامهم إرجاع إلى الأصل, والأصل أن الإنسان يصلي قائماً, فهذا القول فيما يظهر أقوى, فهو ليس كقول الجمهور أنه يجب القيام، وليس هو كقول الحنابلة أنه يستحب الجلوس, ولكن الأقرب أنه يستحب القيام.
إذاً لا فرق بين ابتداء الإمام جالساً أو جلوسه أثناء الصلاة؛ لأن الحنابلة رحمهم الله يرون أن جلوسه أثناء الصلاة يوجب على المأمومين القيام؛ ولهذا قال: (ابتدأ بهم قائماً ثم اعتل فجلس أتموا خلفه قياماً وجوباً), فإذا كان ابتداء العلة في أول صلاته يستحب للمأمومين أن يجلسوا, وإن جاءته العلة أثناء صلاته وجب على المأمومين أن يقوموا, فهذا يجعل الأمر محل نظر كما قال الجمهور, فإما أن نجعل القيام في الأول مستحباً, وإما أن نجعل القيام واجباً في الجميع, أما أن نجعل الجلوس مستحباً في ابتداء الصلاة والقيام واجباً إذا جاءت العلة أثناء الصلاة فهذا محل نظر, فهو تفريق بين متماثلين فيما يظهر, وإن كان ثمة فرق، لكن مثل هذا الفرق لا يستدل به؛ لأنه وقع اتفاقاً.
ولهذا عندما أوجب الحنابلة القيام قلنا: هذا محض فعل, كيف يوجب القيام وهو فعل من الصحابة؟ الصحابة قاموا, فلماذا أوجبنا القيام وهو فعل؟ قالوا: لأن هذا إرجاع للأصل, ولو قيل بالاستحباب لم يكن بعيداً, والله أعلم.
أما الجمهور فيرون وجوب القيام مطلقاً, سواء وجدت العلة في ابتداء الصلاة أو وجدت في أثنائه، والحنابلة يرون إن كانت العلة في أثناء الصلاة وجب القيام, وإن كانت العلة في ابتداء الصلاة في الإمام الراتب استحب الجلوس, والقول الثالث استحباب القيام مطلقاً, ويجوز الجلوس عند ابتداء العلة في أول صلاته، ولعل هذا هو الظاهر والله أعلم.
وأما استدلال المؤلف بحديث عائشة : ( إنما جعل الإمام ليؤتم به ), أو ( إذا صلى جالساً فصلوا جلوساً أجمعين ), إنما هذا يدل على الجواز؛ لأنه في آخر عهده صلى الله عليه وسلم قام الصحابة ولم يجلسوا؛ ولهذا قال: (لأنه صلى الله عليه وسلم صلى في مرض موته قاعداً, وصلى أبو بكر والناس خلفه قياماً, متفق عليه عن عائشة، وكان أبو بكر قد ابتدأ بهم قائماً كما أجاب به الإمام).
اعلم أن هذا الحديث تكلم فيه أهل العلم, هل كان الإمام هو الرسول صلى الله عليه وسلم أم أبو بكر ؟ والصحيح أن الإمام كان هو رسول الله صلى الله عليه وسلم, حيث إن أبا بكر تقهقر وتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فكان أبو بكر يصلي بصلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة يصلون بصلاة أبي بكر كما جاء ذلك في بعض الروايات, وأما الروايات الأخرى المخالفة, فإنما هي اختصار من بعض الرواة.
لعل في هذا كفاية, نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.