الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ كتاب البيع: جائز بالإجماع؛ لقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ [البقرة:275].
وهو في اللغة: أخذ شيء وإعطاء شيء، قاله ابن هبيرة ، مأخوذ من الباع؛ لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء.
وشرعاً: مبادلة مال ولو في الذمة بقول أو معاطاة. والمال عين مباحة النفع بلا حاجة، أو منفعة مباحة مطلقاً، كممر في دار أو غيرها بمثل أحدهما، متعلق بمبادلة، أي بمال أو منفعة مباحة، فتتناول تسع صور: عين بعين أو دين أو منفعة دين بعين، أو دين بشرط الحلول والتقابض قبل التفرق أو بمنفعة، منفعة بعين أو دين أو منفعة، وقوله: (على التأبيد) يخرج الإجارة، (غير ربا وقرض) فلا يسميان بيعاً وإن وجدت فيهما المبادلة؛ لقوله تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، والمقصود الأعظم في القرض الإرفاق، وإن قصد فيه التملك أيضاً ].
أما الكتاب: فإن الله سبحانه وتعالى بين أن البيع مباح، فقال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، وأمر بالبيع بعد انتهاء العبادة، فقال تعالى: فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وهذا يدل على أن الابتغاء من فضل الله جائز ومشروع، بل بين الله سبحانه وتعالى أن الذين يسافرون يبتغون الفضل والرزق من الله أنه نوع من الجهاد: وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [المزمل:20]، وهذا يدل على أن البيع إذا قصد به الرزق الحلال، وإعطاء الأهل اللقمة الحلال أنه نوع من الجهاد.
وهو نوع من الصدقة، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: ( لأن يحتطب أحدكم ثم يبيعه في السوق خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه )، فقوله صلى الله عليه وسلم: ( فيبيعه في السوق ) فيه دلالة على أن البيع إذا قصد به الكف عن سؤال الناس، والأكل من اللقمة الحلال، فإن ذلك يؤجر عليه الإنسان. والله أعلم.
فالبيع يكون مباحاً ويكون مأموراً به، إذا كان ذلك مدعاة إلى ترك الواجبات التي أمره الله بها، فإن العبد مأمور أن ينفق على ولده، مأمور أن ينفق على نفسه، مأمور أن ينفق على زوجه، ولهذا الرسول صلى الله عليه وسلم: ( عندما جاءه الرجلان فرآهما جلدين، فقال: إن شئتما أعطيتكما - يعني من الزكاة - ولا حظ فيها لغني ولا لقوي مكتسب )، وهذا يدل على أن البيع أحياناً يصل إلى الاستحباب، والله أعلم.
وأما السنة: فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن المتشاركين في البيع فإن الله معهما، فقال تعالى في الحديث القدسي: ( أنا ثالث الشريكين ما لم يخن أحدهما صاحبه )، ومن المعلوم أن الشريكين إنما يشتركان في البيع والشراء، وقال صلى الله عليه وسلم: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه )، ولا يتأتى هذا إلا بالبيع والمقاضاة ونحو ذلك، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( البيعان بالخيار ما لم يتفرقا )، وهذا الحديث متفق عليه من حديث ابن عمر ومن حديث حكيم بن حزام .
وأما الإجماع: فقد نقل غير واحد من أهل العلم الإجماع على جواز البيع وأنه مشروع في الجملة، نقله ابن المنذر و النووي و ابن قدامة و ابن هبيرة ، والله تبارك وتعالى أعلم.
وأما القياس: فإن النفس راغبة فيما في أيدي الغير، ولا يتأتى حصولها بالبذل؛ لأن النفوس شحيحة، فناسب ذلك أن يبذلها الآخرون بالبيع والشراء، فكان ذلك هو المقصود.
قال المؤلف رحمه الله: (مأخوذ من الباع) هو الساعد واليد للإنسان، فسمي البيع بيعاً لأنه مأخوذ من الباع؛ لأن كل واحد من المتبايعين يمد باعه للأخذ والإعطاء، ولا شك أن هذا هو الغالب، وإلا فإنه يمكن أن يبيع ويشتري من غير مد يد، إما أن يؤدي وكيله، أو بطريقة أخرى من المقاصة ونحوها.
وبالمناسبة فإنكم تجدون تعاريف الفقهاء رحمهم الله ليست تعريفاً بالحد الذي يسميه علماء الأصول: جامعاً مانعاً، ولكنه في الغالب تعريف بالرسم، فإنهم يدخلون بعض شروط العقد في التعريف، وهذا بلا شك ليس هو الحد الذي لا بد أن يكون خاصاً في الماهية، ولكنهم يدخلون فيه بعض الشروط، ولهذا تجدونهم حينما يعرفون مثلاً القرض يقولون: أخذ مال لمن ينتفع به ويرد بدله، ويقولون في السلم: عقد على موصوف في الذمة مؤجل بثمن مقبوض في مجلس العقد، وهذه شروط السلم، فلما جاء البيع ساروا على نفس الطريقة، فقالوا: مبادلة مال ولو في الذمة، ولو أن المؤلف أخر كلمة: (ولو في الذمة) لكان في ذلك نوع من الوضوح.
والمقصود من ذلك أن البيع لا بد فيه من مبادلة، هذا يبادل بشيء وهو البائع، وهذا يبادل بشيء وهو المشتري، وأما الثمن فالقاعدة: أن الثمن هو من دخل عليه الباء، فلو قلت: أبيعك سيارتي بفلتك، صار الثمن: هو الفلة ولو قلت: أبيعك الكمبيوتر بأن تعطيني سيارتك أبد الدهر أنتفع بها، صارت المنفعة بالسيارة هو الثمن، وهذا الذي يريده المؤلف.
قال المؤلف رحمه الله: (مبادلة مال) يعني: أحد المتعاقدين يبادل بمال، يقول: هذا المال لا يلزم أن يكون نقداً، فكل ما ينتفع به بالبذل والأخذ من غير حاجة فإنه يسمى مالاً، هذا تعريف المال، والمال عرفه المؤلف بقوله: (عين مباحة النفع من غير حاجة) هذا تعريف المال عند الحنابلة، ولو قيل: كل ما يتمول، ويحصل فيه البذل، ويباح نفعه من غير حاجة لكان أظهر، ففيه ثلاثة أوصاف كل ما يتمول، ويحصل فيه البذل، ويباح نفعه من غير حاجة.
وخرج بذلك ما لا يتمول، فالخمر ليس بمال؛ لأنه لا يتمول فلا يباع ولا يشترى، وما يحصل فيه البذل هو المالية، أما الذي لا يحصل فيه البذل فلا يسمى مالاً؛ لأنه لا يمكن أن يحصل الإنسان على شيء إلا بالبذل، فإذا لم يتأت فيه البذل فلا يسمى مالاً، وتكون مباحة النفع من غير حاجة؛ لأن هناك شيئاً يباح نفعه لكنه لحاجة، فالكلب يباح نفعه إذا كان للصيد أو إذا كان للزرع، أو إذا كان لحراسة الماشية، لكن لحاجة، فلهذا حرم بيع الكلب، كذلك جلد الميتة، فإن الحنابلة لا يرون طهارته بالدبغ، لكنه يباح الانتفاع به باليابسات، ومع ذلك لا يسمى مالاً فلا يجوز بيعه؛ لأنه نجس، وإباحة النفع فيه إنما هو لحاجة.
قال المؤلف رحمه الله: (مبادلة مال ولو في الذمة) والذمة هي الشيء الموصوف غير الحاضر، هذا أحسن تعريف للذمة، وهذا يسمى عند العلماء في الذمة، الذي هو الدين.
إذاً: عندنا عين وعندنا دين، العين هي المعينة، فيمكن أن تكون هناك عين معينة غير حاضرة، ولكنها ليست في الذمة، فلو قلت لكم أبيعكم سيارتي الجيب، لونها كذا، وموديلها كذا، أنا الآن أعين شيئاً عندي، فهل عندي أنواع من السيارات، أم سيارة واحدة؟ سيارة واحدة، إذاً هذه تسمى: عين موصوفة، وليست في الذمة؛ لأنها ليست في ذمتي أنا ملزم بها، إذا أتيت بالصفة هذه.
أما الذي في الذمة فهو أني أذكر لك أوصافاً وليست أعياناً، أقول لك: أبيعك سيارة، موديل ألفين وأحد عشر، لونها أبيض كامري، إذاً هذه الأوصاف موجودة بمعين أم موجودة في أجناس كثيرة؟ موجودة في أجناس كثيرة، والذي أنا ألتزم به في ذمتي، هو معين أم موصوف؟ موصوف، هذا يسمى في الذمة.
إذاً الموصوف يمكن أن يكون معيناً ويمكن أن يكون غير معين؛ ولهذا يخطئ بعض الباحثين حينما يقول: الذي في الذمة هو الموصوف، لا، ليس الذي في الذمة هو الموصوف، الذي في الذمة هو الموصوف غير المعين؛ لأن الموصوف المعين ليس في الذمة؛ ولهذا يجوز بيع الموصوف المعين ولو لم يتم القبض في مجلس العقد؛ لأنه ليس فيه تأجيل البدلين؛ لأني لو قلت لك: أبيعك سيارتي الجيب ذات اللون أسود بمائتي ألف، تقول: قبلت، وتفرقنا، وتم البيع الآن أنا أجلت هذا الثمن، قلنا: لا حرج، لأنك أجلت الثمن لكنك لم تؤجل العين؛ لأن العين ليست في الذمة، فالمحرم هو تأجيل الثمن والمثمن، وهنا ليس فيه تأجيل مثمن، أجل الثمن لكن لم يؤجل المثمن.
الصورة الثانية: وهو في الذمة، لو قلت لك: أبيعك سيارة موديل ألفين وأحد عشر، نوعها كامري، ولونها أبيض، وارد عبد اللطيف جميل ، أو وارد خليل، قلت أنت: قبلت، بكم؟ قلت: بمائتي ألف، ولكنك بعد يوم أو يومين أو شهر لم تسلمني الثمن في نفس العقد، وتفرقنا، ففي هذه الحال لا يصح البيع، لماذا؟ لأن الثمن مؤجل والمثمن مؤجل؛ لأنه موصوف غير معين، فهذا هو في الذمة.
إذاً: الموصوف غير المعين مال، ولهذا لو قلت لك: أنا أشتري منك براً، نوع كذا، بريمي، لمدة سنة، إذاً أنا أعطيتك مالاً وأنت ملتزم لي ببر بمواصفات معينة، البر الموصوف هذا مال أو ليس بمال؟ مال.
ولهذا قال المؤلف: (مبادلة مال) هذا المال ممكن أن يكون معيناً ويمكن أن يكون غير معين وهو الذي في الذمة، وهذا مراد المعين، ولهذا قال المؤلف: (مبادلة مال ولو في الذمة).
قال المؤلف رحمه الله: (بقول أو معاطاة)، فيه دلالة على أن البيع يحصل بالقول ويحصل بالفعل، يحصل بالقول بأن أقول: بعتك سيارتي، أو أذهب إليك وأقول: أعطني خبزاً بريال، فتعطيني خبزة أو خبزتان أو أربعاً، فأعطيتك النقد، فتقول: قبلت، هذا قوله، والمعاطاة إما أن تكون بمعاطاة المتبايعين أو أحدهما، فأقول: عندك خبز بريال، فأخذت تعطيني الخبز وأعطيك أنا ريالاً وأمشي، فهذا يسمى معاطاة من طرف واحد، أو أسكت وأدخل المخبز وأدفع الريال وآخذ حبتين من الخبز وأخرج، هذا يسمى معاطاة من الطرفين، فهذه المبادلة تحصل بقول وتحصل بمعاطاة.
قال المؤلف رحمه الله: (أو منفعة مباحة) المباح هنا لا بد أن يكون مطلقاً، يعني: لا يباح في وقت دون وقت، كجلد الميتة قبل الذبح عند الحنابلة والمالكية؛ لأن الحنابلة والمالكية يرون أن جلد الميتة لا يطهر بالدباغ، ويباح استعماله في اليابسة.
ولنفرض أن بين المسجد وبين الحي أرضاً، فلو بنيت هذه الأرض لعجز الناس أن يصلوا إلى المسجد، فجاء صاحب الأرض، فقال له صاحب المسجد: أعطني هذا الممر حتى يمر الناس، أعطني للانتفاع به، قال: قبلت، أنا أعطيك إياه للانتفاع به، فالآن الذي يملك الأرض هو صاحبها، لكنه باع المنفعة، وهذا مثلما حصل لـعثمان رضي الله عنه في البئر حينما اشتراها من اليهود وجعل نفعه للمسلمين، فهذا منفعة.
قال المؤلف رحمه الله: (كممر في دار أو غيرها بمثل أحدهما)، قوله: (بمثل أحدهما) الباء هنا صارت الثمن، يعني بمثل المالية وبمثل المنفعة، والمالية إما أن تكون عيناً وإما أن تكون ديناً، ولو في الذمة.
الصورة الأولى: بيع عين بعين: مثلاً أبيعك سيارتي بسيارتك المعينة، أو أبيعك سيارتي بمائة ألف ريال، هذه عين بعين.
الصورة الثانية: عين بدين، أبيعك سيارتي بمائة ألف بعد سنة، هذه تسمى عيناً بدين، أو أبيعك سيارتي بمائة ألف صاع من البر بعد شهر، هذه عين بدين.
الصورة الثالثة: عين بمنفعة مباحة شرعاً، أبيعك مائة ألف حاضرة بأن تعطيني منفعة شقتك التي في الحرم كل رمضان، هذه عين بمنفعة مباحة، هذه ثلاث صور.
الصورة الرابعة والخامسة: ثم نأخذ الدين: بيع دين بعين، مثل السلم، أبيعك مائة صاع بر بعد سنة بمائة ألف حاضرة، هذه تسمى بيع دين بعين.
بيع دين بدين، أبيعك مائة صاع بر بمائة ألف التي في ذمتك، لكن قال المؤلف: (بيع دين بدين) يشترط فيه: الحلول والتقابض قبل التفرق، لماذا؟ لأن الدين بالدين المؤجل بالمؤجل صار داخلاً في نهي النبي صلى الله عليه وسلم على فرض صحته وهو ضعيف: ( نهى عن بيع الكالئ بالكالئ )، فلا بد أن يكون أحدهما مقبوضاً في مجلس العقد، فإذا كان أحدهما مقبوضاً في مجلس العقد فلا بد أن يكون حالاً، مثاله: أنا الآن أطلب علياً مائة ألف ريال في ذمته، فعندما حل الدين، قال لي: ما رأيك أن أعطيك بدلاً منه ثلاثين ألف دولار، أو أربعين ألف دولار، قلت: قبلت، قال: إذاً بعد أسبوع أعطيك إياه، هل يجوز؟ لا يجوز، لماذا؟ لأنه صار بيع دين بدين مؤخر، لكن لو قلت له: لا بأس، فأعطاني الثلاثين أو الأربعين ألف دولار فهذا جائز؛ لأنه بيع ما في ذمته بأربعين ألف دولار، فصار بيع دين بدين لكن اشترط فيه الحلول، هل هو الدين أربعون ألفاً معينة بهذه؟ لا، لكن الذي أتى به سلم على البنك وكتب شيكاً مصدقاً بأربعين ألفاً، فهذا يسمى بيع دين بدين اشترط فيه الحلول والتقابض.
أو قال لي: ما رأيك يا عبد الله ! المائة ألف التي في ذمتي أعطيك بدلاً منها السيارة هذه، هذه تسمى بيع دين بعين، لكن لو قال: ما رأيك يا عبد الله المائة ألف ريال أعطيك بدلها سيارة نوعها كامري موديلها ألفان وأحد عشر، ولونها أبيض، فهذا بيع دين بدين، ويشترط فيه الحلول والتقابض بمجلس العقد.
أقول: أبيعك كتاباً موصوفاً في الذمة بكتاب موصوف في الذمة، لكن لا يشترط فيه قبض أحدهما، لكن لو أجل كلا الطرفين فهذا بيع كالئ بكالئ، وهذا المنهي عنه عند الأئمة الأربعة، ويسميه المالكية: ابتداء دين بدين، ويسميه ابن تيمية : بيع الكالئ بالكالئ، ويسميه ابن القيم : بيع الواجب بالواجب، هذا منهي عنه، وأنا لي رأي في بيع التأجيل البدلين، فقط أنا ما أريد أن أذكره قبل أن أدخل في باب السلم.
وهذه الصورة يشترط فيها التقابض والحلول، ومعنى الحلول والتقابض: أنه لا بد أن يكون أحد الدينين حالاً، لأنه إذا لم يكن حالاً لا يبدل بالقبض، فهذا قوله: (بشرط الحلول والتقابض).
قال المؤلف رحمه الله: (دين بمنفعة): الآن في ذمتي مائة ألف ريال، قلت لصاحبها: ما رأيك المائة ألف ريال التي في ذمتي عوضاً عنها أعطيك شقتي التي في الحرم في رمضان تنتفع بها، هذا يسمونه: بيع دين بمنفعة.
الصورة السابعة: بيع منفعة بعين، قال لي واحد: أنا عندي يخت في البحر، من يأخذه يستأجره مدة يوم بعشرة آلاف ريال، قلت: أنا، فهذا يسمى بيع منفعة بعين، بهذا المعنى.
الصورة الثامنة: بيع منفعة بدين: علي عنده يخت، فقلت له: أريد أن آخذ يختك لكي أستفيد منه لمدة يوم، قال: أنت يا عبد الله ! تطلبني عشرة آلاف ريال في ذمتي، فهذا اليخت بعشرة آلاف التي في ذمتي، إذاً: هذه منفعة بدين. أو أنني أعطيت علياً مائة ألف ريال، أو عشرة آلاف ريال على أن يعطيني مائة صاع بر بعد شهر، الآن في ذمة علي مائة صاع بر، ولما حل الأجل أو قريباً من الحلول، قلت لعلي: عندك يخت؟ قال: نعم، قلت: أعطني إياه، قال: يا عبد الله ! أعطيك إياه بمائة صاع التي في ذمتي، فهذه تسمى منفعة بدين.
الصورة التاسعة: منفعة بمنفعة، أقول: أعطني شقتك التي في الرياض، قال: بشرط أن تعطيني شقتك التي في مكة أو في جدة، هذه تسع صور.
المؤلف لم يذكر إلا هذه الثلاثة أشياء: عين، دين، منفعة، وهذه هي المالية في زمانهم، أما اليوم فقد تغيرت المالية، فأصبحت المالية شيئاً آخر، ليست عيناً، ولا ديناً، ولا منفعة معينة، بل أصبحت حقاً مجرداً، وهذه هي التي يسمونها العلماء: الحقوق المجردة، فأنا لي حق أن أتقدم إلى المنافسة، وعقد المنافسة لحملة من المسابقات، فلي حق أن أتقدم، فيأتيني شخص ويقول: يا عبد الله ! لا تدخل في المسابقة التي هي حق لك، وأعطيك خمسة آلاف ريال، والآن الدولة عندها مشروع طريق بين جدة ومكة، وطلبت من الشركات تقديم عروضها، وأنا مثلاً شركتي قوية، فقلت: يا عبد الله ! لا تدخل، نحن نعرف أنك إذا دخلت فإن الدولة توافق عليك، بقوة مواصفاتك وقلة سعرك، نريد منك ألا تدخل في المنافسة هذه، قلت: يا أخي! هذا حق لي، قلت: نعم، هذا حقك، الآن نشتريه، فقلت: كم تعطوني ولا أدخل؟ فقالوا: نعطيك عشرة آلاف ريال، فأعطوني عشرة آلاف على ألا أدخل، الآن أنا بعت حقي المجرد الحقوقي، ولم أبع عيناً ولا منفعة ولا ديناً، فهذا لا بأس به.
ومنه ما يسمى ببيع الاسم في الشركات المساهمة، أو الاكتتاب في الشركات المساهمة؛ لأن هذا حق مجرد لي مخول، فالاسم في السابق ليس له قيمة، لكن الاسم الآن صار له قيمة، والعلامة التجارية صار لها قيمة، بمجرد أنك ترى علامة تجارية مثل (نستله) في منتج تعلم أن هذا المنتج له مواصفات معينة، لولاها لما وضعت هذه الشركة هذه العلامة، وباعت هذا الاسم، كذلك أسماء المطاعم الغربية، فأحياناً تأتي الشركة وتعطيك هذا الاسم بمقابل، كذلك الفنادق أحياناً لها اسم، على أن تصنع هذه المواصفات لبقاء هذا الاسم بمواصفاته. إذاً يسمى هذا حق مجرد، وبيعه صحيح.
وقد صدر قرار المجمع الفقهي الإسلامي المنبثق من منظمة المؤتمر الإسلامي بأن العلامة التجارية والحقوق المجردة لا بأس ببذلها وبيعها، لأن الحقوق لأصحابها، ومثل ذلك: حق براءة الاختراع ونحو ذلك.
وعلى هذا فالصور أربع: عين، دين، منفعة، حق مجرد، وإذا ضربنا أربعة في أربعة نتج ست عشرة صورة، على ما سبق تفصيله.
قال المؤلف رحمه الله: (على التأبيد).
يخرج بذلك بأن الإجارة بيع، ولكنه بيع منفعة ليست على التأبيد، وأما إذا كان على التأبيد فهو بيع منفعة، فعلى هذا فيفرق بين إجارة المنفعة، وبيع المنفعة، بأن يكون بيع المنفعة يملكها على التأبيد، وأما الإجارة فلا يملكها على التأبيد.
قال المؤلف رحمه الله: (غير رباً وقرض) لأن الربا وإن كان فيه أخذ وعطاء، لكنه لا يسمى بيعاً لوقوع الفساد فيه، قال تعالى: وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275].
والقرض وإن كان فيه معنى التمليك بأن يعطيك مالاً لتنتفع به وتتملكه، بحيث أن لك حق التصرف فيه، لكن المقصود به الإرفاق، فأنا أعطيتك هذا المال لترده لي، ولكن لا ترد عينه وإنما ترد بدله، ولهذا صار القرض وإن كان فيه معنى التملك لكن الواقع أن الأصل فيه أنه إرفاق.
الآن نحن نعطي أموالنا البنوك، هل نعطي البنوك أموالنا وديعة أم قرضاً؟ نعطيها قرضاً، ولو كان وديعة لما جاز للبنك أن يتصرف فيها، ولما جاز لنا أن نطالب البنك بأموالنا إذا فسد أو هلك أو احترق؛ لأنها وديعة، لكننا لنا حق أن نطالبه بأموالنا ولو هلك المال لأجل أن ذلك قد ثبت في ذمته، ومعلوم أننا حينما نعطي البنك هل نقصد انتفاع البنك؟ ما نقصده انتفاع البنك، ولكن هذا هو الأصل في القرض وإن كان في معنى التملك.
إذاً: البيع مبادلة مال في الذمة أو في المنفعة ولا يكون ربا ولا قرضاً؛ لأنه إذا وجد ربا صار ليس من البيع، بل يسمى ربا، والقرض أني أعطيك مالاً فلو قلت: من يبيع لي ريالاً وبعد يوم أعطيه ريالاً، فهل يجوز؟ لا يجوز؛ لأنه صار ربا، لكن لو قلت: من يعطيني ريالاً، أعطيه ريالاً، فهذا جائز، لأنه قرض، فالقرض شيء والبيع شيء آخر. إذاً: القرض عقد إرفاق وتبرع وليس عقد معاوضة، ولهذا متى وجدت المعاوضة فيه حرم، ولهذا صار كل قرض جر نفعاً صار ربا، والله أعلم.
بهذا نكون قد انتهينا من تعريف البيع، نسأل الله التوفيق والتسديد والله أعلم، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر