الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ وأن تتبعها امرأة، وحرم أن يتبعها مع منكر إن عجز عن إزالته وإلا وجبت ].
وكذلك إذا تبع الجنازة امرأة، وهذا المذهب عند الحنابلة، وهو أن اتباع الجنائز من النساء مكروه، وهو قول جمهور أهل العلم، والقول الثاني في المسألة أن ذلك محرم اختاره الآجري محمد بن الحسين الفقيه المحدث، وقد أشار المرداوي إلى أن القول بالتحريم ليس ببعيد خاصة في زمانه، وهذا هو الأصل؛ فالراجح هو الحرمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك، كما في الصحيحين من حديث أم عطية أنها قالت: ( نهينا عن اتباع الجنائز ولم يعزم علينا )، قال أبو العباس بن تيمية فالرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن اتباع الجنائز، وأما قول أم عطية : (ولم يعزم علينا)، فهذا فهم فهمته هي، وإلا فإنه من المعلوم أن مشي النساء مع الرجال في الجنائز مما يشغب ويشغل، والموطن موطن خشوع وخنوع لله رب العالمين، فالذي يظهر -والله أعلم- أن اتباع الجنائز محرم.
إذاً عندنا أمور:
الحالة الأولى: أن يتبع الجنازة وفيها منكر يعجز عنه، فالحكم أنه يحرم عليه الحضور؛ لأن حضوره مع وجود المنكر مؤذن بسماعه ورؤيته من غير نكير، فحرم عليه الحضور؛ لأن رؤية المنكر من غير إنكاره محرم، واتباع الجنازة مستحب، والقاعدة: إذا تعارض محظور مجزوم به مع مأمور غير مجزوم به فيقدم المحظور، وهذا أمر معلوم في الشرع.
الحالة الثانية: إذا كان في اتباع الجنازة منكر، وهو قادر على إزالته فهو واجب عليه أن يحضر لأمور: لأن اتباع الجنازة مشروع، ولأجل إزالة المنكر الذي في المشروع وهو قادر على إزالته، فصار من باب: ( من رأى منكم منكراً فليغيره )، الحديث.
الحالة الثالثة: أن يكون في اتباع الجنازة منكر لم يجزم أن يزيله أو ألا يزيله، وهذا كثير، فهو لا يدري قد يزيله وقد لا يزيله، فالذي يظهر والله أعلم أن ذلك موطن اجتهاد، فإن شاء حضر، وإن شاء ترك، وقد أشار ابن القيم رحمه الله إلى أنه إذا غلب على ظنه أنه قد يزيله أو لا يزيله أنه موطن اجتهاد.
أقول: والذي يظهر والله أعلم أن حضوره أفضل لأمرين:
الأمر الأول: لأن حضور واتباع الجنازة مشروع.
الأمر الثاني: لأن حضوره وإنكاره للمنكر مقصود لذاته وإن لم يزل المنكر، قال تعالى: مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، فدل ذلك على أن حضوره أفضل امتثالاً لفضيلة الاتباع، ولأجل أن إنكاره مقصود، وإن لم يزل المنكر، وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأعراف:164]، ولهذا فإن الله سبحانه وتعالى ينجي الذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وإن لم يستجب لهم، قال تعالى: فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ [الأعراف:165]، قال ابن كثير : فلم يذكر الله الذين لم ينكروا ولم يفعلوا المنكر، فنسيهم الله حينما نسوا إنكار المنكر، وإن كانوا لم يعاقبوا.
واتباع الجنائز المقصود به المشي معها، أما صلاة النساء في المساجد من غير خلطة فلا حرج في ذلك، كما ثبت في صحيح مسلم أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أمرن أن يمر بجنازة سعد بن أبي وقاص بالمسجد فكأن الناس عابوا ذلك، فقالت عائشة : ما أسرع الناس إلى أن يعيبوا ما لا علم لهم به.
لذا فالاتباع المقصود به ليس الصلاة، وإنما المقصود به التشييع إلى القبر.
إذاً: يحرم اتباع الجنازة إذا كان فيها منكر، سوف يشهده ويحضره ولا ينكره، والأصل أن المنكر نوعان:
القسم الأول: منكر يحصل عند الاتباع ولا يحصل عند غيره، فهذا هو الذي يريده المؤلف.
القسم الثاني: منكر موجود حال الاتباع وحال غيره، فهذا الأقرب والله أعلم أنه يحضره، مثل بعض المنكرات الموجودة التي لا تنفك عنها، فهذا يحضرها الإنسان مثلاً في الأعراس بعض النساء تلبس الثياب العارية وهذا اللبس موجود في الزواجات وفي غير الزواجات، فأنا أرى والله أعلم أن المرأة خاصة الصالحة تحضر لأمور:
أولاً: لتكثير سواد الصالحات، فإن وجود الصالحات والعفيفات والعاقلات يمنعن -بإذن الله- من انتشار مثل تلك النساء.
ثانياً: ولأن هذا المنكر موجود هنا أو هناك، فأرى أن حضورهن مطلب إلا إذا كان هناك موسيقى فالموسيقى تمنع؛ لأن هذه ليست موجودة دائماً في هذا الزمان.
قول المؤلف رحمه الله: (يسجى) يعني: تغطى المرأة بثوب لأجل الستر، والأصل أنه يجوز أن يغطى نعش المرأة بستر، وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ابنته -زوجة عثمان- ولم يغط أو يسج جنازتها بشيء، فدل ذلك على أن تغطية المرأة جائز، أما الرجال فالأصل أنه لا يغطى؛ لأن تغطيته مدعاة إلى المفاخرة، ولهذا أنا أقول: إن تغطية الجنازة بمشلح خاصة أنه يشترى لذلك أرى أنه لا ينبغي إلا إذا وضعت الجنائز كلها للفقير والغني، للرفيع والوضيع فهنا يجوز، وقد روى البيهقي عن علي رضي الله عنه أنه رأى جنازة قد غطي وسجي فيها رجل ميت، فجذبه وقال: إنما يصنع هذا بالنساء، يقول المؤلف: (رواه سعيد )، وكذلك رواه البيهقي ، والحديث في سنده جهالة، يرويه علي بن الحكم عن رجل من أهل الكوفة أن علياً ، وهذا مجهول ومبهم، والمجهول من أقسام الضعيف والله أعلم، لكن الأصل هو ألا يصنع ذلك بالرجال، هذه سنة النبي صلى الله عليه وسلم وسنة الخلفاء.
واللحد هو أن يحفر إذا بلغ قرار القبر في حائط القبر مكاناً يسع الميت، وكونه مما يلي القبلة أفضل. والشق أن يحفر في وسط القبر كالنهر ويبنى جانباه وهو مكروه بلا عذر كإدخاله خشباً وما مسته نار ].
قول المؤلف رحمه الله: (واللحد أفضل من الشق)، أصح شيء جاء في اللحد حديث سعد بن أبي وقاص أنه قال: ( فإذا أنا مت فالحدوا لي لحداً وانصبوا عليّ اللبن نصباً كما صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم )، والحديث رواه مسلم ، وقد جاء عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: من حديث ابن عباس ، ومن حديث ابن عمر ، ومن حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللحد لنا والشق لغيرنا )، وكل حديث لا يخلو من مقال، وبمجموع طرقها تدل على أن هذا الحديث له أصل، وقد روى ابن إسحاق بسند جيد في باب المغازي وغيره: (أنه لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثوا برجلين أحدهما يلحد في القبر، والآخر يشق، فقالوا: أيهما جاء أولاً صنعنا برسول الله صلى الله عليه وسلم به، فكان أول من جاء الرجل الذي يلحد فلحد برسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا الحديث إسناده فيه ضعف، لكن مثله يحسنه بعض أهل العلم، يعني: أهل العلم المتقدمين، لكن أصح شيء في الباب هو حديث سعد بن أبي وقاص ، ولهذا صار اللحد أفضل، ويجوز الشق. وأما حديث: (والشق لغيرنا)، فإنه يفيد التحريم؛ لأنه لغيرنا، أي: لغير أمة الإسلام، ومن المعلوم أن من أمثلة التحريم قوله صلى الله عليه وسلم: (ليس منا)، ولهذا فإني أرى أن الحديث في سنده ضعف، وإن صححه بعض المتأخرين كالشيخ الألباني ، لكن الأظهر أن الحديث فيه غرابة، لكن الأصح أن اللحد لنا فقط.
واللحد هو: أن يحفر أول القبر، فإذا بلغ قرار القبر حفر حفرة في حائط القبر، بحيث يوضع فيها الميت، ثم ينصب اللبن من أعلى الحفرة إلى أدناها، بحيث ينصب اللبن ويغطى فيه الميت، وأما الشق فإنه يحفر في وسط القبر حفرة أضيق من الحفرة الأصلية، وهذا يتأتى عند بعض المناطق، حينما تكون الأرض التي فيها يصعب إيجاد حفرة من الجنب، وهذا يوجد، فبعض مناطق بلادنا المباركة يصعب وجود اللحد، وقد رأيت بعض هذه المناطق، فيوجد في مكة بعض المناطق، كذلك في شمال المملكة من جهة البحر الأحمر كحقل وغيرها، فقد يصعب إيجاد اللحد أحياناً، ولهذا فالراجح جوازه والله أعلم.
والشق كما ذكر المؤلف: أن يحفر في وسط القبر كالنهر، ويبنى جانباه، يعني: تحفر أول الحفرة حفرة كبيرة، ثم في قرارها تحفر حفرة أضيق بحيث يوضع اللبن من غير نصب.
قال المؤلف رحمه الله: [ وهو مكروه بلا عذر ].
الكراهة حكم شرعي لا يثبت إلا بدليل شرعي، ولهذا فالراجح أن الشق ليس بمكروه لعدم وجود ما يدل على ذلك، ولكن الذي يظهر أنه جائز والسنة تركه، ومما يدل على ذلك رواية الإمام أحمد و ابن إسحاق في المغازي، وهو أنهم دعوا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم من يلحد ومن يشق، فهذا يدل على أن الأمرين كانا متداولين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما مات دعوا من يلحد ودعوا من يشق، فهذا يدل على وجود الشق في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم وقبل وفاته.
يعني: أن الشق من غير حاجة مكروه، كما أن إيجاد تابوت يوضع في القبر مكروه، والأصل أنه لا يوضع في القبر شيء إلا ما لا حاجة فيه، يعني: ليس له أثر، وقد ثبت في الصحيح من حديث ابن عباس أنه وضع في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم قطيفة حمراء، أهم شيء إنه يجوز وضع شيء غير الرمال في القبر، لكن إذا كان ذلك مما له بال فإنه يزال، كما قال أبو بكر : فإنما الجديد للحي وإنما هو للمهلة والتراب. ولهذا فوضع الخشب أو دفنه في تابوت لم يكن عليه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا فهو مكروه والله أعلم، ولهذا أصحاب المذهب رأوا أن ما مسته نار أو الخشب أو دفنه في تابوت أن ذلك مكروه والله أعلم.
هذا الأفضل أن يوسع ويعمق القبر بلا حد، يعني: ليس فيه حد محدود، لكن الأصل أنه يحفر حفرة فيها نوع من العمق بحيث لو جاءت السباع والكلاب فحفرت لا تستطيع الوصول إلى الميت حتى تمل فتترك؛ وكذلك لأجل أنه إذا نتن لا تظهر الرائحة والله المستعان.
قول المؤلف رحمه الله: (ومن مات في سفينة)، وشق دفنه بسبب أن السفينة سوف تطول رحلتها ألقي في البحر سلاً، يعني: ما يلقى قذفاً، ولكنه يسل سلاً من باب احترام الجنازة؛ لأن الميت له حرمة كحرمته حياً، (كإدخاله القبر بعد غسله، وتكفينه والصلاة عليه، وتثقيله بشيء) وذلك لأجل ألا يطفح إذا انتفخ وتشرب الماء، فيوضع له مثقل حتى يبقى في الأرض، فإن قيل: هل يوضع في ثلاجة حتى تنتهي رحلة البحر؟ الذي يظهر والله أعلم أنه إذا كانت السفينة فيها ثلاجة تحفظ هذا الميت فالأفضل إبقاؤه، وقد ذكر العلماء رحمهم الله أنه إذا مات قامت قيامته، وجاءه الملكان ولو لم يدفن، كما جاء في الصحيحين في قصة ( الرجل الذي جمع بنيه وقال: أي أب أنا لكم؟ قالوا: نعم الأب، قال: فإذا أنا مت فاسحقوني ثم ذروني في اليم، قال: والله لئن قدر الله عليّ ليعذبني عذاباً شديداً، ثم أمر الله تلك الأجساد، وتلك العظام، وذلك اللحم فجمعت، فقال الله: ما حملك على ذلك يا عبدي؟ قال: خشيتك يا رب! فغفر الله ذنبه )، وجه الدلالة أن الله جمعه مع أنه لم يقبر والله أعلم، وقد ذكر ابن تيمية أنه إذا مات قامت قيامته وجاءه منكر ونكير والله أعلم.
إذاً من مات في سفينة ولم يكن في ثلاجة وخشي إظهار رائحة كريهة منه فإنه يوضع ويسل في البحر، ولكن بعد غسله وتكفينه والصلاة عليه، وتثقيله بشيء والله أعلم.
قول المؤلف رحمه الله: (ويقول مدخله ندباً) يعني: مدخل الميت في القبر، فإن السنة إذا أريد إنزال الجنازة إلى القبر ينزل واحد من طرف، والآخر من طرف، فإن كان قادراً أن يحمله واحد فلا حرج، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم حينما ماتت ابنته أم كلثوم قال: ( من الرجل لم يقارف الليلة؟ فقال
والسنة كما يقول المؤلف أن يقول: (بسم الله وعلى ملة رسول الله لأمره صلى الله عليه وسلم بذلك) هذا الحديث رواه الترمذي و أبو داود ، ولكن في سنده ضعف، فلا يصح مرفوعاً، والحديث رواه ابن عمر ، والصواب وقفه على عبد الله بن عمر ، ورواية الرفع تفرد بها همام عن قتادة عن أبي الصديق عن ابن عمر ، فـهمام يخطئ كثيراً في روايته عن قتادة ، لكن سعيد بن أبي عروبة و هشام بن حسان روياه عن قتادة موقوفاً، ورجحه الدارقطني ، والله أعلم، ولا يقال: إنها زيادة ثقة؛ لأن هذه طريقة المتأخرين، والراجح أن الأئمة إذا رووا عن شيخ مشهور رواية تداولوها، ثم جاء آخر ولو كان ثقة روى خلاف ذلك أو زاد، فإنه لا يقبل كما هو معلوم، ولهذا نقول: إن قيل: بسم الله وعلى ملة رسول الله، فلا حرج إن شاء الله والله أعلم.
يعني: يستقبل به القبلة، ويضعه على الشق الأيمن، كأنه نائم لقوله صلى الله عليه وسلم: ( هي قبلتكم أحياءً وأمواتاً )، والحديث رواه البيهقي عن ابن عمر ، والصواب أن في الحديث ضعفاً، لكن قال صلى الله عليه وسلم: ( إذا أويت إلى فراشك فاضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم إني وجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك ) الحديث، فهذا يدل على أن النوم هي الوفاة أو الموتة الصغرى، وهكذا صنع برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال المؤلف: (لأنه يشبه النائم وهذه السنة) لحديث البراء بن عازب : ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا آوى إلى فراشه نام على شقه الأيمن )، والحديث متفق عليه.
مر معنا من يقدم بغسله، وقلنا: الراجح أن الذي يقدم بغسله هم أقرباؤه ممن يحسنون السنة، فإذا لم يكن أحد من أقربائه يحسن السنة فإنه يقدم الأبعد؛ لأن السنة أولى والله أعلم، وقد قام بغسل النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب و العباس و الفضل .
قال المؤلف رحمه الله: (وبعد الأجانب محارمه من النساء ثم الأجنبيات) يعني: يقدم بعد الأجانب محارمه من النساء؛ لأن النساء لا مدخل لهن في اتباع الميت ودفنه، فلهذا صرن أولى بالمحارم، فإن لم يكن فالأجانب لما جاء في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل طلحة بن عبيد الله القبر لدفن ابنته أم كلثوم ، ولهذا قال المؤلف: (ويدفن امرأة محارمها الرجال)؛ لأن النساء لا مدخل لهن في هذا الشأن. ثم قال: (فزوج فأجانب) المؤلف قدم الرجال من محارمها على الزوج، قال: لوجود الخلاف في بقاء الزوجية بين الزوج وزوجته، والخلاف مع أبي حنيفة ، والراجح والله أعلم أن الزوج أولى من أقاربها؛ لأن الزوج عاين جسدها أكثر من والدها، وأبنائها، وحواشيها من إخوة وأبناء أخ وأعمام، ولهذا فالراجح والله أعلم أن الزوج مقدم، هذا إذا كان الزوج يحسن تطبيق السنة، فليست المسألة مسألة نزول في القبر من غير معرفة، فإن الذي يظهر أنه أحياناً ينزل شخص ولا يحسن فلا يرخي كفن الميت، ولا يصنع شيئاً فيخالف السنة، ويؤخر الناس، فلا ينزل إلا من كان يحسن ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويجب أن يكون الميت مستقبلاً القبلة؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الكعبة: ( قبلتكم أحياءً وأمواتاً ) ].
الحديث رواه البيهقي من حديث ابن عمر ، ولا يصح مرفوعاً لكن استقبال القبلة هو السنة؛ لأنه صنع بالنبي صلى الله عليه وسلم وسار الناس على ذلك.
هنا إذا وضع اللحد طبيعة اللحد أحياناً يكون واسعاً قليلاً، فلا بد أن يثبت نوم الميت بحيث ينام على جنبه، فإذا كان اللحد واسعاً فإنه يوضع اللبن من خلفه حتى لا ينقلب وينكسر، ويستمر استقباله، نسأل الله أن يلطف بنا، وأن يعفو عنا ويتسامح.
قال المؤلف رحمه الله: [ ويجعل تحت رأسه لبنة ].
يجعل تحت رأسه لبنة حتى تثبت الجنازة على الهيئة التي وضعت حال القبر، وهذا من باب تكريم الميت، وإلا فإنه سوف يتحلل ويتغير وينتفخ، ولهذا استحب حال نزول القبر أن يخفف الكفن، كما مر معنا.
الشرجة: هي الفتحة، فيغلق بحيث لا ترى الجنازة النور؛ لأنه إذا رأى النور فإذا أهيل عليه التراب فإنه ربما يدفن، فلا فائدة من اللحد، فلأجل هذا لا بد من إغلاقه باللبن حتى إذا وضع اللبن وصف صفاً جيداً أتي بالطين ليغلق المسام بين كل لبنتين، ولهذا قال: [ ويتعاهد خلاله بالمدر ونحوه ]، يعني: الطين المجموع فيه تبن وغيره، بحيث يكون قوياً.
وغير اللبن يجوز، لكن السنة هو اللبن؛ لقوله: ( وانصبوا عليّ اللبن نصباً )، لكن يجوز أن يوضع خشب؛ لأن أحياناً يكون الخشب أنفع، يعني: أن توضع قطعة من السياج لا حرج في ذلك، لكن السنة اللبن، والله أعلم.
هذه طريقة الدفن لأجل أن يمنع التراب من الدخول إلى الجنازة، وإلا لما كان للحد فائدة.
قال المؤلف رحمه الله: [ وحثو التراب عليه ثلاثاً باليد ]، أما الحثو فقد ثبت عن ابن عمر وقال أبو الدرداء من تمام أجر الجنازة أن تحمل، وأن يحثا عليها التراب، وقلنا: إن إسناده لا بأس به.
ثم هل يستحب أن كل من حضر أن يحثو عليه ثلاثاً؟ نعم، فقد ثبت عن ابن عمر أنه حثا عليه ثلاثاً، ويقول: بسم الله، وعلى ملة رسول الله، وهذا كما قلنا: مروي عن ابن عمر ، فإذا لم يقل جاز، ولا ينبغي للناس الذين يدفنون القبر أن يسارعوا في دفنه بالمسحاة ونحوها، حتى يحثو الناس ويفعلوا ما كان الصحابة يفعلونه، فيجمعون التراب حتى يطبق الناس هذه السنة، والله أعلم.
ومما يدل على أنه كان يُصنع ذلك قول فاطمة لـأنس : ( يا
وأما قوله: (تلقينه)، يعني يقال له: قل: لا إله إلا الله، فإن الحنابلة يستحبون ذلك؛ لحديث أبي أمامة مرفوعاً: ( إذا مات أحد من إخوانكم فسويتم التراب على قبره، فليقم أحدكم على رأس قبره، ثم ليقل: يا فلان! اذكر ما خرجت عليه من الدنيا شهادة أن لا إله إلا الله )، والحديث رواه الطبراني في الكبير، وهذا الحديث ضعيف بمرة، ولا يصح رفعه، وقد أشار ابن القيم إلى أن هذا ليس من هديه صلى الله عليه وسلم، وكذلك أشار إلى ذلك أبو العباس بن تيمية ، وغيره من الأئمة كـالصنعاني ونحوهم ممن ذكروا ذلك من شراح الحديث، وعلى هذا فالذي يظهر أنه لا يشرع تلقينه، ولا يستحب، بل ذلك من البدع.
وأما قول عمرو بن العاص : ( فإذا أنتم دفنتموني فأقيموا حول قبري قدر ما تنحر جزور، ويقسم لحمها حتى أستأنس بكم، وأنظر ماذا أراجع به رسل ربي )، فهذا الحديث رواه مسلم ، ولم يوافق عمرو بن العاص على ذلك، ولهذا أشار العلماء رحمهم الله إلى أن قول عمرو بن العاص لم يوافقه أحد على هذا والله أعلم، لكن الدعاء له مطلب بأن يدعى له في هذا الأمر، وأما أن ينتظر الناس إذا دفن كلهم ينتظرون، ويقومون على قبره، ويدعون ولو همساً هذا ليس له أصل.
وأما من يستدل على ذلك بقوله تعالى: وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ [التوبة:84]، فقالوا: هذا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يقوم على قبر الميت، فهذا ليس ظاهراً في هذا الشأن، والأصل أنه يدعى له، ولو كنا قد رجعنا لبيوتنا فندعو له، وهذا حقه علينا أن ندعوا له، أما أن نقف عند القبر وندعوا فهذا لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا شيء، والحديث الوارد في هذا فيه ضعف، وإن قال النووي : إسناده جيد، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم ثبت أنه قال: ( اسألوا لأخيكم الثبات فإنه الآن يسأل )، ولكن الوقوف عند القبر وأن يقوم الناس هذا ليس فيه دلالة واضحة، والله أعلم، يعني: ما تقف عند القبر وتسأل له الثبات، هذا يسأل له الثبات ولو كان قد غفل، ( اسألوا لأخيكم الثبات )، هذا الحديث رواه أبو داود ، وأشار النووي إلى أن إسناده جيد، وفيه ضعف، لكن لا حرج أن يقال، لكن الشأن ألا يوقف عند القبر كأن ذلك نوع تعظيم له، فهذا لا ينبغي، لكن لو قال: ( اسألوا لأخيكم الثبات فإنه الآن يسأل ) فلا حرج.
وبالمناسبة مشايخنا كرهوا أن يقول: حللوا فلان، يعني: لا ينبغي أن يقال: حللوه؛ لأجل ألا يحرج من كان يطالبه بمظلمة أو مال، وربما امتنع من الحضور لأجل هذا، والله أعلم.
أما رشه بماء فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رش قبر ابنه إبراهيم ، رواه جابر وفي سنده ضعف؛ لأن في سنده محمد بن عمر الواقدي ، وهو كذاب، أو يكذب، وكذلك حديث جعفر بن محمد عن أبيه، وهذا مرسل، ولكن رش الماء أثبت لبقاء الجنازة، وأما وضع الحصباء عليه فقد كان في قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فقد روى القاسم بن محمد بن أبي بكر أنه أدخلته أم المؤمنين عائشة وقال لها: ( اكشفي لي قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه، يقول: فكشفت لي ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة -يعني: ليست لاصقة بالأرض- مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء )، وهذا يدل على أن وضع الزيادة من القبر من الحصباء لا بأس به، والحديث إسناده جيد، وهذا يدل على أن وضع الحصباء اليوم عندنا لا حرج فيه، والله أعلم، لكني أكره أن يوجد بعض الحصباء الملونة لبعض القبور، وترك بعضها؛ لأجل أن الناس اليوم سواسية، ولأن الإكثار من مثل ذلك مدعاة إلى أن يعظم الرؤساء، وربما كان الوضيع أفضل حالاً من الرئيس، والله المستعان.
قول المؤلف رحمه الله: (ويرفع القبر عن الأرض قدر شبر لأنه صلى الله عليه وسلم رفع قبره عن الأرض قد شبر) رواه الساجي من حديث جابر ، الحديث رواه ابن حبان وحسنه أو صححه؛ لأن ابن حبان إذا روى في كتاب الإحسان فإن هذا دلالة تصحيح، ورواه البيهقي وفي سنده الفضيل بن سليمان ، و الفضيل بن سليمان ضعيف، ولهذا فالأصل أنه يرفع القبر قليلاً، وأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما نهى إذا كان مشرفاً أو مرفوعاً، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته )، أي: أزلت الزيادة، ولهذا جاء عند البخاري أن سفيان بن التمار رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً، ومن المعلوم أن المسنم هذا يكون على هيئة سنام الجمل، فلا بد أن يكون قد ارتفع عن الأرض، فسواء ارتفع عن الأرض شبراً أو زاد قليلاً فلا حرج إن شاء الله، لكن أن يوضع تشريفاً إلى متر فهذا محرم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم لـعلي : ( ألا تدع قبراً مشرفاً إلا سويته )، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (ويكون القبر مسنماً) لما روى البخاري في صحيحه عن سفيان التمار أنه رأى قبر النبي صلى الله عليه وسلم مسنماً، يقول المؤلف: (لكن من دفن بدار حرب لتعذر نقله فالأولى تسويته بالأرض وإخفاؤه)، يعني: خوفاً من أن ينبش قبره، وقد أخفى الصحابة قبر دانيال ، كما جاء ذلك عن عمر خوفاً من أن يعبد، وليس لسبب غير هذا، فحفر عمر عدة قبور، ثم وضع في أحدها ودفنه لأجل أن يخفي ذلك عن الناس، وإذا كانت الجنازة في دار حرب وكانوا لا يبالون بحفره فلا حرج، لكن إذا كان الرجل من أهل الجهاد، وصولة العدو، فخشي المسلمون أنهم إذا دفنوا هذا القبر أن يأتي الأعداء فينبشوا قبره أن يخفوه، فهذا مطلب؛ لأن الأعداء لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:10].
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر