فقد قال المؤلف رحمه الله: [ باب صلاة الكسوف.
يقال: كسفت بفتح الكاف وضمها ومثله خسفت، وهو ذهاب ضوء الشمس أو القمر أو بعضه. وفعلها ثابت بالسنة المشهورة، واستنبطها بعضهم من قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ [فصلت:37] ].
السبب الأول: سبب شرعي، وهو تخويف الله عباده كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، وإنما هما آيتان يخوف الله بهما عباده )، وقال تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، بل بعض أهل العلم يقول: إن الخسوف والكسوف إنما يقع حال نذر عقاب على العباد، ومتى ما فعلوا ما أمرهم الله به من التوبة والاستغفار والصدقة والعتاقة والصلاة رفعه الله عنهم، وهذا معنىً حسن.
السبب الثاني: سبب كوني، وهو أنه إذا كان ثمة كسوف للشمس فإن القمر يتوسط بين الشمس والأرض، وأما إذا كان هناك خسوف فإن الأرض تتوسط الشمس والقمر وهذا أمر معلوم، وقد أشار ابن القيم رحمه الله و أبو العباس بن تيمية وغير واحدٍ من سلف هذه الأمة إلى أن هذا مما تعرفه الناس في هذا الأمر.
والعجب أن في الخسوف والكسوف مبالغة في السبب الكوني، ومن المعلوم أن الله لا يعذب قوماً بسنة كونية إلا ولها سبب كوني وسبب شرعي؛ فإغراق أو إهلاك قوم بالخسف إنما كان بسبب شرعي، وهو كذلك بسبب كوني، وغرق فرعون وغيره كان بسبب شرعي وهو أيضاً بسبب كوني، فلا يمكن أن يعاقب قوم بسنة كونية إلا ولها تفسير كوني بسبب شرعي، فإذا قيل: تسونامي غرق فله تفسير كوني، وإذا قيل: أغرق الله فرعون وقومه حينما انشق البحر فهذا له تفسير كوني، وحينما رجع فله تفسير كوني؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقضي ما يشاء وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68].
والذي يظهر والله أعلم أن صلاة الكسوف سنة مؤكدة، وهي أولى صلاة التطوع؛ وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بها وفعلها، ومثلها صلاة العيد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم فعلها وأمر بالخروج لها، وأمر الحيض وذوات الخدور أن يخرجن ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، وهي آكد -أعني: صلاة الكسوف- من صلاة الوتر.
قال المؤلف رحمه الله: (واستنبطها بعضهم من قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ [فصلت:37]).
يعني: أن الشمس آية من آيات الله، كما قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان موت أحد ولا لحياته ).
فمن قال: إنها فرض عين يقول: إن حديث: ( خمس صلوات كتبهن الله ) هذا فيما فرضه الله في اليوم والليلة، أما فيما فرضه في السنة أو ما فرضه لسبب فغير داخل، وهذا جمع قال به بعض أهل العلم، والأحوط هو قول الجمهور، وإن كان لا ينبغي للإنسان أن يدعها أو يتركها.
ومما يدل على ذلك -أي: عدم الوجوب- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( فإذا رأيتم ذلك فادعوا وصلوا وتصدقوا )، فمن المعلوم أن الصدقة ليست واجبة.
إذاً: استنبط من قوله تعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ [فصلت:37] أن الشمس والقمر آية، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله ) ويقول الله تعالى: وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59] فصارت الشمس آية وتخويفاً، هذا القصد فيها.
قال المؤلف رحمه الله: [تسن صلاة الكسوف جماعة وفي جامع أفضل لقول عائشة: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد فقام وكبر وصف الناس وراءه ) متفق عليه].
صلاة الكسوف تسن وهذا حكاه النووي إجماعاً، وقال ابن قدامة : لا خلاف في مشروعيتها وأوجبها بعضهم كما حكي عن مالك وعن أبي حنيفة ، وقواه ابن القيم ، والذي يظهر أن ذلك سنة مؤكدة للرجال والنساء فرادى وجماعات، وإن كانت الجماعة أفضل.
ومن السنن الغائبة صلاة النساء في بيوتهن، فإن بعض النساء إما أن تصلي في المسجد أو لا تصلي، والسنة هي الصلاة؛ ولهذا جاء في صحيح البخاري من حديث أسماء بنت أبي بكر أنها جاءت إلى عائشة قالت: فوجدتها تصلي والناس قيام يصلون فقلت: ما شأنك؟ فأشارت إلى السماء وقالت: سبحان الله! فقلت: آية. فأشارت برأسها أن نعم. قالت: فجعل الخوف يتجلاني ويتغشاني حتى جعلت أصب الماء على رأسي من شدة الخوف والفزع، وقد فزع النبي صلى الله عليه وسلم من هذا الأمر حتى جعل يجر إزاره بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
قال المؤلف رحمه الله: (وفي جامع أفضل) وذلك لفعل النبي صلى الله عليه وسلم لها، قالت عائشة رضي الله عنها: ( خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد، فقام وكبر، وصف الناس وراءه ) والحديث متفق عليه.
قال المؤلف رحمه الله: [وفرادى كسائر النوافل، إذا كسف أحد النيرين الشمس والقمر، ووقتها من ابتدائه إلى التجلي، ولا تقضى كالاستسقاء، وتحية المسجد، فيصلي ركعتين، ويسن الغسل لها].
قول المؤلف رحمه الله تعالى: (وفرادى) يعني: يصلونها (كسائر النوافل).
إن قوله: ( حتى ينجلي ) يفيد أنه: لو صلى والشمس ما زالت كاسفة قال بعضهم: لا يعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصلِّ إلا مرة، وقال بعضهم: يعيد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما فعل لأنه أطال الصلاة إطالة قوية، حتى إنه في الركعة الأولى قرأ قدر سورة البقرة بأبي هو وأمي وهذا القول قوي؛ لكن لو صلوا فرادى أفضل خروجاً من الخلاف يعني: إذا صلوا وأتموا الصلاة وما زالت كاسفة فكل واحد يصلي في بيته، أو في المسجد أو يدعون أو يتصدقون أو يبتهلون فرادى، وهذا القول قوي؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( فإذا رأيتم ذلك فصلوا حتى ينكشف ما بكم ) فدل على أن الصلاة مشروعة سواء كانوا صلوا جماعة، أو صلوا فرادى، وعلى هذا فالذي يظهر أنه إن صلوا جماعة والشمس ما زالت كاسفة حتى انتهوا جاز أن يصلى كل واحد وحده، والله أعلم، ولو صلوا جماعة لا حرج إن شاء الله، والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: (يقرأ في الأولى جهراً ولو في كسوف الشمس) يعني: ولو في النهار، ذهب الحنابلة وهو مذهب ابن حزم وهو اختيار أبي العباس بن تيمية إلى أن صلاة الكسوف تصلى جهراً كما جاء ذلك في الصحيحين من حديث عائشة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جهر القراءة ).
وذهب جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنها تصلى سراً؛ واستدلوا على ذلك بما جاء في الصحيحين عن عائشة قالت: ( فصلى فقرأ في الركعة الأولى قدر سورة البقرة ) قالوا: فقولها: (قدر سورة البقرة) دليل على أن الصحابة لم يدروا ما قرأ صلى الله عليه وسلم.
والصحيح هو استحباب الجهر، وأما قول عائشة : ( حزرت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانت قدر كذا ) كما رواه أبو داود فهذا الحديث ضعيف في سنده مجهول، ولو صح فهو يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ آيات ولم يقرأ سورة كاملة، فهذا الذي يظهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قرأ آيات منها سور ومنها غير سور، فهذا الظاهر والله أعلم، ولا يصح حديث يفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى سراً، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (بعد الفاتحة سورة طويلة) يستحب أن يشرع في الفاتحة، فيقول قبل الصلاة: الصلاة جامعة كما سوف يأتي، ينادى بها: الصلاة جامعة مرتين أو ثلاثاً حتى ولو كان الناس مجتمعين في المسجد؛ لأن المناداة تفيد أمرين: تفيد مناداة الناس وإخبارهم بوجود الكسوف، كإخبار ذوات الخدور في بيوتهن، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (يقرأ بعد الفاتحة سورة طويلة من غير تعيين)؛ ولهذا قالت عائشة: ( قدر سورة البقرة).
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يركع ركوعاً طويلاً من غير تقدير) ولهذا جاء في البخاري من حديث ابن عباس قال: ( ثم ركع ركوعاً طويلاً ).
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يرفع رأسه ويسمع أي يقول: سمع الله لمن حمده في رفعه) وهل يقول بعد التسميع ربنا ولك الحمد؟ الحنابلة يقولون: يقول: ربنا ولك الحمد، ويقول المأموم كذلك. وذهب بعض أهل العلم إلى أنه لا يشرع أن يقول شيئاً؛ بل يقول: سمع الله لمن حمده، ثم يشرع بعد بالفاتحة.
والظاهر والله أعلم أنه يقول بعد التسميع: ربنا ولك الحمد؛ وذلك لأن هذا الركوع هو ركوع ركن الصلاة، ومن المعلوم أن ركن الصلاة يقال فيه من الأذكار ما يقال في سائر الأركان، فيقال: سمع الله لمن حمده، ربنا ولك الحمد حمداً كثيراً مباركاً ..الحديث.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يقرأ الفاتحة) أي يشرع بالفاتحة بلا استفتاح فيقول: بِسْمِ اللهِ الْرَّحمَنِ الْرَّحَيمِ [الفاتحة:1] الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] .
قال المؤلف رحمه الله: (وسورة طويلة دون الأولى) يعني: أقل من القراءة في الركعة الأولى. بعد الاستفتاح.
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يركع فيطيل الركوع، وهو دون الركوع الأول؛ ثم يرفع فيسمع ويحمد) إذا رفع رأسه من الركوع الثاني من الركعة الأولى هل يطيل فيقول: ربنا ولك الحمد؟ الظاهر والله أعلم أنه يطيل؛ وذلك لأمرين:
الأمر الأول: أن الإطالة حال القيام هي المناسبة لسائر صلاة الكسوف، فإنه لما أطال القيام قبل الركوع وأطال القيام بعد الركوع فإنه يطيل القيام بعد الركوع الثاني.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان من عادته بأبي هو وأمي في صلاة الفرض يطيل القيام بعد الرفع من الركوع، قال أنس كما في الصحيحين: ( إني لا آلو أن أصلي بكم كما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بنا. قال
قال المؤلف رحمه الله: (ثم يسجد سجدتين طويلتين) (طويلتين) هذا هو الظاهر؛ وذلك لأمور:
أولاً: قد جاء في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص زيادة: ( ثم سجد فأطال حتى قيل: لا يرفع ) وهذا الحديث رواه النسائي وابن خزيمة ، وقد تكلم فيه أهل العلم، وقالوا: إنه من رواية عطاء بن السائب وقد اختلط، والذي يظهر أن رواية عطاء هنا إنما سمعها من سفيان الثوري ، وقد سمع منه قبل الاختلاط.
ثانياً: ويدل على الإطالة في السجود أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما سجد نفخ كما في الصحيحين، وهذا دليل على طول القيام، يقول: ( حتى رأيت الجنة والنار، فبدأ ينفخ ) ما -معنى ينفخ؟- يقول: أف .. أف من شدة الخوف والفزع، بأبي هو وأمي عليه الصلاة والسلام.
ثالثاً: مما يدل على الإطالة أيضاً ما جاء في حديث البراء: رمقت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان قيامه فركوعه فرفعه من الركوع فسجوده قريباً من السواء ) فإذا كان حال القيام يطيل فإنه يطيل السجود، والغريب أن حديث عائشة وحديث ابن عباس عندما ذكروا طول القيام لم يذكروا طول السجود، وهذا الذي جعل أهل العلم يختلفون هل يطيل في السجود أم لا؟ والذي يظهر أنه يطيل السجود، وأيضاً يطيل بين السجدتين خلافاً للحنابلة الذين قالوا: ولا يطيل الجلوس بين السجدتين، لحديث البراء أنه قال: ( رمقت الصلاة مع النبي صلى الله عليه وسلم فكان قيامه فركوعه فاعتداله فسجدته فجلسته قريباً من السواء ) والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر