الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه, ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, وبعد:
فقبل الشروع في الشرح سبق أن سئلت عن مسألة دعاء الاستفتاح أيقال بعد التكبيرات أم بعد تكبيرة الإحرام؟
أنا قلت: من السنة أن يكون بعد التكبيرات, والظاهر والله أعلم أن هذا وهم مني وأستغفر الله من الخلل والزلل والخطل, والأقرب في الجواب أن يقال: ليس هناك سنة ثابتة في أي الوقتين يقال, هل بعد تكبيرة الإحرام, أم بعد التكبيرات الزوائد, فليس ثمة سنة ظاهرة في هذا, وإن كان الأقرب هو أن يقال بعد تكبيرة الإحرام؛ وذلك لأن المعروف في دعاء الاستفتاح أن يكون قبل الشروع في أي شيء من الصلاة, وتكبيرة الإحرام هي التي يستفتح بها الصلاة كما في حديث علي عند الترمذي و أحمد : ( مفتاحها الطهور وتحريمها التكبير ), فإذا شرع في التكبير فقد دخل في الصلاة, فهي أول ما يبدأ به, فهو قبل بِسْمِ اللَّهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:1-2]؛ فلأجل هذا صارت التكبيرات الزوائد بمثابة البسملة عند الجمهور خلافاً للشافعي ؛ لأنه يجعلها من ضمن الفاتحة؛ فلهذا أقول: فالأقرب أن تكون بعد التكبيرة الأولى, هذا من حيث الظاهر وليس ثمة سنة في هذا, فإن قالها بعد التكبيرات الزوائد فلا حرج إن شاء الله, والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
والبسملة من السنة, فصارت البسملة بمثابة التكبيرات الزوائد, والتكبيرات الزوائد بمثابة البسملة, ودعاء الاستفتاح يقال قبل البسملة فالاستفتاح يقال قبل تكبيرات الزوائد, وكما قلت: ليس هناك سنة ثابتة, فلو قال الاستفتاح بعد ذلك فلا حرج, لكن الذي يظهر أن يقوله بعد تكبيرة الإحرام.
يعني: قبل أن يفارق المكان أو المصلى أو المسجد, والكلام في هذه المسألة على حالتين:
الحالة الأولى: إن كانت صلاة العيد في مصلى, وهذا هو المعهود من فعل النبي صلى الله عليه وسلم, وفعل الخلفاء الراشدين, فإن الظاهر -والله أعلم- أنه لا يصلي قبلها ولا يصلي بعدها, أي: الإمام؛ لأن الإمام لا يشرع له أن يصلي قبلها ولا أن يصلي بعدها؛ بل السنة في حق الإمام إذا جاء إلى المصلى أن يبدأ بصلاة العيد, ثم ينفتل فيخطب, ثم يذهب, هذا هو المعهود عن النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً: صلاة الإمام قبل صلاة العيد في المصلى أو بعدها غير مشروعة, وهي إلى الكراهة أقرب كما قال الحنابلة؛ لأن مداومة النبي صلى الله عليه وسلم على الترك ذلك يدل على أنه هو المشروع، وفعل العبادة في غير وقتها ليس من السنة, ولم أقل مكروهة كما قال الحنابلة؛ لأن المعروف أن ترك السنة لا يلزم منها فعل المكروه, ولكنه غير مشروع.
وأما المأموم فإن الراجح -والله أعلم- مذهب مالك و أحمد وهو أن الصلاة لا تفعل, فلا يصلي المأموم قبل صلاة العيد ولا بعدها في موضعها.
أما المالكية فإنهم لم يقولوا بالكراهة وإنما قالوا: لا يصلي, وأما الحنابلة فنصوا على الكراهة, والأظهر هو أن الصلاة في المصلى ليس من السنة قبل صلاة العيد ولا بعدها, والراجح أيضاً أن المصلى لا يأخذ أحكام المسجد, فالمصلى تقاد فيه الحدود, ويذبح فيه الأضاحي بخلاف المسجد, وتدخل الحيض المصلى ولا تدخل الحيض المسجد عند جمهور أهل العلم, وهذا هو الظاهر، والله أعلم.
إذاً: الإمام مالك يقول: لا يصلي, ولم ينص على الكراهة فيما أحفظ, فإن صلى بعدها بعد أن رجع إلى بيته فلا حرج, وقد جاء عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( كان لا يصلي قبل صلاة العيد ولا بعدها حتى يرجع إلى بيته فيصلي ركعتين ), وقد قوى الحافظ ابن حجر هذا الحديث, فدل على أن الصلاة بعدها في غير موضعها جائز؛ لأنه نوع من التطوع المطلق، مثل: سنة الضحى في غير المصلى.
وجاء في الصحيحين من حديث ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( لم يصل قبلها ولا بعدها ), يعني: في موضعها, ولم يصل النبي صلى الله عليه وسلم قبل صلاة العيد في بيته؛ لأن ذلك من أوقات النهي, فكان صلى الله عليه وسلم لا يخرج إلى المصلى إلا بعد ارتفاع الشمس قيد رمح, فكانت السنة أن يصلي صلاة العيد؛ لأنها أولى من غيرها, وأما الصلاة بعد ذلك إذا رجع إلى بيته فإن ذلك مشروع كما قال صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو بن عبسة : ( فصل فإن الصلاة مشهودة محضورة حتى ترتفع الشمس في كبد السماء ), كما هو معروف.
الحالة الثانية: إذا كانت صلاة العيد في المسجد فإن الإمام لا يشرع له أن يصلي قبل صلاة العيد في موضعها ولا بعد صلاة العيد في موضعها, كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع, فإن النبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يبتدئ بصلاة العيد, ولم يكن ينشغل بشيء, والحنابلة يقولون: يكره, وهو قريب -كما قلت- لكننا لا نقول بالكراهة؛ لأنه لم يرد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا الترك, فدل ذلك على أن الترك هو السنة, والفعل خلاف السنة.
وأما المأموم فإن الذي يظهر -والله تبارك وتعالى أعلم- أنه يصلي تحية المسجد لما جاء في الصحيحين من حديث أبي قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ), ولا يستحب له أن ينشغل بالصلاة بعد ذلك؛ لأنه قبل الصلاة إما أن يكون وقت نهي وهو بعد صلاة الفجر, وإما أن يكون بعد طلوع الشمس وهو وقت نهي أيضاً حتى ترتفع الشمس قيد رمح، وأما بعد الصلاة فإن السنة أن ينصرف, فيصلي في بيته كما مر معنا في حديث أبي سعيد , فإن صلى سنة الضحى خوفاً من الانشغال عنها ولا علاقة لها بصلاة العيد فجائز, إلا أنه ينبغي أن يحرص على أن يصليها في غير هذا الموضع حتى لا تكون سنة, وينبغي ألا يصليها حتى لا ينشغل الناس بها عن أداء السلام والأضحية, فالانشغال بسنة الأضاحي أولى من الانشغال بسنة الضحى، وهكذا الانشغال بالمعايدة والسلام أولى من الانشغال في العبادة اللازمة, وبهذا التفصيل تظهر هذه المسألة, والله أعلم.
والعلماء رحمهم الله اختلفوا, فالأئمة الأربعة كل مذهب له اختيار ربما وافق مذهب الآخر, في الترك دون الحكم بالكراهة أو الاستحباب, فالحنفية لهم قول, والمالكية لهم قول, والحنابلة لهم قول, وأقرب الأقوال -والله أعلم- هو قول المالكية والحنابلة.
قال المؤلف رحمه الله: [لقول ابن عباس : ( خرج النبي صلى الله عليه وسلم يوم العيد فصلى ركعتين لم يصل قبلهما ولا بعدهما )].
وهذا في حق الإمام خاصة, وأما المأموم فإنه يختلف, فصلاة الجمعة في حق المأموم تختلف عن صلاة الجمعة في حق الإمام, فكذلك صلاة العيد في حق المأموم تختلف عن صلاة العيد في حق الإمام.
من فاتته صلاة العيد لا يخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن تفوته بعض الركعات, وقد دخل مع الإمام, فالسنة فيمن فاتته بعض الصلاة وقد دخل مع الإمام أن يقضيها على صفتها, كما قال صلى الله عليه وسلم في الصحيحين من حديث أبي قتادة ومن حديث أبي هريرة : ( فما أدركتم فصلوا, وما فاتكم فأتموا ), فمن فاته مع الإمام ركعة فإنه إذا سلم الإمام وانفتل يشرع له أن يقوم فيصليها مثلما فاتته, فتكون عليه من الصلاة ما بقي, بحيث يكون دخوله مع الإمام بمثابة الركعة الأولى على الراجح, وعلى هذا فإذا قام فإنه يكبر خمس تكبيرات, وعلى المذهب يكبر سبعاً؛ لأنهم يرون أن ما بقي هو الأول, والراجح خلاف ذلك.
الحالة الثانية: إذا فاتته الصلاة مطلقاً, فهل يقضيها؟ ذكر المؤلف أنه يسن له قضاؤها, سواء كان في موضعها, أم في البيت قبل الزوال أو بعد الزوال, هذا هو المذهب, واستدلوا بفعل أنس ، وفعل أنس أخرجه ابن أبي شيبة من طريق يونس بن عبيد عن بعض آل أنس بن مالك , أن أنس بن مالك كان يقضيها, وبعض هؤلاء الذين يروون عن أنس فيهم مجاهيل, فلو قيل: إن هؤلاء المجاهيل يشد بعضهم بعضاً فإن ذلك يقوي فعل أنس .
قال المؤلف رحمه الله: (وكسائر الصلوات) لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث أنس كما عند البخاري أو عند مسلم : ( من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ).
وذهب بعض أهل العلم إلى أن السنة أنها لا تقضى, قالوا: لأن صلاة العيد لا تشرع إلا جماعة, وهذا هو الظاهر والله أعلم, أن صلاة العيد لا تقضى, وأن المشروع فيها الصلاة جماعة في حق الإمام وجماعته.
فإن قيل: أرأيتم لو فاتت فصلوها هم جماعة؟ قلنا: لا, إنما تقام مرة واحدة في مكانها, هذا هو الظاهر والله أعلم, ولم يعهد عن الصحابة أنهم كانوا إذا فاتتهم صلوها لا في بيوتهم ولا في المصليات, وأما فعل أنس فالظاهر أنه إن صح الأثر فإنه يدل على الجواز لا على الاستحباب, ومن المعلوم أن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم على خلاف ما كان يقوله يدل على الجواز, فكيف بفعل الصحابة؟
فإذا كان فعل النبي صلى الله عليه وسلم على خلاف المعهود عنه يدل على الجواز, ففعل الصحابي على خلاف المعهود من السنة يدل على الجواز, لا يدل على الاستحباب؛ ولهذا فالراجح أنه لا يستحب قضاؤها, وهذا هو مذهب أبي حنيفة ورواية عند أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
نقف عند هذا، وصلى الله على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر