الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وسلم تسليماً كثيراً, أما بعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ الشرط الثاني: أن يكون العاقد وهو البائع والمشتري جائز التصرف أي: حراً مكلفاً رشيداً فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي، فإن أذن صح؛ لقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، أي: اختبروهم, وإنما يتحقق بتفويض البيع والشراء إليه, ويحرم الإذن بلا مصلحة، وينفذ تصرفهما في الشيء اليسير بلا إذن, وتصرف العبد بإذن سيده ].
هذا هو الشرط الثاني من شروط البيع، وهو شرط لأحد أركان العقد على مذهب الجمهور، وذلك أن الجمهور يرون أن أركان العقد: الصيغة, والعاقدان, والمحل، وهذا الشرط شرط لأحد أركان العقد وهو العاقدان.
فمن شروط العاقد: أن يكون جائز التصرف، ومعنى جائز التصرف أي: يصح تصرفه شرعاً.
قال المؤلف رحمه الله: (أن يكون العاقد)، ولو قال: أو من يقوم مقامه لكان أحسن؛ لأن العاقد إما أن يكون البائع أو وكيله، أو المشتري أو وكيله، فلا بد أن يكون هؤلاء الأربعة جائزي التصرف.
الأول: أن يكون حراً، وضده غير الحر؛ لأن العبد ملك لسيده ولا يصح تصرفه وإنشاء الفعل إلا بإذن سيده، وأما الحر فهو يملك ماله، ( ولا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ).
الثاني: أن يكون مكلفاً، والمكلف هو: البالغ العاقل؛ لأنه يمكن أن يكون بالغاً لكنه غير عاقل كالمجنون، ويمكن أن يكون عاقلاً لكنه غير بالغ كالصبي المميز، فلأجل هذا لا بد أن يتوفر فيه التكليف وهو البلوغ والعقل، فالمجنون لا يصح تصرفه مطلقاً بإذن وليه أو بغير إذنه؛ لأن تصرفه ليس مناطاً بالمصلحة، ولا تتأتى المصلحة إلا بأن يدرك معناها, والمجنون فاقدها.
أما الصبي المميز فإنه عاقل, وإنما منعنا من صحة تصرفه خوفاً من نقص هذه الأهلية ويرتفع الخوف من نقصها بإذن وليه، وإن لم يأذن وليه حصل فيها نقص وقصور، ومن باب التشاح في حقوق العباد لم تصح هذه المعاملة.
وصحة تصرف الصبي المميز بإذن وليه هو مذهب الجمهور خلافاً للشافعية؛ وقالوا: وإن كان الصبي غير بالغ، وقد رفع عنه القلم إلا أن الشرع جاء بصحة تصرفه؛ قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ [النساء:6]، قالوا: والابتلاء هو الاختبار، ولا يتأتى الاختبار إلا بأن يعطى شيئاً من المال يتصرف فيه حتى ينظر كمال تصرفه للمصلحة.
وهذا دليل على أن الإعطاء من الأولياء دليل على الإذن، وأن تصرف الصبيان بهذا المال دليل على نوع العقل، ومع الإذن والعقل دل على صحة التصرف.
وهذا هو الراجح؛ وهو أن تصرف الصبي المميز غير البالغ لا بد فيه من إذن وليه إلا أن الإذن ينبغي أن يكون على نوعين:
النوع الأول: إذن صريح، مثل: أن يقول الولي لابنه أو للصبي المميز: خذ هذا المال وبايع فلاناً والمشتري يرى أو يسمع, أو اشترِ من فلان والبائع يرى أو يسمع, فهذا في حق البائع مع المشتري الصبي أو في حق المشتري مع البائع الصبي إذن صريح.
النوع الثاني: الإذن الضمني وهو: أن يبقيه في البقالة, ويسمى البقال عند علماء اللغة بالفامي.
فالفاكهي صاحب الفاكهة، واللحام صاحب اللحم، وصاحب البقالة يسمى بقالاً أو فامياً، فإذا وضع الفامي صبيه في البقالة أو في المحل فهذا نوع إذن من وليه، فلا حاجة أن يأتي المشتري العاقل البالغ فيرى هذا الصبي في البقالة فيقول: لم أسمع إذناً صريحاً من صاحب الملك، خاصة وأن الصبيان المراهقين ربما يتصرفون أفضل من تصرف أوليائهم، واذهبوا إلى سوق الخضرة وسترون أن الصبيان المراهقين يرتفعون أعالي السيارات الكبيرة ويفاوضون أصحابها وتتم الصفقة، والأب في السيارة ينتظر التحصيل، هذا هو الواقع، فهذا يدل على أن هذه التصرفات تعتبر إذناً, فلو حصل خلل في البيع أو الشراء وقد باع بالمثل فلا يسوغ لوليه أن يعترض بأنه لم يكن ثمة إذن صريح من قبله؛ لأن الابتلاء هو أن يفهم منه أنه تصرف بإذن الولي، وليس بمعقول أن يجعل الولي ابنه أو موليه في المحل ثم يقول: أنا لم آذن له بالبيع أو الشراء، وعلى هذا فهذا يسمى أذناً ضمنياً.
المؤلف رحمه الله عندما ذكر جائز التصرف قال عنه: (حراً، مكلفاً، رشيداً)، والرشد هو الشرط الثالث، والرشد في كل شيء بحسبه, فرشد المال ضده السفه، فإن السفيه هو الذي لا يحسن التصرف بماله, ولو كان بالغاً عاقلاً فلا يصح تصرفه إلا أن يأذن له سيده.
والمحجور عليه نوعان: محجور عليه لحظ نفسه, وهذا يسمى السفيه.
ومحجور عليه لحظ غيره, وهذا يسمى المفلس، فمن حجر عليه لحظ نفسه صار سفيهاً, وهذا هو المراد, وهو الذي يسمى غير رشيد.
قال المؤلف رحمه الله: (فلا يصح تصرف صبي وسفيه بغير إذن ولي)، الصبي: هو فاقد كمال التكليف, والسفيه: هو فاقد الرشد، والرشد في كل شيء بحسبه, فالرشد في النكاح غير الرشد في المال، فيمكن أن يكون رشيداً في إجراء عقد نكاح, لكنه ليس برشيد في إجراء عقد البيع, والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: (فإن أذن صح)، والإذن نوعان: صريح وضمني؛ لقوله تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى [النساء:6]، أي: اختبروهم وإنما يتحقق]، أي: الاختبار، (بتفويض البيع والشراء إليه).
لأن الله سمى أموال اليتامى أموالاً للأولياء؛ ولأنه لما لم يجز للولي أن يتصرف بماله بلا مصلحة كان ذلك أولى ألا يتصرف بمال الغير بلا مصلحة، لأن المؤمنين إخوة؛ ولأن القاعدة الفقهية تقول: التصرف بالرعية منوط بالمصلحة؛ ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث المغيرة و أبي هريرة كره إضاعة المال.
والذي يظهر -والله أعلم- أن الشيء اليسير مما جرت عادة الناس فيه، وسعره سعر المثل، يجوز فيه إبرام العقد ولو بلا إذن، ولو أننا لم نصحح البيع والشراء بالشيء اليسير لوقع أصحاب البقالات في حرج، خاصة إذا كانت البقالة قريبة من بيوت الناس؛ لأن الصبيان الغير مميزين كابن السنتين والثلاث يأتي إلى البقالة ومعه ريال أو ريالان أو ثلاثة, وإذا وقعت وليمة في بيت أحد من الناس خسر كل هذه المبالغ؛ لأنه لا يستطيع أن يلغي العقد معهم؛ لأنهم أحياناً أقوى من الكبار.
ولأن مثل هذا البيع مما جرت عادة الناس به، وقد روى ابن أبي شيبة و عبد الرزاق وغيرهما: أن أبا الدرداء رضي الله عنه اشترى من صبي عصفوراً, ثم تركه حتى طار ولم يستأذن وليه في ذلك؛ ولأن الحكمة من الإذن في الشيء اليسير غير متحققة؛ لأن هذا لا يعد إضاعة للمال، فجاز ذلك في حق المجنون والصبي غير المميز إذا كان له ثمن لا يتغير ولا يشترط فيه المماكسة كالأشياء المعروفة مثل: الخبز، والبقالة، والسندوتش، فهذا يجوز فيه التصرف ولو بلا إذن سواء كان من صبي مميز أو غير مميز.
وتصرف العبد بإذن سيده؛ لأن العبد إنما يتصرف بمال سيده، والقاعدة أن الوكيل لا يتصرف إلا بإذن موكله.
قول المؤلف رحمه الله: (الشرط الثالث)، هذا الشرط من شروط أركان العقد، وأركان العقد ثلاثة: الصيغة، والعاقدان، والمحل الذي يسمى المعقود عليه، وهذا الشرط الثالث إنما هو منصب إلى الركن الثالث وهو المحل.
قال المؤلف رحمه الله: (أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع من غير حاجة)، كان الأولى بالمؤلف ألا يقول: أن تكون العين؛ لأنه يفهم منه أن ما في الذمة لا يصح العقد عليها وليس بمراد، ولهذا لو قال المؤلف: أن تكون المعقود عليها ليشمل العين وما في الذمة لكان أفضل، ولهذا نبه المؤلف إلى ذلك بقوله: (والعين هنا مقابل المنفعة فتتناول ما في الذمة)، لأنه يجوز بيع السلم لعين في الذمة، فهذا هو مقصود المؤلف؛ ولهذا صارت العبارة فيها نوع من التجوز.
قال المؤلف رحمه الله: (أن تكون العين المعقود عليها)، يعني: على ذاتها، (أو على منفعتها)؛ لأنه يمكن أن يبرم العقد على الشيء لتأكله، أو أن تنتفع بعينه، أو تنتفع بمنفعته، مثل أن تشتري حماراً أو بغلاً لتركبه, فإن النفع هنا لمنفعته لا لذاته.
قال المؤلف رحمه الله: وهذه ضابط للمالية، أي: هذا الشرط ضابط للمالية، والحنابلة ذكروه بصيغة أن يكون المعقود عليها مباحة النفع من غير حاجة ولا ضرورة، وبعضهم يقول: أن يكون المال متقوماً موجوداً، وأحسب أن عبارة الحنابلة أظهر وأضبط وأقعد؛ لأنه عندما قال: (أن تكون العين المعقود عليها أو على منفعتها مباحة النفع) فقوله: (مباحة النفع) يخرج به ما لا نفع فيه كبعض الحشرات فإنه لا نفع فيها في حق الآدمي فسلبها المالية؛ لأن ما لا نفع فيه لا مال له.
والمال: هو كل ما يتمول ويمكن الانتفاع به ويحصل فيه البذل والعطاء، والحشرات لا نفع فيها.
وقول المؤلف: (مباحة النفع) يخرج به أيضاً ما كان فيه منفعة لكنها ليست مباحة كالخمر والخنزير، فإن له منفعة لكن منفعته غير مباحة، وآلات اللهو فيها منفعة لكنها غير مباحة فلا تدخل في ذلك, فلا بد أن تكون فيها منفعة وأن تكون المنفعة متقومة، أي: فيها مباحة النفع؛ لأن ما يحرم بيعه لا مالية فيه فينتفي فيه المالية.
فالكلب أبيح نفعه في ثلاث: في الصيد, وحراسة زرع وماشية، قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة: ( من اقتنى كلباً إلا كلب صيد أو ماشية أو زرع انتقص من أجره كل يوم قيراطان )، فهذا يدل على أن الانتفاع بالكلب إنما كان لحاجة, وعلى هذا فالانتفاع للحاجة يسلبه المالية، قالوا: وكجلد الميتة قبل الدبغ أو بعده، فبعده لا يطهره على المذهب, ولكن ينتفع به للحاجة في اليابسات؛ لأن الحنابلة يرون أن جلد الميتة لا يطهر بالدبغ؛ لحديث عبد الله بن عكيم : ( لا تنتفعوا من الميتة بإهاب ولا عصب )، وهذا مذهب الحنابلة, وقول عند المالكية.
والراجح هو مذهب الشافعية وإحدى الروايتين عن أحمد واختاره أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن جلد كل ما يؤكل من الميتات يطهر بالدبغ؛ لحديث عائشة و سلمة بن المحبق : ( ذكاتها دباغها )، فأجرى الدبغ مقام الذكاة، والذكاة لا تنفع إلا فيما يصح أكله, والله أعلم.
وعلى هذا فإن الكلب ينتفع به فيما يباح لكن لا يصح بيعه، وهذا هو مذهب جمهور الفقهاء خلافاً للحنفية وبعض المالكية الذين جوزوا بيع الكلب، والصحيح أن بيع الكلب محرم؛ لما في الصحيحين من حديث أبي مسعود البدري عقبة بن عامر : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن ).
وذهب بعض المالكية وبعض الحنفية إلى جواز بيع كلب الصيد؛ لما روى النسائي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ثمن الكلب إلا كلب الصيد )، وهذه الزيادة أنكرها النسائي و الدارقطني وهي ضعيفة؛ لأن فيها نكارة وفي سندها عبد الله بن لهيعة وكذلك مخالفتها لرواية الثقات؛ ولهذا قال المؤلف: (بخلاف الكلب؛ لأنه إنما يقتنى لصيد أو حرث أو ماشية).
وقوله: (من غير حاجة)، أو ضرورة؛ لأن الميتة يحرم بيعها، لكن يجوز الانتفاع بها حال الضرورة، وكوننا نقول: حال الضرورة فإن حال الضرورة لا يكون مالياً، ولهذا لا بد أن تكون مباحة للناس من غير حاجة ولا ضرورة.
هذا على المذهب؛ لأنهم يرون أن جلد الميتة لا يطهر بالدبغ، والراجح مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية أن جلد ما يؤكل لحمه يطهره الدبغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث ابن عباس : ( هلا انتفعتم بإهابها؟ قالوا: إنها ميتة. قال: إنما حرم أكلها ).
قال المؤلف رحمه الله: (إنما يباح في يابس)، يعني: أن جلد ما يدبغ من الميتات يستفاد به في اليابس؛ لأن اليبوسة ليست فيها رطوبة تنقل النجاسة منها إلى غيرها.
العين إنما خرجت مخرج الغالب وإلا فإن المقصود هو المعقود عليه ويشمل العين أو ما في الذمة، يعني: يشمل الحاضر أو الغائب الذي في ذمة الإنسان.
قال المؤلف رحمه الله: (كالبغل والحمار)، البغل والحمار معقود على منفعته لا على ذاته؛ لأنه لا يجوز أكل البغل ولا الحمار.
قوله: (لأن الناس يتبايعون ذلك في كل عصر من غير نكير)، وهذا كلام ابن قدامة في المغني.
فبزر دود القز وإن لم يمكن الانتفاع به في الحال لكن يمكن الانتفاع به في المآل، وصغار السباع التي تصلح للصيد وإن لم يمكن الانتفاع بها في الحال لكن يمكن الانتفاع بها في المآل، فكل ما يمكن الانتفاع به في الحال أو المآل فإنه يأخذ حكم الحال.
ودود القز: حيوان طاهر يقتنى لما يخرج منه وهو الحرير، وبزره، يعني: صغاره، وبعض العامة تقول: بزر للصغير، والبزر ليس بالصغير, لكن البزرة هي الحبة التي تخرج نشازاً، فغالب شيطنة الصغار يكون كالبزرة المشغلة وهذا لعله منه.
فكل منتفع به شرعاً في الحال أو في المآل وله قيمة جاز بيعه، وعلى هذا فالهرة على المذهب يصح بيعها لأنه ينتفع بها؛ لأنها من الطوافين علينا والطوافات، وهي تأكل خشاش الأرض؛ قال صلى الله عليه وسلم: ( لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض )، وهذا نوع من الانتفاع عند الناس في السابق.
وصحة بيع الهر هو قول الأئمة الأربعة, قال أبو عمر بن عبد البر : وهو قول فقهاء الأمصار. وذهب الإمام أحمد في رواية قواها ابن القيم في إعلام الموقعين: أن بيع الهر لا يصح؛ لما روى مسلم في صحيحه من حديث معقل بن عبيد الله عن أبي الزبير المكي عن جابر بن عبد الله : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم زجر عن ثمن السنور والكلب )، والسنور: هو الهر.
والصحيح هو مذهب الأئمة الأربعة وهو صحة وجواز بيع الهر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في حديث أبي قتادة : ( إنها من الطوافين عليكم والطوافات )، وأما حديث معقل بن عبيد الله فقد أنكره الأئمة كالإمام أحمد و ابن رجب وقالوا: إن معقل بن عبيد الله وإن كان ثقة فإن غالب أحاديثه التي يرويها عن أبي الزبير إنما أخذها من عبد الله بن لهيعة , وهذا الحديث مما استنكر به على مسلم .
وعلى هذا فإن هذا الحديث ليس داخلاً في الإجماع على صحة أحاديث مسلم ؛ لأن الذين نقلوا الإجماع قالوا: إلا أحرف يسيرة, أي: أحاديث أو بعض الألفاظ وهذا منها, وعلى هذا فالحديث ضعيف. والصحيح: جواز بيع الهر.
وما لا يصلح للصيد ولا الانتفاع به كالذئب والأسد وغيره على المذهب لا يجوز بيعه, أما على مذهب أبي حنيفة فإن الأسد يمكن الانتفاع به لمنظره، فكما أن البلبل يجوز بيعه لصوته فالأسد يجوز الانتفاع به لمنظره واستكمال جمع البهائم.
والذي يظهر أن كل منفعة ليست بضارة ولا ممنوعة شرعاً فتكون منفعة مباحة يجوز بيعها.
إذاً: كل ما لا ضرر فيه ولا هو ممنوع شرعاً تكون منفعة متقومة، وإذا كانت متقومة فيجوز بيعها، فعلى هذا فالراجح أن الأسد والذئب عند بعض الناس فيها منفعة، وهذه المنفعة لا تعود عليه بالضرر في الغالب وهذا على مذهب أبي حنيفة ورواية عند الحنابلة.
أما الشافعية فإنهم يمنعون من السباع مطلقاً؛ لأنهم يقولون: إن السباع لا تؤكل، ولا يقاتل عليها، ولا تتعلم، ولا تصلح للحمل، إلا ما ينتفع به كالفهد والفيل والقرد للحراسة والهرة.
على كل حال الذي يظهر لي هو مذهب الحنفية وكذا الحنابلة إلا في قولهم الأسد وغيره فإنه ينتفع به؛ لأنهم يصححون بيع البلبل لصوته، وهذا منها.
قال المؤلف رحمه الله: [ فلا يصح بيعه لقول ابن مسعود ].
لعل هذا وهم، فالحديث ليس عن عبد الله بن مسعود ولكنه من حديث أبي مسعود الذي هو عقبة بن عامر : ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ) متفق عليه.
لأن آلة اللهو وإن كان فيها منفعة لكنها ليست بمباحة، [ وخمر ]، لأن الخمر وإن كان فيها منفعة لكنها ليست مباحة هذا قول عامة أهل العلم، [ ولو كانا ذميين ]، وكلمة (لو) تشير إلى وجود خلاف، فإن بعض الفقهاء ومنهم الحنفية قالوا: يصح بيع الخمر على الذمي؛ لأنهم يعتقدون حلها أو لعدم حرمتها عندهم.
والصحيح حرمة ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم -كما رواه أهل السنن, وأصله عند مسلم- عندما ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن راوية الخمر قال: فساره إنسان, قال: بم ساررته؟ قال: أمرته ببيعها, قال: إن الله إذا حرم شيئاً حرم ثمنه ).
فالحشرات التي لا نفع فيها لا يصح بيعها.
قال المؤلف رحمه الله: [ إلا علقاً لمص الدم ].
العلق هو حشرة تجعل في مكان الجرح فتمص كل ما في هذا الجرح من الدم المتحجر قال: فينتفع بها، (وديداناً لصيد)، الديدان التي يصاد بها السمك لا بأس ببيعها لأن فيها منفعة.
والآن سوسة النخل؛ هناك حشرات تقاومها وهي تباع الآن فلأن فيها منفعة فلا بأس ببيعها.
قال المؤلف رحمه الله: [ وما يصاد عليه كبومة شباشا ]، كأن تجعل في الشباك بعض الحشرات؛ لأجل إذا جاء الطير ليأكلها أمسك بهذه البومة وهي تضر الطير, لعلنا نقف عند هذا, والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر