الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [وحرم أن يقيم غيره ولو عبده، أو ولده الكبير فيجلس مكانه؛ لحديث ابن عمر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يقيم الرجل أخاه من مقعده ويجلس فيه )، متفق عليه، ولكن يقول: افسحوا، قاله في التلخيص].
قال المؤلف رحمه الله: (ولكن يقول: افسحوا، قاله في التلخيص)، هذا جاء مرفوعاً من حديث جابر عند مسلم ، قال: ( لا يقيمن أحدكم أخاه يوم الجمعة ثم يخالف إلى مقعده، ولكن تفسحوا )، وكتاب التلخيص عند الحنابلة للفخر بن تيمية ، وأما التلخيص عند الشافعية للجويني ومن الملاحظ أن تسمية كتب الشافعية والحنابلة قريبة والله أعلم، ولعل من أسباب ذلك هو وجود المدارس التي تدرس كتب المذاهب، فمثلاً: المدرسة المستنصرية من مدارس الحنابلة التي كانوا يدرسون فيها مذهبهم، وقد ألف الحنابلة كتاب الحاوي في الفقه لـعبد الرحمن بن عمر الذي يسمى أبا طالب الضرير ، ألف الماوردي كتاب الحاوي على المذهب الشافعي، وأيضاً مما يتقارب فيه الحنابلة والشافعية أن كلمة القاضي موجودة عند الشافعية وموجودة عند الحنابلة، حتى أسماء الكتب، وأسماء الرجال، ولعل هذا نوع من التمازج والتنافس الذي يكون بين المدارس.
وقد كانت المدارس نوعاً من الجامعات أو المجمعات الدراسية التي يُدرس فيها كتب المذهب من أسهلها إلى أعلاها، على الطلاب المبتدئين والمنتهيين.
يقول المؤلف: إن النهي أن يقيم الرجل أخاه فيما إذا كان الجالس إنما جلس لمصلحة نفسه، وأما إن كان الجالس إنما جلس ليحفظ هذا المكان لغيره فلا بأس أن يُقيمه؛ لأن الجالس الأول بمثابة النائب، فإذا جلس ليحفظه له فإنه غير داخل في النهي، هذا كلام المؤلف، فالذي يبعث ولده ليجلس في المسجد ثم يأتي بعد ذلك متأخراً، أو يؤاجر شخصاً في الحرم ليأتي مبكراً فيبسط له البُسط والفُرش ثم يأتي بعد ذلك، لا شك أن هذا نوع من الاغتصاب؛ اغتصاب البُقع وأعمال الخير، ولا شك أن هذا منهي عنه، وقد ذكر أبو العباس بن تيمية أنه إذا رأى ذلك فإنه ينزعها ويصلي إذا علم أنه ليس في المسجد ولم يأت بنفسه إلى المسجد.
ثم ذكر مسألة فقال: لو صلى عليها، هل يأخذ حكم الصلاة في الأرض المغصوبة أم لا؟ وهذا ليس في أرض مغصوبة؛ لأنها ليست حقاً له -والله أعلم- وعلى هذا فلا ينبغي ما يفعله الناس في الحرم من الحجوزات والفرش ليأتي المؤجر الذي استأجره ويجلس فيها، وبلغني أنهم قد وضعوا جهات في الحرم لمنع مثل هذا، وهذا حقيقة يُشكرون عليه؛ لأن مثل هذا أصبح فيه نوع من الازدراء والمباهاة، والله أعلم.
الحالة الأولى: أن يقيمه ليجلس في مكانه، فالحنابلة يقولون: إن كان الجالس الأول إنما جلس لمصلحة نفسه فلا يُقيمه، وهو حرام سواء كان ولده أو عبده، أما إن أمر غيره أن يجلس على أنه نائب له ثم أقامه بعد ذلك فلا بأس؛ فقد قال: (ومن قدم صاحباً له فجلس في موضع يحفظه له، وكذا لو جلس لحفظه بدون إذنه، قال: لأن النائب يقوم باختياره)، فهذه الحالة الأولى.
الحالة الثانية: أن يُقيم غيره ولا يُريد أن يجلس فيه؛ لأن المكان الذي جلس فيه الغير ليس مكاناً له، مثل: أن يجلس المصلي في مكان الإمام، أو أن يجلس في طريق الناس -مثل الجلوس في الدرج فإنهم يجلسون فيها فيؤذون المصلين- فله أن يقيمه، والنهي إنما هو في أن يقيمه ليجلس في مكانه، أما إن أقامه لأنه جلس في موضع ليس للجلوس فلا حرج.
وهل له أن يقيمه إذا كان مكاناً للمؤذن؟
من المعلوم أن الصحابة لم يجعلوا للمؤذن مكاناً خاصاً فيه، والذي يظهر لي والله أعلم أنه لا بأس بأن يكون للمؤذن مكان يجلس فيه، وأما نهي النبي صلى الله عليه وسلم أن يتخذ الإنسان عطناً يجلس فيه كأعطان الإبل، فهذا الحديث رواه البخاري معلقاً بصيغة التمريض وهو ضعيف، والذي يظهر لي أنه لا ينبغي للمصلين أن يجلسوا في مكان المؤذن، وبعض الإخوة خاصة الشباب هداهم الله تجده يأتي مسجداً وربما لا يعرفه أحد فيجلس مكان المؤذن فإذا سُئل؟ قال: ليس فيه دليل، طيب الناس لا يعرفونك ولا يعرفون علمك، ولا يدرون عن هذه المسألة، ولربما وقع في قلوبهم عليك وعلى ما تحمله من مبادئ من التزام وغيره شيء كثير، ولهذا ينبغي للإنسان أنه إذا علم شيئاً والناس لا يعلمونه أن يأتيهم باللين والموافقة، فإن النفوس مجبولة على بغض من أخذ منها ما تظنه حقاً لها، والعلم عند الله.
وعلى هذا فالذي يظهر لي والله أعلم أنه وإن لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تحديد مكان للمؤذن لكن اعتاد الناس ذلك؛ ليسهل على المؤذن الإقامة، ويعرف الإمام، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (وكُره إيثاره غيره بمكانه الفاضل)، يعني: أن الإنسان إذا جلس في مكان فاضل يكره له أن يقوم من نفسه ليجلس فيه غيره، والمنهي عنه هو أن يقيم غيره ليجلس في المكان، وإنما قالوا: يكره أن يقوم من نفسه لأن هذا من باب الإيثار بالقُرب، والأصل أن الإيثار في القُرب مكروه كما أشار إلى ذلك العز بن عبد السلام في كتابه القواعد وغيره، وقد تكلم ابن القيم في المجلد الثالث من زاد المعاد في مسألة الإيثار بالقُرب، وقال: إن الإيثار بالقُرب إذا كان فيه مصلحة شرعية من إدخال السرور على أخيه المسلم فلا حرج، واستدلوا بأن المغيرة عندما ذهب إلى أبي بكر ليخبره بمقدم عثمان وما حصل لـعثمان في الحديبية، قال أبو بكر لـالمغيرة: سألتك بالله أو نشدتك الله أني أنا الذي أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فآثر أبا بكر على نفسه، ومن المعلوم أن إدخال السرور على رسول الله صلى الله عليه وسلم قُربة، فقال ابن القيم : أنه إذا كان في ذلك إدخال السرور على أخيه المسلم فلا حرج، وينبغي ألا يتوسع في ذلك؛ لأن إدخال السرور يحصل في غير هذا، وأيضاً لا ينبغي التنافس المحموم؛ لأنهم قالوا: إذا جاء إلى المسجد فينبغي ألا يؤثر غيره لأجل الدخول؛ لأن دخول المسجد قُربة لكن هذا ليس مقصوداً، وإنما المقصود أن يجلس في مكانه الفاضل فيقوم ويقيم غيره، فإذا كان يستطيع أن يتفسح فهذا أفضل؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولكن تفسحوا ).
قال المؤلف رحمه الله: (وليس لغير المؤثَر سبقه) يعني: لو أن سلطاناً قام من مقامه لأجلس فيه فلا يسوغ لـبدر أن يقوم ويجلس فيه؛ لأن سلطاناً آثرني ولم يؤثر لـبدر ، هذا مراد المؤلف والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: (وحرُم رفع مصلى مفروش)، يعني: لو أن إنساناً جاء إلى المسجد ووضع فراشاً له، فإن الحنابلة يرون حرمة نزع هذا الفراش؛ لأنه تصرف في ملك الغير بدون إذن، وفي قول عند الحنابلة: أنه لو صلى فيه لكان حكم صلاته كحكم الصلاة في الأرض المغصوبة.
والصحيح أنه إن كان قد فرش هذا البساط وهو في المسجد لكن ذهب ليقضي حاجته فلا يجوز نزعه لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قام من مجلسه فهو أحق به )، وأما إن كان قد قدم الفُرش وهو ما يزال متأخراً فإن الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا بأس بإزالتها، وينبغي أن يكون القيمون على المسجد هم الذين يصنعون ذلك، خاصة في رمضان وفي العشر الأواخر منه إذا كان المسجد مشهوراً بالاعتكاف فيه، فإن كان كذلك فإنه ينبغي لإدارة المسجد إذا رأت مثل هذا أن تنزعها؛ لأن بعض الإخوة -هداهم الله- يحجز له ولصاحبه من يمينه وعن شماله ومن خلفه لأجل أن تكون الصلاة لهم جميعاً، وهذا بلا شك غير لائق وغير مستساغ شرعاً، ولهذا ذكر ابن تيمية رحمه الله في مجموع الفتاوى أن له أن ينزعها، وهذه رواية عند الإمام أحمد أن له أن يرفعها؛ لأنه تقدم بالفراش قبل أن يتقدم بالبدن، وأما لو تقدم البدن ثم وضع البُسط والفُرش ليقضي حاجته ونحو ذلك فإن هذا لا بأس به؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( من قام من مجلسه فهو أحق به ).
من جاء إلى المسجد ببدنه ووضع فراشاً وهو قائم فيه ثم عرض له عارض، كقضاء حاجة ونحوه فذهب ليعود قريباً فلا حرج عليه، ولا يجوز إزالة فرشه، وهو أولى به لقوله صلى الله عليه وسلم: ( من قام من مجلسه ثم رجع إليه فهو أحق به )، ثم ذكر صاحب الإنصاف شرط ذلك فقال: وشرط بعضهم أن يكون عوده قريباً، هكذا قال، قال المرداوي : ولعله مراد من أطلق، إلا أن المؤلف رحمه الله قال: (ولم يقيده الأكثر بالعود قريباً)، والذي يظهر والله أعلم أن الرجل إذا وضع الفراش وقد تقدم ببدنه قبل الفراش ثم عرضت له حاجة فإن كان سوف يعود وإنما أخرجته الحاجة فإن الذي يظهر أنها لا تُزال، وأما أن يأتي ثم يخرج ولا يأتي إلا في آخر المسجد مثلما يفعلون اليوم فلا حرج في إزالتها، فإذا كان المسجد مسجداً جامعاً ووضع البساط ثم جلس حتى تطلع الشمس ثم ذهب لينام، فإن كان مصلحة الخروج طارئة فلا حرج، أما أن تكون لغير ذلك فإنها تُزال، والطارئة مثل قضاء حاجة، أو أن والده طلب منه بعض الشيء ثم يرجع، أما أن يذهب لينام ثم يأتي في آخر ساعة من ساعات الجمعة فهذا لا شك أنه ليس هو أحق به، والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
الجواب: مقعد الكرسي لا يأخذ حكم المسجد، لكن لا ينبغي؛ لأن العلم من العبادة فلا ينبغي أن يحجز عليه فإن هذا نوع من الاحتكار، وليس له حق فيه، ولا ينبغي أيضاً أن يغضب حينما يحجز ويرفض الآخرون؛ لأنه ليس له حق أن يغضب فيه.
الجواب: من سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد فهو أحق به، هذا في حق من جلس فلا يقيم أحد غيره؛ لأنه سبق إلى ما لم يسبق إليه أحد، هذا المقصود من قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقيم الرجل أخاه )، لأن أخاه سبقه إلى ما لم يسبق إليه أحد.
الجواب: إذا كانوا لا يستطيعون القراءة إلا بذلك فلا حرج؛ لأن بعض الناس لا يستطيع أن يقرأ حتى يرفع صوته فلا حرج في هذا، لكن ينبغي أن يُتأكد فيه، وإذا كانت إدارة المسجد تقول: لا يرفع، فيجب عليه أن ينصاع لهم؛ لأنه ما يدري من الصادق من الكاذب.
الجواب: والله ما أحب أنه يتخطى رقاب الناس، إذا بقي فرجة لا بأس، أما أن يكون هذا حاله أخشى أن يكون فيه نوع من الرياء.
الجواب: لو أن هناك فُرجة والذين هم قريب من الفُرجة ما سدوها، فرأى رجل هذه الفُرجة فذهب وسدها يقول العلماء يجوز ذلك؛ لأن هؤلاء الذين تخطاهم قد خالفوا سنة النبي صلى الله عليه وسلم فأسقطوا حقهم في عدم التقدم عليهم فيسقط حقهم، لكن الصحيح أن استماع الخطبة ليس الواجب فيها تسوية الصفوف، إنما يجب في الصلاة فإذا كان في الصلاة فنعم يتقدم، وأما في غير الصلاة فلا يتقدم، حتى لو وجد فرجة.
إذاً: هم أسقطوا حق أنفسهم لأنهم ما سدوا الفرج، والسنة سد الفُرج، لكن إن كان في الصلاة فنعم؛ لأن تسوية الصف من إقامة الصلاة، وقوله صلى الله عليه وسلم: ( سدوا الفُرج )، وأما في خطبة الجمعة فلا.
الجواب: لا ما يصح؛ لأنه تقدم بالفرش ولم يتقدم بالبدن، والقاعدة إن كان تقدم ببدنه ثم وضع الفُرش فلا حرج، وإن كان تقدم بالفرش ولم يتقدم ببدنه فلا.
الجواب: هذا من باب تسوية الصفوف، والإقامة ليس فيها تخطي؛ التخطي هو أن يجلس الناس وهو يتخطى رقابهم، ولهذا قال: رقابهم؛ لأنه قائم والناس قاعدون، أما إذا كانوا قائمين فليس هناك تخطي لرقابهم.
الجواب: هو عام في صلاة الجمعة وفي غير الجمعة إذا كان فيه أذية، وليس فقط وقت الخطبة حتى قبل الخطبة، والأحاديث جاءت في يوم الجمعة؛ لأن اجتماعهم كان لأجل الجمعة، ولو افترضنا أن اجتماعهم ليس لأجل الجمعة ولكن لأجل محاضرة، فإن في تخطي رقابهم أذية، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( اجلس فقد آذيت )، والأذية مطلقة، ولم يقل: اجلس فقد منعتهم من الاستماع، والأذية عامة وليست خاصة في يوم الجمعة، وعلى هذا فالذي يظهر أنها ليست خاصة بيوم الجمعة.
الجواب: لا حرج، يقضي حاجته لا سيما إذا راح يفطر، كل هذا لا حرج فيه؛ لأن هذا لقضاء حاجته، أما أنه يقعد قليلاً ثم يذهب وينام، فهذا لا يصح.
نكتفي بهذا وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر