الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:
فكنا قد توقفنا عند قول المؤلف: (ويصليها ركعتين قبل الخطبة)، وقد ذكرنا خلاف أهل العلم في حكم الخطبة قبل الصلاة أو بعد الصلاة، وقلنا: إن الخطبة إنما هي بعد الصلاة، وهذا قول جمهور أهل العلم. والقول الثاني: إن من شرط الخطبة أن يسبقها صلاة، وعلى هذا فلو خطب ثم صلى قالوا: إن هذا لا تصح منه الخطبة؛ لأن من شرط الخطبة أن يتقدمها صلاة. والقول الثالث: تصح ولكنها خلاف السنة، وقد روي عن عمر بن الخطاب في هذا كما روى ابن أبي شيبة : أنه حينما كثُر الناس أحب أن يسمع الأعراب هذا الأمر فخطب ثم صلى، وروي أيضاً عن بعض السلف كـعثمان ، والشاهد من هذا أنه لو فُعل فإن ذلك خلاف السنة، لكن الخطبة تنفع بإذن الله، وقد أنكر بعضهم على مروان وقال: قد تُرك ما هنالك، وإنما أنكر أبو سعيد ولم يُنقل عن غيره الإنكار مع أن هذا لو كان أمراً غير محل اجتهاد لرأيت الصحابة يتبادرون الإنكار، هذا الأصل، والله أعلم.
وروي عن عمر وروي عن عثمان وقال الحافظ فيهما: إسناده صحيح، وبعضهم يقول: إن المعروف عن ابن عمر أنه يقدم الصلاة قبل الخطبة لما ثبت في الصحيحين من حديث ابن عمر ، وهذا هو الأصل لكنه روي عن عمر أنه مرة قدمها كما روي عن عثمان ، وقال الحافظ : إسناده صحيح، والذي يظهر والله أعلم أن عمر إنما قدمها مرة واحدة حينما كثُر الأعراب وخشي رضي الله عنه ألا يسمعوا العلم فقدمها، وعلى هذا فالذي يظهر والله أعلم أن مثل هذه المسائل إذا وقع الخلاف فيها عن الصحابة فالخلاف فيها يسير، وهذه قاعدة يتربى عليها طالب العلم في مسألة الخلاف، فهناك فرق في وجود خلاف عند الصحابة حتى ولو كانت الروايات فيه ليست ظاهرة عند غيرهم، فدائماً إذا روي عن الصحابة في هذا الباب شيء ولو كان ضعيفاً فالخلاف فيه يسير، وإذا لم يرو عن الصحابة فيه شيء ولم يرو عن التابعين فيه شيء ونُقل الإجماع؛ فلا ينبغي لطالب العلم أن يُخالف ذلك بدعوى أن من نقل الإجماع فقد كذب، لا تدري لعلهم اختلفوا وأنت لا تعلم، كما كان الإمام أحمد يقول ذلك، على كل حال هذا ما وصلنا إليه.
قول المؤلف رحمه الله: (يُكبر في الأولى بعد تكبيرة الإحرام والاستفتاح وقبل التعوذ والقراءة ستاً زوائد)، أفادنا المؤلف بهذا الكلام مسائل:
المسألة الأولى: أن التكبيرة الأولى هي الركن، وهي تكبيرة الإحرام، وما عدا ذلك فهي زوائد، يعني: سنن، فلو صلى صلاة العيد كما يصلي الفجر فإن صلاته صحيحة، وهذا قول عامة أهل العلم أن التكبيرات الزوائد إنما هي سنة، ودليل ذلك أن الصحابة اختلفوا في عددها، وكلهم لم يعلق على ما زاد هذا أو نقص.
المسألة الثانية: أن التكبيرات سبع في الأولى، وخمس في الثانية، روي هذا عن غير واحد من الصحابة، قال أبو عمر بن عبد البر : قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ومن طرق كثيرة حسان أنه كبر سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، من حديث عبد الله بن عمرو و ابن عمر و جابر و عائشة و أبي واقد و عمرو بن عوف ولم يرو عنه من وجه قوي ولا ضعيف خلاف هذا، وهو أولى ما عُمل به.
إذاً: جاء عن الصحابة روايات كثيرة تدل على أنهم يكبرون سبعاً في الأولى وخمساً في الثانية، وإن كانت الروايات عنهم فيها كلام، ولهذا روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كبر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة سبعاً في الأولى وخمساً في الآخرة )، والحديث صححه الترمذي و علي بن المديني و البخاري و البيهقي ، وأشار الترمذي إلى ذلك.
وأنت يا رعاك ربي! لو رأيت هذا الإسناد لوجدت أن في سنده رجلاً يقال له: عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي فإنه رواه عن عمرو بن شعيب و عبد الله هذا ضعيف، لكن هذا دليل على أن المتقدمين من أهل الحديث يحسنون الحديث بالشواهد، فهم حينما رأوا حديث عمرو بن شعيب صححوه لا لأنه بنفسه صحيح ولكنه أحسن شيء روي في هذا الباب، وهو بمجموع طرقه يدل على أنه حسن، ولأخينا الشيخ طارق عوض الله رسالة في تقوية الأحاديث بالشواهد وهي رسالة ماتعة جيدة في بابها، والله أعلم.
وعلى هذا فالسنة أن يُكبر سبعاً، وأما السبع فإنها مع تكبيرة الإحرام، هذا هو الظاهر من فعله صلى الله عليه وسلم كما روي؛ لأنهم لم يفرقوا فيها.
وذهب الشافعي إلى أنها سبع من غير تكبيرة الإحرام.
والصحيح هو الأول؛ لأن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: ( كبر في عيد اثنتي عشرة تكبيرة )، وأما الركعة الثانية فلا يُعتد بتكبيرة النهوض، وهي أن يقول: الله أكبر لأجل أن يقوم فإن هذه إنما هي تكبيرة الانتقال للنهوض، ثم يكبر بعد ذلك خمساً.
قال المؤلف رحمه الله: (قال أحمد : اختلف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في التكبير وكله جائز)، يعني: أن هذا من باب اختلاف التنوع المباح، والجواز في أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على أن كل فعل فعله صلى الله عليه وسلم هو مستحب أو جائز، فالسنة في هذا أن تُفعل أحياناً، وأما خلاف الصحابة فلا يُقال: أفعل هذا مرة وهذا مرة؛ لأن الخلاف إنما هو في التجويز لا في التشريع يعني السُنية.
رفع اليدين في التكبيرة الأولى، فهذا محل إجماع كما نقل ذلك غير واحد من أهل العلم في تكبيرات العيد وتكبيرات الجنائز، كما نقل ابن المنذر الإجماع في الجنائز ومثله في العيدين.
وأما ما زاد على ذلك فقد اختلف أهل العلم فيه؛ فذهب عامة أهل العلم من المالكية والشافعية والحنابلة وهو قول أكثر الصحابة إلى أنه يرفع يديه في كل تكبيرة، وأما ما جاء مرفوعاً فلا يصح، إلا أن الإمام أحمد رحمه الله قال في حديث وائل بن حجر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرفع يديه مع التكبير )، وفي رواية: ( كان يرفع يديه حين يُكبر )، قال الإمام أحمد : فأرى أن يدخل في هذا كله، يعني: أن قوله: ( يرفع يديه حين يكبر )، لا فرق بين أن تكون التكبيرة تكبيرة الإحرام أو التكبيرات الزوائد في الجنائز أو العيد، وهذا يدل على أن هذا نوع من القياس، ولا بأس بالقياس في العبادات بنفي الفارق أو القياس في الشروط أو الأسباب أو نحو ذلك، وحديث وائل بن حجر إسناده جيد، والله تبارك وتعالى أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن عمر أنه كان يرفع يديه في كل تكبيرة في الجنائز والعيد] حديث عمر الوارد أخرجه البيهقي وفي سنده ضعف، فإنه من طريق عبد الله بن لهيعة ولا يصح.
قال المؤلف رحمه الله: [وعن زيد كذلك رواهما الأثرم ] يعني: زيد بن ثابت ، ولا يصح عن زيد ، والله تبارك وتعالى أعلم، فإن رواية زيد يقول: أخرجها الأثرم ولا تُعرف في الكتب والمسانيد والمصنفات التي بحثنا فيها، والله أعلم.
لكن الراجح خلافاً لقول أبي حنيفة ويروى عن مالك أيضاً أنه لا يرفع إلا في الأولى، والصحيح أنه يرفع في كل تكبير، والسؤال: أبو حنيفة يقول في صلاة الجنائز: لا يرفع إلا في الأولى، مع أن كل التكبيرات واجبة، فما دليل رفع الأولى؟
إذا جاز الرفع في الأولى فلا فرق بين الأولى والثانية والثالثة في الجنائز، أنا أقول: دليل ما ثبت في الأولى يثبت في الثانية ولا فرق خاصة في الجنائز.
وما قيل بالإجماع إنما هو إجماع على عدم المخالف كما هي قاعدة ابن المنذر ، وقد عرف بذلك وليس فيها إجماع صريح، ولهذا ذكر البخاري رحمه الله في باب رفع اليدين قصة عبد الله بن المبارك مع أبي حنيفة ، فكان عبد الله بن المبارك يرفع يديه حين يُكبر وحين يركع وحين يرفع من الركوع، فقال أبو حنيفة لـعبد الله بن المبارك : ما لي أراك تحرك يديك كأنك تطير، فقال عبد الله بن المبارك : لئن كنت أطير فلقد طرت في أول مرة، يعني بذلك أنه يرى في التكبيرة الأولى رفع اليدين، وكان البخاري شديداً جداً على أهل الرأي، وأكثر النقولات أحياناً تكون بسبب الأتباع وليس بسبب المتبوع، فقال البخاري : ما أحسن ما قال رحمه الله، يعني: بذلك قول عبد الله بن المبارك ؛ ولهذا يقول: الناس أشداء على أهل الرأي، يقول أبو عمر بن عبد البر : ولذا عوتب أبو حنيفة بسبب تركه أخبار الآحاد وأخبار السنن أشد من عتب أهل السنة عليه في مسألة الإيمان؛ لأن مسألة الإيمان لم يقل هو بها وإنما سبقه غيره، يعني: أن عتب أهل السنة على أبي حنيفة في عدم أخذه بالآثار والسنن أكثر من عتبهم عليه في مسألة مرجئة الفقهاء التي هي الإيمان؛ لأن مسألة الإيمان لم يكن هو أول من قال بها، وهذه مدارس الكلام فيها يطول، وعلى هذا فالراجح أن يرفع يديه. والله أعلم.
عندكم عقبة بن عامر والصحيح هو الوليد بن عقبة وليس عقبة بن عامر كما روى البيهقي و الطبراني أن الوليد بن عقبة سأل ابن مسعود ما يقوله بعد تكبيرات العيد؟ قال: يحمد الله ويُثني عليه ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث إسناده جيد؛ وذلك لأن الحديث من طريق إبراهيم النخعي عن ابن مسعود ، وفي رواية: إبراهيم النخعي عن علقمة عن ابن مسعود ، ودائماً رواية إبراهيم النخعي عن ابن مسعود حالها حسنة؛ وذلك لأن النخعي لا يكاد يروي عن ابن مسعود بلا بواسطة إلا وقد سمعها من أصحاب ابن مسعود أكثر من واحد؛ ولهذا يقول: ما قلت: عن ابن مسعود فإنما سمعت عن غير واحد من أصحابه، وما قلت: عن فلان عن ابن مسعود فإنما سمعتها من فلان، وعلى هذا فالرواية عنه صحيحة، وقد أشار إلى ذلك يعقوب بن سفيان وغيره، و ابن رجب في شرحه للعلل، وفي رواية: بين كل تكبيرتين قدر كلمة، يقول ابن مسعود : إن بين كل تكبيرتين قدر كلمة.
قال المؤلف رحمه الله: (ويقول بين كل تكبيرتين: الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيراً) الاستحباب حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي؛ ولهذا ذهب الحنابلة والشافعية إلى استحباب أن يقول بين التكبيرتين ذكر الله، بأن يقول: سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أو الله أكبر كبيراً، والحمد لله كثيراً، وذهب أبو حنيفة و مالك إلى أن يُكبر متوالياً، يعني: يسكت بينهما قدر تكبيرة أو قدر كلمة، ثم يكبر متوالياً، ولا شك أنه لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يقوله؛ فلهذا أقول: إن السكوت جائز وإن الذكر جائز؛ ولهذا ليس هناك سنة في السكوت ولا سنة في الذكر، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [وإن أحب قال غير ذلك؛ لأن الغرض الذكر بعد التكبير]، يعني: إن أحب ذكر الله أو سبح وحمد الله أو قال خلاف ذلك؛ قالوا: لأنه لا يُشرع في الصلاة سكوت مطلق وهذا مذهب الحنابلة؛ فإما أن يسكت ليستمع وإما أن يسكت ليُكبر أو يتراد نفسه، أما أن يسكت من غير هذا، فليس فيه سكوت مطلق، والجواب على هذا أن السكوت بين التكبيرات هو مثل السكوت بين التكبير والقراءة، والرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا انتهى من القراءة يسكت قليلاً ثم يُكبر؛ للفصل بين القراءة والتكبير، وما يفعله بعض الأئمة حينما يقول: وكان الله على كل شيء كبيراً، الله أكبر، هذا ليس من السنة بأن يجمع بين القراءة والتكبير كما يفعله بعض الأئمة، بل يجب الفصل بينهما والله أعلم، ولو لم يرد في هذا شيء لكن هذا هو الأصل.
والقول الثاني في المسألة: أنه إن كان عنده غلبة ظن بنى عليه وإلا فعل اليقين، وهذا رواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية في غالب تلك المسائل، وهو الراجح والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [لأنه سنة فات محلها]، قاعدة السنة التي يفوت محلها إنما تشمل السنة التي فيها انتقال من أدنى إلى أعلى، وأما التي ليس فيها انتقال من أدنى إلى أعلى فقضاؤها مشروع في الجملة؛ لما جاء في الصحيحين من حديث عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( هل صمت من سرر شعبان؟ قال: لا، قال: فإذا أفطرت فصم يومين )، فهذا ليس فيه انتقال من أدنى إلى أعلى ولا يقال: إنه سنة فات محلها، وإذا نسي أو ترك الركعتين التي قبل الفريضة مثل ركعتي الظهر أو ركعتي الفجر فإنه يصليها؛ لأنه ليس ثمة انتقال من أدنى إلى أعلى، ولا يقال سنة فات محلها، وهذه هي القاعدة؛ لأننا نجد بعض أهل العلم يأمر بقضاء النافلة وأحياناً لا يأمر بقضاء النافلة لقوله: سنة فات محلها، فما الفرق بينهما؟ نقول: الجواب أن كل سنة يُنتقل فيها من أدنى إلى أعلى فإنه يقال: سنة فات محلها، وما لا فإنها تقضى، والله أعلم.
أما سنة الضحى لا يقال: تقضى؛ لأن مشروعيتها في وقت، فكل عبادة مشروعة في وقت فإنها لا تُقضى.
أما سنة الظهر فقد قضاها النبي صلى الله عليه وسلم، والعلماء رحمهم الله يفرقون بين السنن على قسمين: سنة مقيدة مشروعة راتبة، وسنة غير راتبة، فالسنة الراتبة تُقضى والسنة غير الراتبة لا تُقضى، وهذه يسمونها السنن المطلقة، ويقولون: من اعتاد على فعل سنة فصارت في حقه راتبة فيقضيها لحديث: ( هل صمت من سرر شعبان ) فبسبب مداومته على هذا صارت في حقه كأنها راتبة، و ابن تيمية رحمه الله له قاعدة يقول: السنن المطلقة لا ينبغي أن تُماثل وتُشابه السنن الراتبة؛ ولهذا حديث: ( من صلى قبل الظهر أربعاً وبعدها حرمه الله من النار )، ضعفه، قال: وعلى كل فلا ينبغي مداومته على ذلك لمشابهته بالسنن الراتبة، هذه قاعدة ابن تيمية .
قال المؤلف رحمه الله: [وإن أدركه قائماً بعد فراغه من التكبير لم يقضه، وكذا إن أدركه في أثنائه سقط ما فات]، يعني: إن أدرك المأموم إمامه وقد أنهى جميع التكبيرات وهو سوف يشرع في القراءة فإنه لا يُكبر، وإن أدركه في أثناء التكبير، يعني: أدركه في التكبيرة الثالثة فإنه يتابعه فيما بقي ولا يتابعه فيما مضى.
وهل يقال مثل ذلك في التكبيرات للجنائز؟ نقول: لا، الراجح في تكبيرات الجنائز أنه يُكبر؛ لأنها واجبات أو أركان، والواجب والركن يُقضى، حتى المسبوق يقضي ما فاته من الواجب أو الركن، وأما السنة فلا، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يقرأ جهراً) يُستحب الجهر بالقراءة في العيدين، وفي كل اجتماع لصلاة مقصودة يجهر كالاستسقاء وكالخسوف والكسوف، والجمعة فإنه يجهر، وهو قول أكثر أهل العلم بل إن المجد أبو البركات في المُحرر أو في شرح الهداية قال: لا نعلم خلافاً في الجهر إلا ما روي عن الحارث الأعور عن علي : أنه كان يُسمع من يليه ولا يجهر.
قلت: ومن المعلوم أن رواية الحارث الأعور عن علي ليست بذاك.
ومما يدل على الجهر ما جاء في صحيح مسلم من حديث النعمان بن بشير قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في العيدين والجمعة بـ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] و هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1]، وربما اجتمعا في يوم فقرأ بهما، والحديث الآخر ما رواه مسلم من حديث أبي واقد أن عمر قال له: ( ماذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفطر والأضحى؟ قال: كان يقرأ بـ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1]، و اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ [القمر:1] )، وهذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يجهر.
قال المؤلف رحمه الله: (في الركعة الأولى بعد الفاتحة بسبح وبالغاشية في الثانية) لما رواه مسلم من حديث النعمان بن بشير ، ولما رواه الإمام أحمد من حديث سمرة .
ومن السنن أيضاً قراءة ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ [ق:1] في الركعة الأولى، وسورة القمر في الركعة الثانية لما رواه مسلم من حديث أبي واقد ، هذا قول عامة أهل العلم خلافاً لـأبي حنيفة حيث قال: ليس هناك شيء موقت، يعني: مسنون، والسنة قاضية في هذا، والله أعلم.
نعم جاء عن جابر رضي الله عنه: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ثم قعد قعدة ثم قام في العيد )، كما رواه ابن ماجه ولكنه حديث لا يُفرح به، وأحسن شيء روي في هذا الباب ما رواه عبيد الله بن عبد الله بن عتبة وهو من الفقهاء السبعة قال: السنة أن يخطب الإمام في العيدين خطبتين، يفصل بينهما بجلوس، وقول التابعي: من السنة إنما هي سنة السلف، يعني: سنة الخلفاء الراشدين، ولا شك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، وأما حديث جابر : ( خرج صلى الله عليه وسلم يوم فطر أو أضحى فخطب قائماً ثم قعد ثم قام )، فهذا حديث لا يُفرح به، فهو حديث ضعيف.
القول الثاني في المسألة: يخطب خطبة واحدة، وهذا قواه شيخنا محمد بن عثيمين قال: ومن نظر في السنة المتفق عليها في الصحيحين وغيرهما تبين له أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يخطب إلا خطبة واحدة؛ لكنه بعد أن أنهى الخطبة الأولى توجه إلى النساء ووعظهن، يقول: فإن جعلنا هذا أصلاً في مشروعية الخطبتين فمحتمل مع أنه لم يصح؛ لأنه نزل إلى النساء ووعظهن وحدهن، قلت: ومما يقوي هذا، يعني: القول بجواز الخطبة وليس مشروعية الخطبة، وفرق بين الأمرين وإن كان الأفضل أن يخطب خطبتين اقتداء بسنة السلف، وإن خطب خطبة واحدة فقد جاء بذلك حديث رواه ابن أبي شيبة من حديث ميسرة أبي جميلة قال: شهدت مع علي العيد فلما صلى خطب خطبة على راحلته، قال: وكان عثمان يفعله، وهذا إسناده لا بأس به، وهذا يدل على خطبة واحدة، والذي يخطب على بعير لن يقوم مرة ثانية بل خطبة واحدة، وكان عثمان يفعله، ورواه ابن أبي شيبة من حديث المغيرة بن شعبة أنه خطب على نجيبة، والنجيبة الناقة الجيدة، وهذا يدل على أن الخطبة واحدة، والله أعلم، ولكن لا ينبغي أن يفعلها عامة الناس، فإن فعلها من هو الفقهاء الكبار بحيث أنه لا يقع الناس في حيص بيص جاز ذلك.
فالجمهور وعامة أهل العلم على أنها خطبتان، لكن الخطبة أصح، أما أبو حنيفة فلا يُعرف له في المسألة قول إلا في الجمعة، قالوا: ويقاس على الجمعة العيد، قالوا: إن أبا حنيفة يقول بذلك، فهو إذاً قياس وليس نصاً.
وهذا من فقه السلف، كما هو مذهب عبد الله بن المبارك ، ودائماً إذا رأيت هؤلاء أخذوا بسنة فلا بد أن لها أصلاً؛ لأنها لا تأتي عبثاً، وليست اجتهاد واحد يقلب الإنترنت ويبحث له عن شيء ما.
وبعض الإخوة طريقة الاستدلال عندهم غريبة جداً، وقد تكلمت عن مسألة الاستدلال عند السلف وأن السلف حينما يذكرون مسألة لا يلزم منها دليل بخصوصه، وأحياناً يذكرون دليلاً واحداً ولا يقصدون أن هذا الدليل هو المعتمد فقط؛ ولهذا لا يقولون: وإذا ثبت أن الحديث ضعيف فالأصل القول الثاني، لا؛ لأن نفي الدليل المعين لا يستلزم منه نفي المدلول؛ لأنه قد يثبت بدليل آخر، فالدليل عند السلف دليل استقرائي وليس دليلاً نصياً، هذا مهم جداً تفقهه، ولهذا تجد بعض طلاب العلم في مسائل الحج مثلاً يأتي قول الصحابي فلا يعتد به وقد كنت أناقش واحداً فقلت له: هذا قول عمر ، قال: عمر رضي الله عنه على العين والرأس لكن هات لنا دليلاً! وهذه مشكلة.
أحياناً تناقش بعضهم فتجد الخيوط التي بينك وبينه بعيدة جداً، فهو يريد النصوص القاطعة وهذا مذهب ابن حزم ، أما طريقة السلف باستدلالهم فطريقة أخرى، فهي طريقة ومنهج سار عليه أئمة كبار، وهذه مدرسة كاملة ساروا عليها، ثم تجي أنت فتنسف ذلك! هذا غير سائغ بإطلاق، هناك مسائل كثيرة ليس لها دليل نصي، لكن عليها أئمة أهل العلم؛ ولهذا يقول الإمام الذهبي : لا يكاد يخرج الحق عن مذهب جمهور أهل العلم، ولم يقل هو الحق لكن لا يكاد يخرج، يقول: هذا ما يكاد يخرج في الجملة خاصة في العبادات فقد كُفيت، نعم قد تتطلب المسألة اجتهاداً فيسوغ ولا يشرع، وهذا فرق، فإذا جاءت مسألة فاحتاجت الأمة إلى قول ثاني، والقول الثاني قد يُحتاج إليه أو قد يفعله عن جهل فيسوغ، لكن لا يقال: هو السنة، مثلما قلت في الخطبة: تقديم الخطبة على الصلاة قد يفعله بعض الأئمة لبعض الاجتهادات الفردية فقد ينصون في النظام أن هذا يُفعل، فهذا سائغ ليس منكراً.
أنا قلت كثيراً: الغريب أنه أحياناً إذا جاء اجتهاد من بعض الجهات النظامية يُعنف الخلاف فيها، وإذا جاء من شيخ لا يُعنف! ولا أدري لماذا! بعضهم يكبره فيقول: لا، هذا يُخشى أن يكون تقنيناً، وأقول: الأمر بالعكس؛ فالسياسة ما عمرها صارت ديناً، لكن الإشكال قول العالم إذا قاله صار مشكلة، مع أن هناك مسائل كثيرة ليس فيها دليل صحيح، كصلاة الاستسقاء ماذا نصنع نحن؟ نصلي ثم نخطب، رغم أن رواية الصحيحين الخطبة ثم الصلاة، عبد الله بن زيد بن عاصم قال: ( ثم نزل فصلى )، وحديث أبي هريرة عند أبي داود : ( صلى ثم خطب )، وهي رواية ضعيفة، ولهذا الشيخ محمد بن إبراهيم عندما وجد المذهب على خلاف أكثر الروايات قال: كلها جائز، وإذا صار كله جائزاً فلماذا لا نفعل السنة الثابتة وهي الخطبة ثم الصلاة مثل صلاة الجمعة؟!
ولهذا لو فعلها إمام فأنا أرى أنه حسن.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر