الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويكره تجصيصه وتزويقه وتحليته وهو بدعة، والبناء عليه لاصقة أولى؛ لقول جابر : ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه وأن يبنى عليه ) رواه مسلم . وتكره الكتابة والجلوس والوطء عليه ].
يجب أن نعلم أن تجصيص القبر مدعاة إلى تعظيمه، ومن ثم العبادة عنده، ومن ثم عبادته، فهي دركات، فكلما انتهى الناس من شيء حبب إليهم إبليس الشيء الآخر، ولأجل هذا أراد الشارع قطع دابر الفتنة، والبدعة، فنهى أن يعظم القبر، وتعظيمه يكون بإما أن يجصص، والتجصيص هو تبييضه بالجص، ومثله الإسمنت، فكانوا يسمونه جصاً ونحن نسميه الإسمنت الأبيض، أو الإسمنت الأسود، وكل ذلك محرم، سواء بني عليه عن طريق البلك، أو عن طريق الخشب، أو القبب، فكل ذلك محرم، وهو من البدع، ومن التعظيم الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم أمته عنه قبل أن يموت، ولا يعظم القبر إلا ويعقبه عبادته أو الذهاب إليه، أو الدعاء عنده.
ومثل التجصيص التزويق، والتزويق: هو تزيينه وتحسينه، بأن يحسن القبر على غير العادة المعهودة، ووضع الحصباء وهي الحصى الصغيرة لا بأس به من باب معرفة القبر، وقد جاء في الحديث ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع حصاة على رأس قبر
بل إن هذا الأمر أعني به الدعاء عند القبر وقع فيه بعض الفضلاء من بعض أصحاب المذاهب، كما أشار إلى ذلك ابن الجوزي في صيد الخاطر غفر الله لنا وله، فإنه كان يقول: إذا ادلهمت عليّ الأمور ذهبت إلى قبور الصالحين ودعوت ربي عندها، وهذا كله من البدع، وقد خفيت على ابن الجوزي ، وله شطحات في الأسماء والصفات، وفي باب البدع، والعياذ بالله غفر الله لنا وله.
ثم إن المؤلف رحمه الله عندما قال: (يكره) بناءً على أن ذلك ليس بمحرم، ولكن الراجح والله أعلم حرمته.
أما الكتابة فقد جاء فيها حديث: ( نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجصص القبر، وأن يقعد عليه، وأن يبنى عليه، وأن يكتب عليه ) رواه مسلم بغير (وأن يكتب عليه) فقد تكلم فيها الحفاظ، وقد أخرجها الترمذي ، وابن حبان وغيره، والذي يظهر والله أعلم أن هذه الزيادة منكرة، وأن أحد الرواة أخطأ فيها، وقد أشار الدارقطني إلى هذا الاختلاف، وأن زيادة (يكتب عليه) ضعيفة، ولكن عليه العمل عند أهل العلم، والمقصود بالكتابة المنهي عنها أن يقال: هذا قبر فلان بن فلان بن فلان، وأما الكتابة التي هي بمعنى الإعلام بأن يجعل ثمة حرف أو حرفين، فهذا لا يسمى كتابة، والكتابة المقصود بها هي أن يذكر اسم صاحب القبر، ومتى مات، فهذا هو المقصود والله أعلم، وهو من البدع، أما أن يكتب بعض الرموز من باب معرفة قبر القريب، فهذا الذي يظهر -والله أعلم- أنه ليس به بأس، كما أشار إلى ذلك بعض المحققين كالشيخ ابن سعدي ، وشيخنا عبد العزيز بن باز .
وقد أشار بعض المشايخ وبعض شراح الحديث إلى أن الحرف والحرفين لا يسمى كتابة، فلو أنك وضعت بالبخاخ على الحصاة الموضوعة على القبر حرف عين أو خاء أو غير ذلك فهذا الذي يظهر أنه ليس به بأس؛ لأن هذا ليس من باب التعظيم، ولا يعلم هذا القبر إلا لقريبه، أما أن يوضع خشبة يكتب فيها اسم صاحب القبر: هذا قبر فلان بن فلان، فقد ذكر المؤلف أن ذلك مكروه، والذي يظهر أنه من البدع، والبدع كلها محرمة.
يعني: على القبر، فهذا محرم، وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لأن يجلس أحدكم على جمرة فتحرق ثيابه فتخلص إلى جلده خير من أن يجلس على قبر )، وهذا الحديث رواه مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي ، وهذا هو الراجح، والله أعلم.
يعني: وهو يمشي يطأ على القبر، فهذا محرم؛ لأن حرمة الميت حياً كحرمته ميتاً، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن بشير بن الخصاصية أنه قال: ( عندما رآه يمشي بين القبور بنعليه قال: يا صاحب السبتيتين اخلع سبتيتيك )، وما أمره النبي صلى الله عليه وسلم بأن يخلع سبتيته إلا احتراماً للقبور، فإذا نهي أن يمشي بين القبور بنعلين فوطؤه من باب أولى، والله أعلم.
وهذا حديث حسنه غير واحد من أهل العلم، وهو إن شاء الله حديث حسن، وقد احتج به الإمام أحمد رحمه الله.
بأن يجعله كأنه شيء يتكئ عليه، وقد جاء في حديث رواه الإمام أحمد ( أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى
يعني: أن يدفن الميت وتكون قبور المسلمين في صحراء أفضل، يقول: (لأنه صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه بالبقيع)، يعني: البقيع كانت فضاء، والمقصود بالصحراء هو المكان الفسيح، وليس في هذا دلالة على أن دفنه في الصحراء أفضل، ولكن لو قيل: الأفضل أن يدفن في مكان مخصص لذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدفن أصحابه كذلك، فالبقيع كانت مكاناً قد خصصه النبي صلى الله عليه وسلم لدفن الأموات، أما أن يدفن كل شخص قريبه في فناء بيته فهذا ليس من السنة، ولو حوطه كما يوجد في بعض البلدان، فالسنة أن توضع القبور في مكان مخصص لها، كما قالت عائشة : ( يا رسول الله! أرأيت إذا أتيت أهل القبور ) فهذا يدل على أن السنة أن يكون للقبور مكان يسمى المقبرة، وإن كان كل ما دفن فيه اثنان فأكثر يسمى مقبرة، ولو في فناء المنزل، لكن وضعها في مكان قريب من البيوت مدعاة إلى إهانتها، وقد وجدت بعض القبور بعد زمن تباع على أنها أراضي، والأصل أن المقبرة لا تباع؛ لأن الإنسان إذا دفن فيها شخصين فلا يجوز بيعها لحرمة المكان، إلا إذا دفنها في مكان ليس ملكاً له، فإنه من المعلوم أن القبور تنبش؛ لأن حق المسلم الحي أولى والله أعلم.
لأن النبي صلى الله عليه وسلم دفن في حجرته، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: ( ما قبض الله نبياً إلا في الموضع الذي يحب أن يدفن فيه )، أخرجه الترمذي ، وقال: هذا حديث غريب، وحسنه بعض المتأخرين، ولكن الذي يظهر والله أعلم أنه وإن كان في سنده ضعف لكن عليه العمل عند أكثر أهل العلم، ومما يدل على صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم مات في حجرة عائشة فقبر فيها، ولم يختلف الصحابة في أي مكان يقبر، فدل على أنه كان أمراً معروفاً عند أصحابه أن يدفن في المكان الذي مات فيه، ولهذا روى جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ألا إن رسولكم يأمركم ان ترجعوا بالقتلى فتدفنوها في مصارعها حيث قتلت )، وهذا الحديث أخرجه أهل السنن والإمام أحمد ، وصححه الترمذي ، يعني بذلك أن الميت لا ينقل من بلد إلى بلد؛ لأن السنة أن يدفن في البلد التي هو فيها، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما دفن حجرة عائشة لم يختلف أصحابه على أنه يدفن في هذا المكان فدل على أنه كان أمراً مستقراً عندهم فوجود عدم الاختلاف دليل على أن ذلك مستقر عند أصحابه في هذا والله أعلم، وهذا شبه إجماع عندهم في جوازه.
قال المؤلف رحمه الله: [ واختار صاحباه الدفن عنده تشرفاً وتبركاً، وجاءت أخبار تدل على دفنهم كما وقع ].
أما أبو بكر رضي الله عنه فقد أوصى أن يدفن بجنب قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان قبر أبي بكر وسطاً من قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد أحبوا ألا يكون قبر أبي بكر مساوياً لقبر النبي صلى الله عليه وسلم، فجعلوا رأس أبي بكر قريباً من وسط رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأما قبر عمر فقد روى البخاري من حديث المسور بن مخرمة في قصة قتله عندما أمر عبد الله بن عمر أن يذهب إلى عائشة ويستأذنها أن يقبر عمر ، فقال له عمر : ( فقل لها يستأذن عليك
ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( إن هذه القبور مملوءة ظلمة على أصحابها، وإن الله منورها بصلاتي عليهم )، فوجود الإنسان في مقبرة فيها صالحون يؤثر عليه من حيث البركة والسعة وغير ذلك، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
الرسول صلى الله عليه وسلم كان إذا دخل المقبرة كأن على رأسه ورءوس أصحابه الطير، كما جاء ذلك في حديث البراء في قصة حديث البرزخ عندما قال: ( جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه عصا ينكته بالأرض وجلس أصحابه، ولما يلحد القبر كأن على رءوسهم الطير، فقال: إن المؤمن إذا كان في إقبال من الآخرة وإدبار من الدنيا جاءه ملكان ) الحديث، وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان كأن على رأسه الطير، ولهذا استحب العلماء رحمهم الله ألا يجلس الإنسان حتى توضع الجنازة في الأرض، فإذا وضعت جلست حتى يلحد القبر، فإذا لحد القبر ودفن استحب أن يحثو عليه كما جاء ذلك في في أثر ابن عمر ، وأثر أبي الدرداء ، وهذا يدل على أن الأفضل أن يجلس الإنسان على الأرض كأن على رأسه الطير، ولهذا جاء في حديث قيس بن عباد : أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يكرهون رفع الصوت عند الجنائز، وهذا يدل على أن الإنسان يكره له أن يتحدث في أمور الدنيا، أما في أمور العلم مثل أن يلقى عالماً أو طالب علم فيسأله عن بعض المسائل فلا حرج إن شاء الله، وقد كان هذا معروفاً، وقد ذكر عن بعض الرواة أنه قال: رأيت محمد بن يحيى الذهلي يسأل الإمام البخاري وهما يشيعان جنازة، وهذا لا يخالف الخشوع والله أعلم.
يعني: يكره للإنسان أن يمشي بنعليه بين القبور، وهذا بناء على أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى بشير بن الخصاصية فقال: ( يا صاحب السبتيتين ألق سبتيتيك ) وذهب ابن حزم ورواية عند الإمام أحمد إلى أن ذلك محرم، وليس ببعيد، وإن كان الحافظ ابن حجر ، قال: وأغرب ابن حزم فقال: يحرم المشي بين القبور بالنعال السبتية دون غيرها، أما المشي بين النعال فهذا صحيح، أما تخصيص ذلك بالسبتية فهذا بلا شك ظاهرية استنكرت على ابن حزم كغيرها من المسائل التي انفرد فيها، والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ إلا خوف نجاسة أو شوك ].
يعني: أنه إذا كان يخاف من النجاسة مثل أن يكون في بعض القبور من أرواث الكلاب أو بعض النجاسات، أو خاف من وجود الشوك، فإن بعض القبور ينبت فيها بعض الأشواك، فإذا كان يخشى ذلك فلا حرج؛ لأن الكراهة تزول لوجود الحاجة، والله أعلم.
والوطء عند الدفن ليس فيه بأس، لكن إذا كان يمشي عند القبور فينهى عن وطئها.
أما التبسم فالذي يظهر والله أعلم أن ذلك لا بأس به، خلافاً لما ذكر المؤلف؛ فإن التبسم من غير ضحك في الصلاة لا يبطلها، وهو قول الأئمة الأربعة، ولكن الضحك هو الذي يبطلها، وبالغ الحنفية فقالوا: إنه مع إبطال الصلاة يبطل الوضوء، فتفردوا بهذا القول، ولكن الصحيح أن الصلاة تبطل، لكن الوضوء لا يبطل، أما الابتسامة فإنها لا تؤثر في الصلاة وإن كان ذلك مكروهاً، فإذا كان في الصلاة لا يبطلها، فإنه في المقبرة لا يضر صاحبه من باب أولى.
بل لا كراهة في ذلك؛ لأن الإنسان أحياناً قد يرى ما يعجبه من خير الدنيا والآخرة فيبتسم.
إسراج القبور: هو وضع السرج عليها، وقد جاء في ذلك ثلاثة أحاديث: حديث ابن عباس ، وحديث أبي هريرة ، وحديث حسان ، وكلها فيها كلام، يعني: لا يصح فيها حديث: ( لعن الله زائرات القبور والمتخذين عليها المساجد والسرج )، حديث ابن عباس في سنده ضعف، وحديث أبي هريرة فيه صالح مولى التوأمة، وكذلك حديث حسان ، لكن قوله صلى الله عليه وسلم: ( لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد )، فإن المساجد يوضع فيها السرج، ولأجل هذا جاء التصريح عند كثير من الأئمة بأن سرج القبور محرم، لكن السراج الذي لأجل دفن الميت لا أرى به بأساً والله أعلم.
وقد سئلت اللجنة عن وضع أكباس ضوئية خارج المقبرة، أو داخل المقبرة بحيث إذا احتيج إلى الدفن أضاءت، فنهت اللجنة الدائمة، وأنا أرى أن منعها جيد؛ لأن الناس أحياناً إذا رأوا الشيء ربما يتوسعون فيه، ولا يعلم حكمته، ولهذا فإني أرى أنه يمنع أن يوضع أكباس ضوئية على القبور، ولو أشعلت لحاجة لأنهم إذا كانوا يريدونها لحاجة فهناك أكباس السيارة تدخل وتضيء، أو هناك نوع من الأكباس التي تستخدم عن طريق التخزين، إذا أحتاج الناس إليها استخدموها، هذا هو الأصل والله أعلم، أما أن توضع أكباس كهربائية فإن هذا مدعاة إلى إشعال الأنوار دائماً والله المستعان، ولهذا اتخاذ السرج محرم والله أعلم؛ لأنه من البدع، ولم يكن هذا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وإن كان الحديث في سنده ضعف، لكن عليه العمل عند أهل العلم؛ لأنه بمجموع طرقه يدل على أن له أصلاً.
قال المؤلف رحمه الله: [ والتخلي عليها وبينها ]، يعني: التبول بين القبور، أو التغوط عليها محرم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد على آله وصحبه.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر