الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ وأن يكثر الدعاء رجاء أن يصادف ساعة الإجابة وأن يكثر الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( أكثروا علي من الصلاة يوم الجمعة )، رواه أبو داود وغيره، وكذا ليلتها، ولا يتخطى رقاب الناس؛ لما روى أحمد : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر رأى رجلاً يتخطى رقاب الناس، فقال له: اجلس فقد آذيت )، إلا أن يكون المتخطي الإمام فلا يكره للحاجة، وألحق به في الغنية المؤذن، أو يكون التخطي إلى فرجة لا يصل إليها إلا به فيتخطى؛ لأنهم أسقطوا حق أنفسهم بتأخرهم ].
القول الأول: إنها آخر ساعة من يوم الجمعة، وقولنا: (هي آخر ساعة) يعني: هي آخر الوقت، وعلى هذا فالإنسان يدعو يوم الجمعة في آخر ساعة من العصر، فإذا فُرض أن العصر مثلاً: من الساعة الثالثة تقريباً إلى الساعة السادسة مثلاً فإنه يشرع في الدعاء من خمس إلا ربع تقريباً، وأما تحديد ذلك بخمس دقائق قبل الأذان، أو سبع أو عشر دقائق قبل الأذان فهذا بلا شك تقصير في الدعاء، وإلا فإنه ينبغي أن يلهج الإنسان بذكر الله ودعائه وحسن ثنائه وأن يُكثر من الإلحاح، ولا شك أن الإطالة في الدعاء توشك أن تفتح لصاحبها، وأما الاقتصار على خمس دقائق كما يفعله العامة فلا ينبغي، فإن الأفضل أن يُطيل، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( قائماً يصلي )، ولا شك أن معنى (قائماً يصلي) يدعو، وليس المقصود به الصلاة، ولا بد أن تعلم أن كلمة (قائماً) تفيد الإطالة، ولهذا قال تعالى: إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا [آل عمران:75]، يعني: ملازماً، مواصلاً، مثابراً، وهذا لا يتأتى إلا مع إطالته في دعائه في عصر يوم الجمعة.
القول الثاني: إنها ما بين أن يدخل الإمام لخطبة الجمعة، وشروع المؤذن في الأذان إلى أن تقضى الصلاة، يعني: إلى أن يُسلم الإمام من الصلاة، وفي هذا دلالة على أنه إذا شرع المؤذن في الأذان ينبغي أن يُكثر المرء إماماً كان أو مأموماً من الدعاء، وحُسن الإنصات للمؤذن؛ لأن الإنصات للمؤذن نوع إجابة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم من حديث عمر : ( ثم قال: الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، قال: لا إله إلا الله، إلا دخل الجنة )، فهذه ساعة إجابة فينبغي أن يُتابع المؤذن، كذلك يقول: رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، لما جاء في صحيح مسلم من حديث سعد بن أبي وقاص : ( ما من مسلم يقول حينما يسمع المؤذن: وأنا أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، رضيت بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد رسولاً، إلا غُفر له ذنبه )، فهذا وقت إجابة.
كذلك إذا انتهى من الأذان فإنه يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل له الوسيلة، كذلك يُكثر من الدعاء قبل أن يبدأ الإمام الخطبة، وهذه مواطن يغفل فيها الناس عن الدعاء، وذلك بسبب انشغالهم بما يستحدث عنه الإمام، وما هي الخطبة، أو بغير ذلك، وكذلك إذا شرع الإمام بالدعاء يوم الجمعة، أو جلس بين الخطبتين فإنه ينبغي للإنسان أن يُكثر من الدعاء.
وفي فضل هذه الساعة جاءت أحاديث مرفوعة، وموقوفة، فالمرفوع رواه مسلم من حديث عبد الله بن عمر : ( أنه سأل
فدل ذلك والله أعلم على أن من الساعات: آخر ساعة في يوم الجمعة، ومن دخول الإمام إلى أن تقضى الصلاة، ومما يدل على ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( إن في الجمعة لساعة )، يعني: زمناً ووقتاً، وهذا لا يلزم منه أن يكون وقتاً واحداً، فالعبرة هي بوجود الإجابة وقبول الله سبحانه وتعالى للدعاء، ولهذا فإنه لا مانع أن الوقتين يشملهما ساعة واحدة، والله أعلم، وهذا الذي قواه ابن القيم رحمه الله.
وعلى هذا ما يفعله العامة خاصة الشباب والشابات: من قراءة سورة البقرة لأجل الزواج، لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء إلا أمران: هما الدعاء، والصدقة، ومن الدعاء الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يغفل عنه كثير من الناس؛ فإنه إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم كُفي همه، بمعنى: زال ما يشغله، ولعل الحديث الذي جاء عند أهل السنن عن ابن عمر وعن ابن عباس حينما خدرت رجله قال: اذكر أحب الناس إليك؟ قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمقصود ليس مناداة الرسول صلى الله عليه وسلم -مع أن الحديث ضعيف- لكن يُحمل على الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه لما صلى على النبي صلى الله عليه وسلم كُفي همه من وجع رجله، والعلم عند الله، وعلى هذا فينبغي على الإنسان أن يُكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وأذكر أن بعض الفضلاء يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة وليلتها ستة آلاف وأربعمائة مرة، ولا شك أننا مقصرون جداً جداً في الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، فينبغي للإنسان أن يُعاهد نفسه بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، والله أعلم.
وسبب ذلك: هو أن متخطي رقاب الناس مع أنه متأخر عن حضور الصلاة فإنه يؤذي المصلين.
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول لمن هو في عبادة ويريد أن يفعل خيراً: اجلس فقد آذيت، فما بالك بمن يؤذي المؤمنين، الصالحين بكتاباته ورسوماته، وأقواله وافتراءاته، والله إنها لأحدى الكُبر، وهذا يدل على أن أذية المؤمن عظيمة ولهذا قال تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا [الأحزاب:58]، وعلى هذا فينبغي للمسلم أن يعلم أنه إذا كان الناس قد جاءوا لعبادة وهو يريد أن يفعل عبادة وأنه إن ترك بعض الآداب يُعد مؤذياً؛ فما بالك بمن يأخذ أموال الناس أو يهتك أعراضهم أو يغتابهم، أو يسألهم ليحرجهم أمام جهات معينة، فإن هذا والله نوع من الأذية نسأل الله سبحانه وتعالى! أن يعصم ألسنتنا وجوارحنا من ذلك.
وبعض العلماء يرى أن الأذية موجودة فلا ينبغي أن يؤذي حتى ولو كان هناك فرجة.
والذي يظهر لي والله أعلم أن الفُرجة إذا انتظر الإنسان ولم تُسد، وغلب على ظنه أنه لن يسدها أحد فإنه يتقدم ويسدها، وأما يوم الجمعة فالذي يظهر والله أعلم أنه إن كان يجد مكاناً في الخلف فلا يسوغ له أن يؤذي المصلين بأن يتخطى رقابهم ليتقدم في الصلاة فلا يجوز له ذلك.
الحالة الثانية: أن يأتي إلى المسجد ولا يجد مكاناً البتة، ويجد فُرجاً أمام المصلين فإنه والله أعلم يجلس حيثما انتهى به المجلس، ولا يتقدم، إلا إذا كان تقدمه بلا تخطي ولا أذية؛ لأن حضور واستماع الخطبة لا يلزم منه أن يتقدم، وأما إذا كان بعيداً عن المسجد فيجلس ولو خارج المسجد ولا يتخطى رقاب الناس فإذا جاء وقت الصلاة دخل ولا يعد متخطياً حينئذ. وعلى هذا فما يظنه الناس من أن استماع الخطبة لا يكون إلا في المسجد، فغير صحيح، فإنه حتى لو كان في سيارته أمام المسجد ولم يتحرك ولم يتكلم فإنه يعد مستمعاً، وقد ذكر الإمام الذهبي رحمه الله عن عبد الله بن مسعود وروي عن عبد الله بن رواحة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قام يوماً فأمر أصحابه أن ابقوا مكانكم، فسمعه
نسأل الله أن يرزقنا الفقه في الدين، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر