إسلام ويب

الروض المربع - كتاب البيع [2]للشيخ : عبد الله بن ناصر السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله بعباده أنه شرع لهم ما فيه عون لهم على أمور معاشهم، ومن ذلك: البيع، فينعقد بالإيجاب والقبول في المجلس، وإذا تراخى القبول صح البيع بشرط ألا يشتغل المتعاقدان بما يخرج عن أصل العقد، ويشترط في البيع التراضي، وإذا فقد هذا الشرط كان البيع موقوفاً على الرضا، ويصح بيع المكره إذا ألزم ببيع ماله لدفع ما عليه.

    1.   

    ما ينعقد به البيع

    بسم الله الرحمن الرحيم.

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبسًا علينا فنضل، وبعد:

    فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [(وينعقد) البيع (بإيجاب وقبول) بفتح القاف وحكي ضمها، ( بعده ): أي بعد الإيجاب، فيقول البائع: بعتك أو ملكتك أو نحوه بكذا، ويقول المشتري: ابتعت أو قبلت ونحوه، ويصح القبول أيضاً (قبله): أي قبل الإيجاب بلفظ أمر أو ماض مجرد عن استفهام ونحوه؛ لأن المعنى حاصل به ويصح القبول (متراخياً عنه): أي عن الإيجاب ما داما (في مجلسه)؛ لأن حالة المجلس كحالة العقد، (فإن تشاغلا بما يقطعه): عرفاً أو انقضى المجلس قبل القبول ( بطل )؛ لأنهما صارا معرضين عن البيع، وإن خالف القبول الإيجاب لم ينعقد، (وهي): أي الصورة المذكورة أي الإيجاب والقبول (الصيغة القولية) للبيع].

    بعد أن ذكر المؤلف تعريف البيع والمحترزات المترتبة على ذلك، أراد أن يبين ما هو البيع؟

    قال المؤلف رحمه الله: (وينعقد البيع بإيجاب وقبول) وهذه تسمى الصيغة، وهي أعظم ركن من أركان البيع، بل عد الحنفية رحمهم الله أن ركن العقد إنما هو الصيغة، في حين أن الجمهور من أهل العلم كالحنابلة والشافعية والمالكية: رأوا أن أركان البيع هو جزؤه الذي لا يمكن أن ينفصل عنه، ولو لم يكن من الماهية، لكنه لا يمكن أن يوجد إلا به، فقالوا: هي: الصيغة والعاقدان والمحل.

    انعقاد البيع بالقبول بعد الإيجاب

    ثم شرع المؤلف في بيان أعظمها، وهي الصيغة، والعقد إنما يتم بالصيغة، فقال: وينعقد) البيع (بإيجاب وقبول ومعنى الإيجاب والقبول: هو أن يقول البائع: بعتك بكذا. ويقول المشتري: قبلت، وكل لفظ دل على البيع أو دل على الشراء من المشتري فإنه يحصل به الصيغة، وبمجرد وجود الإيجاب والقبول يتم البيع، ولا علاقة لثبوت البيع بقبض الثمن أو المثلة، بمعنى: لو أنني اتصلت على عبد العزيز وقلت له: سيارتك تبيعها بكم؟ يقول: بعتك سيارتي بمائة ألف، فقلت أنا: قبلت، ثم أقفلت السماعة. الآن حصل إيجاب وقبول وتم البيع، وعلى هذا فلا يجوز لعبد العزيز أن يبيع السيارة؛ لأنها ليست في ملكه شرعاً، وعلى هذا فمتى حصل القبض مني جاز لي أن أبيعها إلى الطرف الآخر على المشتري، وإذا لم أربح فيها جاز لي أن أبيعها ولو كانت عند عبد العزيز، على الخلاف الذي سوف نذكره إن شاء الله، لكن أكثر الناس يفهمون أنه ما تم البيع؛ لأنك ما أعطيت الثمن ولا قبضت السيارة. لا علاقة بالقبض أو الثمن أو المثل؛ لأنه بمجرد وجود الصيغة التي هي الإيجاب والقبول تم البيع، وهي أعظم ركن من أركان البيع.

    وبقولي: اشتريت السيارة، حصل جميع الأركان عند جميع الأئمة، حصلت الصيغة وحصل المحل وهي السلعة، وحصل الركن الثالث وهو العاقدان.

    وقول البائع: بعتك أو أي كلمة مثلها: مالكتك أو خذ هذه السلعة بكذا، أو استلمها بكذا، أو هي لك بكذا، أو خذها من المحل بكذا، يعتبر إيجاباً من البائع، وقول المشتري: قبلت، أو أخذتها، أو استلمتها، أو هي علي بكذا، أو ما يفيد ذلك يعد قبولاً، وهذا مذهب الجمهور، فيجعلون كل ما يتلفظ به البائع متقدماً أو متراخياً عما يقوله المشتري يعد إيجاباً منه، وكل ما يقوله المشتري متقدماً عن البائع أو متأخراً عنه يسمى قبولاً، وعليه فيجوز أن يكون الإيجاب من البائع متأخراً، مثل أن أقول لعبد العزيز: بع لي سيارتك بمائة ألف، فيقول عبد العزيز : قبلت، الآن القبول صار من المشتري أم من البائع؟ من البائع، ومع ذلك يسمى كلام عبد العزيز إيجاباً، ويسمى كلامي قبولاً، هذا مذهب الجمهور.

    أما أبو حنيفة فيقول: الإيجاب هو الأول، سواء كان من البائع أو من المشتري، والقبول هو الثاني: سواء كان من البائع أو المشتري، والخلاف في ذلك لفظي، إلا أن الجمهور الذين قالوا: إن الإيجاب هو من البائع والقبول هو من المشتري، قالوا بعد أن ذكروا ما معنى الإيجاب والقبول بفتح القاف أو ضمها، يكون قَبولاً أو قُبولاً كلاهما لغتان، قالوا: يجوز أن يكون الإيجاب متأخراً عن القبول، معناه يجوز أن يكون كلام البائع تالياً لكلام المشتري بشروط.

    انعقاد البيع بالإيجاب بعد القبول

    قال المؤلف رحمه الله: (ويصح القبول قبله)، يعني: يصح أن يكون القبول من المشتري أولاً، أي: قبل الإيجاب من البائع، بأمور:

    أولاً: قال المؤلف رحمه الله: (بلفظ أمر)، مثل أن يقول المشتري: بعنيه بمائة ألف، هذا بلفظ الأمر.

    ثانياً: قال المؤلف رحمه الله: (أو الماضي المجرد عن الاستفهام): اشتريته بمائة ألف، هذا ماضي.

    اشتريته مجرداً عن الاستفهام أم ليس مجرداً؟ مجرداً، أما مع الاستفهام مثل أن تقول: اشتريته بمائة ألف، هذا استفهام، قالوا: فإذا كان استفهاماً مجرداً فإنه لا يمكن أن يكون قبولاً، لأنه ربما لا يقصد البيع، لكن يقصد الاستفسار، فلا يوجب بذلك.

    ثالثاً: قال المؤلف رحمه الله: (ونحوه) يعني كل ما يدل على وجود شيء يدل على عدم وجود زمن يدل على هذا الحدث، مثل التمني والترجي، لعلك بعت لي بمائة ألف، حبذا لو اشتريته بمائة ألف، هذا مذهب الحنابلة، أن الاستفهام أو التمني أو الترجي لا يعد قبولاً من المشتري، يقولون: لأن المعنى بالماضي والأمر حاصل به، يعني حاصل مجرد القبول، أما التمني والترجي والاستفهام فإنه ربما يكون غير حاصل، هذا مذهب الجمهور.

    والقول الثاني في المسألة: أن الاستفهام الداخل على الماضي إذا وجد عرفاً يفيد القبول وتعارف الناس على ذلك فلا حرج؛ لأن الله سبحانه وتعالى أمر بالبيع وأحله، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ [الجمعة:10]، وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، ولم يبين الله سبحانه وتعالى ولا رسوله صلى الله عليه وسلم لفظاً خاصاً لا يجوز البيع إلا به، فدل على أن كل ما أطلقه الشارع وأفاد معنى البيع أو معنى العقد جاز التعاقد عليه، والله أعلم، وهذا مذهب الجمهور خلافاً للشافعية، ولهذا الجمهور يرون أن العبرة في العقود بالمعاني والمقاصد لا بالألفاظ والمباني، أما الشافعية فيجعلون بصيغة الاستفهام، فيقولون: هل العبرة في العقود بالمعاني والمقاصد، أم بالألفاظ والمباني؟ لأنهم يهتمون بالألفاظ أكثر من أئمة المذاهب، والحنابلة يقيدون في الألفاظ في بعض المسائل دون بعض، كعقد النكاح، وعقد السلم في إحدى الروايتين. والله أعلم.

    انعقاد البيع بتراخي القبول عن الإيجاب

    قال المؤلف رحمه الله: (متراخياً عنه) يعني: ويصح القبول متراخياً عن الإيجاب، يعني لو أن محمداً قال لي: بعتك بيتي بمليون ريال، فقلت: ما شاء الله وأنت اشتريت منزلاً، قال: نعم، اشتريته في حي الفلاح، قلت: حي الفلاح أين؟ قال: حي الفلاح الذي ما فيه مخرج سبعة، قلت: الذي في جوار الجامعة؟ قال: نعم، ثم قلت: قبلت. الآن كلامي تم القبول أم لم يتم القبول؟ تم القبول، في المجلس أم ليس في المجلس؟ متراخياً أم متعقباً؟ متراخياً، وقلنا مع ذلك: جائز، فإذا جاز متراخياً عنه بما لا يشتغل عنه في الغالب؛ لأن كل الكلام الذي قلته لم يخرج عن أصل البيع بل هو متصل به، ومع ذلك صح البيع.

    1.   

    شروط القبول في البيع

    قال المؤلف رحمه الله: (ما داما في مجلسه لأن حالة المجلس كحالة العقد)، يعني: ما داما أنهما في المجلس فكأن هذا المجلس هو العقد، وهو ما زال موجوداً في الإيجاب والقبول.

    قال المؤلف رحمه الله: (فإن تشاغلا بما يقطعه عرفاً أو انقضى المجلس قبل القبول بطل) يعني بطل الإيجاب، فلو قال: قبلت بعد أن انقضى المجلس أو تشاغلا بما يقطعه غالباً فإنه يعد القبول لم يوافق إيجاباً، ولهذا نشترط في القبول شروطاً:

    الشرط الأول: أن يتقدم الإيجاب عن القبول، ويجوز تقدم القبول عن الإيجاب بلفظ الأمر وبلفظ الماضي المجرد، والقول الثاني: يجوز التقدم بكل ما يدل عليه اللفظ وتعارف الناس عليه.

    الشرط الثاني: أن يتم القبول قبل التفرق، أو بما لم ينشغلا عنه، فإن حصل التفرق لم يتم البيع، فلو زارني علي في بيتي، وقال: استراحتك أتبيعنيها بمائة ألف؟ فقلت: قبلت بلفظ المضارع المستفهم، أو استفهام المضارع، هذا اختلف فيه العلماء، والذي يظهر -والله أعلم- أن قول المضارع الذي فيه استفهام يعد نوعاً من القبول، أو نوعاً من الإيجاب، مثل أن يقول: أتشتريه مني بمائة ألف؟ فقلت: قبلت، فإن هذا يصح، والله أعلم.

    فلو قال: أتبيعنيه بمائة ألف؟ فضحكت، ثم ذهبت فدخلت بيتي وجئت بالشاي، ثم قلت: قبلت، فلا يصح؛ لأنه انقضى المجلس، أما لو لم ينقض المجلس، وأنا لم أخرج، لكني تشاغلت، مثلاً تكلم معي عن السيارة، ثم تكلمت معه عن الأسهم، ثم انتقلنا إلى قضية ليبيا، ثم بعد ليبيا قضية تونس، ثم قلت: قبلت، فلا يصح؛ لأننا خرجنا بما يتشاغل عنه في الغالب.

    لما انتهى المؤلف من هذا قال: (بطل) يعني بطل الإيجاب، فيكون القبول لم يصادف إيجاباً معتبراً، وكأنهما كانا معرضين عن البيع، ويعلل أيضاً بأن القبول لم يصادف إيجاباً معتبراً.

    الشرط الثالث: قول المؤلف: (وإن خالف القبول الإيجاب لم ينعقد) وهذا هو الشرط الثالث من شروط الإيجاب والقبول: موافقة القبول الإيجاب، ومعنى الموافقة: أن يكون الإيجاب متوافقاً مع القبول في النقد والأجل والحلول، فلو قلت: أبيعك بمائة ألف، فقلت: قبلت بثمانين ألفاً، هل صادف القبول الإيجاب؟ لا، خالفوا في القدر، لو قلت: أبيعك بمائة ألف حالاً، فقلت: بمائة ألف مؤجلة، فلم تتم الموافقة، ولو قلت: أبيعك بمائة ألف ريال سعودي، فقلت: بمائة ألف ريال يمني، فلم يوافق القبول؛ لأن القيمة تختلف.

    وعلى هذا فلا بد أن يصادف قبولاً موافقاً له في القدر والصفة والنقد والحلول والأجل.

    1.   

    أنواع الصيغة في عقد البيع

    قال المؤلف رحمه الله: (وهي) يعني الإيجاب والقبول، (هي الصيغة القولية)، الصيغة عند العلماء كما ذكر المؤلف نوعان:

    النوع الأول: صيغة قولية: وهي ما يتلفظ به المتعاقدان، وبكل لفظ دل على البيع أو الشراء تسمى صيغة قولية.

    النوع الثاني: الصيغة الفعلية، وهي ما تسمى عند المؤلف وعند العلماء: بالمعاطاة.

    قال المؤلف رحمه الله: [وينعقد أيضاً (بمعاطاة وهي) الصيغة (الفعلية)، مثل أن يقول: أعطني بهذا خبزاً فيعطيه ما يرضيه، أو يقول البائع: خذ هذا بدرهم فيأخذه المشتري، أو وضع ثمنه عادة وأخذه عقبه، فتقوم المعاطاة مقام الإيجاب والقبول للدلالة على الرضا لعدم التعبد فيه، وكذا حكم الهبة والهدية والصدقة، ولا بأس بذوق المبيع حال الشراء].

    المعاطاة هي النوع الثاني من أنواع الصيغة، وهي الصيغة الفعلية، وهي نوعان:

    النوع الأول: عدم التلفظ بالبيع أو الشراء من المتعاقدين.

    النوع الثاني: أن يكون أحد المتعاقدين قد تلفظ والآخر لم يتلفظ، والمؤلف ذكرهما جميعاً، مثل أن يقول البائع: أبيعك بمائة ألف، فيعطيه مائة ألف ويأخذها، الآن فهذه معاطاة من المشتري، لو قال المشتري: خذ هذا الجوال بألف ريال، فأخذ البائع الألف، وأعطاك الجوال، فهذه معاطاة من البائع قبول لفظي من المشتري، أو أن تحصل المعاطاة بهما جميعاً، يدخل المحل فيضع مبلغاً من الثمن ويأخذ بضاعته ولم يتلفظ كل واحد منهما، وعلى هذا المحلات الموجودة الآن كالببسي مثلاً: فيها نوع من المعاطاة منهما جميعاً، ولو لم يحصل تلفظ منهما، فيسمى هذا من المعاطاة، ولو وقفت عند محطة البنزين وأشرت إلى صاحب المحل بإشارة عشرة أو بإشارة فل، فعبأ وأعطيته بناءً على النظر للرقم الموجود في جهاز البنزين، فإن ذلك يعد معاطاة.

    1.   

    بيع المعاطاة

    وبيع المعاطاة جائز عند جمهور الفقهاء خلافاً للشافعية، فإنهم لا يصححون العقد بالمعاطاة إلا بأن يتلفظا جميعاً.

    مثلاً محطة البنزين لو وقفت وأشرت له بيدي فعبأ بعشرين، وأعطيته العشرين، على مذهب الشافعي لا يصح، وله ثمن المثل، فالثمن المثل موجود والبنزين موجود، مثلاً ستين هللة لكن محطة البر بتسعين أو بمائة، فلو أنك ملأت على مذهب الشافعية قلت: لا والله هذا ما هو بتسعين أنا أريده بستين، وهذه فائدة التكييف الفقهي لطالب العلم، والصحيح أن المعاطاة تنعقد سواء كان بأمر بسيط أو قليل.

    والآن عقود وكالات التوزيع في السيارات، أكثرها يتم بالمعاطاة، بناء على رقم فاكس وتحويلة اعتماد، وشراء سيارات بالملايين، لم يتلفظ أي واحد منهما بذلك، مجرد أنه يستلم بوليصة التأمين من الشاحنة، أو يستلمها الكونتينر يتم الإيجاب والقبول، ولو بطل البيع لأصبح الناس في ضرر عظيم، ولهذا قال المؤلف: (فتقوم المعاطاة مقام الإيجاب والقبول للدلالة على الرضا).

    ولهذا مما يدل على ذلك أن الله أحل البيع ولم يبين لنا كيفيته، فوجب الرجوع في كل ما أطلقه الشارع إلى العرف، كما أرجعنا إليه في القبض والإحراز والتفرق، والمسلمون في أسواقهم لم يشترطوا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في عهد من جاء بعدهم نصاً لا يصح البيع إلا به، ولم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عند أحدٍ من الصحابة أنه اشترط لفظاً لا يصح العقد إلا به، والله أعلم.

    ولهذا فإن الصحيح في كل لفظ دل على البيع سواء أكان بلفظ الأمر أو بلفظ الماضي المجرد أو بلفظ المضارع أو بلفظ الماضي الداخل عليه الاستفهام إذا دل عليه عرف قائم فإن ذلك لا بأس.

    فالآن العبارات بلغة الناس اختلفت، فربما يكون في بلد له معنى وفي بلد آخر له معنى آخر، فإذا وجد عرف قائم فإنه يصح.

    1.   

    شروط البيع

    قال المؤلف رحمه الله: [(ويشترط) للبيع سبعة شروط].

    اختلاف العلماء في شروط البيع من حيث دمجها وتفصيلها

    لا بد لطالب العلم أن تكون هذه الشروط مستحضرة بين عينيه في كل معاملة، وإلا فلا يستطيع أن يفهم البيع، والعلماء يختلفون في عدها، فبعضهم يجعلها ستة شروط بأن يجعل الثمن والمثمن شرطاً، وبعضهم يجعلها أربعة شروط بأن يجعل المأخوذ عليه شرطاً وأن يكون مقدوراً على تسليمه، وشرط أن تكون العين مباحة من غير حاجة شرطاً واحداً، ويضم الثمن والمثمن، فتكون حينئذ خمسة شروط، وبعضهم يجعل الثمن والمثمن ومعلومية العين شرطاً واحداً، بأن يكون مالاً معلوم القدر، مقدوراً على تسليمه موجوداً، فيضم بعض الشروط في بعض.

    على كل حال هذه الشروط لا يمكن أن تخرج عن معنى سبعة شروط، سواء ضمت بعضها في بعض وأدمجت أم لم تدمج، ولعل تصنيف الحنابلة في هذا أسهل من غيرهم من الشافعية والمالكية والحنفية.

    وهذه الشروط عرفت بالاستقراء، وكما قلت في المذهب: لهم تعداد، لكنهم لا يخرجون عن هذه الأشياء، وإن اختلفوا في تحقيق المناط، مثلاً: يتفقون على أنه يشترط في البيع أن يكون من مالك، أو من يقوم مقامه، لكنه لو حصل البيع من غيرهما فإن العلماء اختلفوا، فبعضهم يبطله كالحنابلة والشافعية، وبعضهم يوقفه كالحنفية والمالكية ورواية عند الحنابلة، كما سوف يأتي بيانه، فهذا يتفقون عليه في الجملة ويختلفون في تفاصيلها.

    إذاً: عرفنا هذه الشروط السبعة بالاستقراء، وكل مذهب ربما يدمج بعض الشروط في بعض وهم يختلفون في صيغ هذه الشروط، لكن الشروط عند الحنابلة أظهر وأكثر تفصيلاً.

    الشرط الأول: التراضي

    ذكر المؤلف الشرط الأول بقوله: [أحدها: (التراضي منهما) أي من المتعاقدين، (فلا يصح) البيع (من مكره بلا حق)؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( إنما البيع عن تراض )، رواه ابن حبان ، فإن أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه صح؛ لأنه حمل عليه بحق، وإن أكره على وزن مال فباع ملكه كره الشراء منه وصح].

    اشترط العلماء رحمهم الله التراضي في البيع، لقول الله تعالى: إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ [النساء:29]، لكن عدم وجود هذا الشرط هل يؤثر على العقد من عدمه؟ اختلف العلماء.

    إذاً: كلهم يأمر بالتراضي، لكن الخلاف فيما بين الأئمة هو في أثر الاختلاف في عدم وجود الرضا، هل يؤدي إلى بطلان البيع، أم يؤدي إلى فساده دون بطلانه، أم يؤدي إلى أن العقد يكون موقوفاً على رضا من وقع منه الإكراه؟

    اختلف العلماء على ثلاثة أقوال:

    القول الأول: ذهب الحنابلة والشافعية إلى أن من شروط العقد التراضي، وإذا حصل إكراه من البائع على المشتري أو من المشتري على البائع فإن العقد يعد باطلاً، فلو رضي المكره بعد ذلك فلا بد من إعادة العقد، ومعنى إعادته بمعنى إيجاب وقبول متراضيان فيه، وعلى هذا فالعقود التي تحصل بالإكراه باطلة.

    القول الثاني: أما أبو حنيفة فإن له تفصيلاً في الفرق بين العقد الباطل والعقد الفاسد، فقال أبو حنيفة : العقد الباطل هو العقد الذي يخالف أصله ووصفه، أي: ما لم يكن مشروعاً في أصله ووصفه، ومعنى أصله أي اختل أحد أركانه، أو وصفه مثلاً في الأجل، في الجهالة، في الربا، يرى أبو حنيفة أنه يكون فاسداً، ومعنى الفساد عند أبي حنيفة : أن العقد يملكه المشتري بالقبض، ولكنه يجب عليه أن يعيده ليصححه، هذا معنى أثر الفساد عند أبي حنيفة ، فـأبو حنيفة يرى أن ما يملكه الغاصب يملكه المكره بالقبض، لكن يجب عليه أن يصححه، فنماؤه وزيادته بيد الغاصب للمكره، لأنه كان تحت يد المكره وقبضه بعقده، فهو بيد المكره فيكون نماؤه له؛ لأنه عقد فاسد.

    القول الثالث: ومالك رحمه الله وهو رواية عند الإمام أحمد يرى أن العقد الذي فيه إكراه موقوف، فإن رضي المكرَه صح البيع ونماؤه بعد الرضا للمكرِه، وقبل الرضا للمكرَه، ولعل هذا القول أظهر لأمور؛ وذلك لأن المنع من العقد إنما هو لحظ المكره، فإن رضي بعد ذلك زال المانع من انعقاد البيع، ومما يدل على صحة العقد الموقوف على الرضا قوله صلى الله عليه وسلم: ( لا تلقوا الجلب، فمن تلقاه فاشترى منه، فإذا أتى سيده السوق فهو بالخيار )، وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أوقف عدم لزوم البيع إلى حين بلوغ المتلقى وهو السوق. وإن كان هذا يسمى عند العلماء بخيار الغبن، لكنه أيضاً يؤخذ منه كأنه عقد موقوف إلى رضاه، وهذا يدل على أن عقد الإكراه غير لازم، فيخير العاقد بين إمضاء العقد وفسخه، ولأن الأصل في المعاملات هي الحل، وعدم وجود الرضا لا يلزم منه بطلان العقد ولكنه يكون موقوفاً، والله أعلم.

    دليل اشتراط التراضي من المتعاقدين على صحة عقد البيع

    قال المؤلف رحمه الله: [لقوله صلى الله عليه وسلم: إنما البيع عن تراض] نقول: هذا صحيح، فلا يثبت البيع إلا بتراضيهما، والحديث: ( إنما البيع عن تراض )، ذكر المؤلف أنه رواه ابن حبان ، والحديث يرويه عبد العزيز بن محمد الدراوردي ، عن داود بن صالح التمار ، عن أبيه صالح التمار ، عن أبي سعيد ، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي تكلم فيه، وإن شاء الله أن هذا الحديث لا بأس به؛ لأن عبد العزيز بن محمد الدراوردي تكلم الحفاظ فيه، ولعل هذا مما ضبط فيه عبد العزيز والله أعلم.

    أنواع الإكراه في البيع

    ثم قال المؤلف بعد أن أراد أن يبين أن الإكراه على مذهب الحنابلة باطل، قال: ولكن الإكراه على نوعين: إكراه بحق، وإكراه بغير حق، فإن كان إكراهاً بغير حق كان العقد باطلاً، وإن كان إكراهاً بحق -كأن يكره الحاكم الغريم ببيع ماله، فإن أبى باعه الحاكم- كان العقد صحيحاً؛ لأنه لمصلحة الغرماء، ولهذا قال المؤلف: (فإن أكرهه الحاكم على بيع ماله لوفاء دينه صح) لماذا؟ (لأنه حمل عليه بحق)، سواء رضي أم لم يرض، ولا بأس بالشراء.

    إذاً: هذا يوجد مثل ما يسمونها الآن عندنا بتصفية شركات المساهمة، أو الشركات العقارية فإنه بيع بإكراه؛ لأن صاحب المساهمة لا يريد البيع، فيباع لأجل إعطاء المساهمين حقوقهم، فيكره، كذلك التصفية بالإجبار، إذا صار فيه تركة بين الأولاد وبعض الأولاد يريد أن يبيع، وبعض الأولاد ما يريد أن يبيع، ففي هذه الحال لازم أن يعطى حقوقه فيبيع الحاكم بإكراه على من لم يرض بالبيع لإعطاء الناس حقوقهم، هذا يسمى إكراهاً بحق فيصح.

    الفرق بين إكراه الإنسان على بيع عين وإكراهه على بيع عين لدفع مال

    والمؤلف فرق بين مسألتين، بين أن يكره إنسان على بيع مال معين وبين أن يكره على دفع مال، فيضطر إلى بيع شيء ليعطي هذا المال، الآن هل الإكراه حصل على المعقود عليه أم حصل على شيء آخر؟ حصل على شيء آخر. قال المؤلف: فإن حصل الإكراه على شيء معين بغير حق بطل العقد، وإن أكره على غير المعقود عليه بل على ثمن فاضطر إلى بيع ماله ليعطي هذا الثمن فإنه لا يسمى إكراهاً في البيع، ولهذا قال: (وإن أكره على وزن مال)، يعني مبلغاً من المال، وهذا عندما كانت النقود توزن، لكن لو قلنا: وإن أكره على مبلغ من المال، وليس عنده فاضطر إلى بيع ملكه، الآن بيع الملك اضطراراً لدفع الثمن صح، قال: (كره الشراء وصح)، أما صحته فلأنه لم يكره على البيع، إنما أكره على دفع الثمن، فصح العقد، وأما قول المؤلف: (وكره الشراء)؛ لأنه بيع مضطر، هذا مذهب الحنابلة، كره الشراء؛ لأنه اشتراه من مضطر فكره.

    والقول الآخر: أن ذلك ليس بمكروه، وهذا هو اختيار ابن تيمية رحمه الله، بل يقول ابن تيمية : بل يؤجر على ذلك لو أننا أكرهنا، قلنا: إن البيع مكروه، كيف ينفك الإنسان من مغبة هذا الإكراه؟ ولهذا نقول: الأقرب أن ذلك لا بأس به؛ ولأن الناس لو امتنعوا من الشراء لوقع المكره في حرج وضيق ومشقة، والله أعلم.

    وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767952805