الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ والمصحف لا يصح بيعه، ذكر في المبدع: أن الأشهر لا يجوز بيعه، قال أحمد: لا نعلم في بيع المصحف رخصة، قال ابن عمر: وددت أن الأيدي تقطع في بيعه؛ ولأن تعظيمه واجب، وفي بيعه ابتذال له، ولا يكره إبداله وشراؤه استنقاذاً، وفي كلام بعضهم: يعني من كافر، ومقتضاه أنه إن كان البائع مسلماً؛ حرم الشراء منه؛ لعدم دعاء الحاجة إليه بخلاف الكافر، ومفهوم التنقيح والمنتهى: يصح بيعه لمسلم ].
المؤلف رحمه الله حينما تحدث عن شروط البيع، ذكر أنه من شروط البيع أن تكون العين أو المعقود عليه مباح النفع من غير حاجة، وإباحة النفع يعني أن يكون مالاً، كما قلنا في بعض مذاهب الأئمة، وهل المصحف مال من حيث يتمول ويصح فيه البذل والعطاء أم لا؟
الجواب: من العلماء من قال: إن المصحف ليس مالاً؛ لأنه إذا جعل مالاً يتمول به فإنه يحصل فيه البذل والعطاء فيكون في ذلك ابتذال له، وابتذال المصحف محرم، ولأجل هذا حرم الحنابلة بيع المصحف.
القول الأول: المنع مطلقاً إلا إذا كان من باب الاستنقاذ، وعلى هذا: فكل ما ليس ببيع كالإبدال فلا حرج، واشترط الحنابلة في بعض أقوالهم: أنه استنقاذ ولا بد أن يكون من كافر، لخوف ابتذاله، وأما المسلم فلا يتصور ابتذاله لذلك، والذي يظهر مما في المنتهى أنه يصح بيعه لمسلم، لدعاء الحاجة.
القول الثاني في المسألة: هو مذهب الشافعي ورواية عند الإمام أحمد اختارها أبو العباس بن تيمية : أنه يصح بيع المصحف مع الكراهة؛ لأن كثرة عرضه للبيع مدعاة إلى الابتذال، وهو جائز بيعه، وتنتفي الكراهة عند دعاء الحاجة، خوفاً من ألا تنسخ المصاحف.
وقال بعضهم: إن كان قد أجر للكتابة فلا بأس، وأما إن كان بيعه مطلقاً بهذا فيمنع، يعني: أنت الآن تريد أن تنسخه، فيقال: انظر إلى فلان الوراق، فيبيعه لا لبيعه للمصحف ولكن لأنه كتبه، قالوا: وهل بيع المصحف إلا هذا؟ يعني: هل يتصور بيع المصحف إلا لأجل حسن الورق وحسن الخط، كخط عثمان طه ليس كخط غيره، وورق كنوع من أنواع الورق الذي يسمونه شمواه ليس كغيره.
القول الثالث: يصح بيع المصحف مطلقاً، وهذا مذهب أبي حنيفة وروي عن عثمان رضي الله عنه وعن ابن عباس ، وإن كانت الأحاديث الواردة عنهما فيها كلام، فقد كان ابن مصبح يبيع المصحف في زمان عثمان، ولعل القول الثالث أظهر والله أعلم.
وأما ما نقل عن ابن عمر، فلكونه بيع بطريقة كطريقة بيع عامة السلع، فربما وضعها في مكان ليس بلائق، فكره ابن عمر هذا الحال، ومن المعلوم أن تقطع الأيدي في بيعه، ليس معناه بطلان البيع كما قال صلى الله عليه وسلم: ( من رأيتموه يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا: لا أربح الله تجارتك )، فهذا دعاء في عدم الربح لا بطلاناً في العقد.
وعلى هذا فالذي يظهر -والله أعلم- هو مذهب أبي حنيفة ، وإن حصل نوع ابتذال له من حيث عدم إكرامه، ووضعه في المكان اللائق به؛ فهذا مكروه أو محرم، وهذا القول الثالث روي عن أحمد وهو قد روي عن ابن عباس و عثمان وإن كان في السند إليهما ضعف، وعلى هذا فالراجح: هو القول الثالث والله أعلم، إذا لم يكن فيه إهانة له، مثل ما يباع الآن من المصاحف فالراجح أنه ليس فيه كراهة؛ لأنه يوضع في أماكن محترمة، والمشتري له والبائع يصونه ويحميه، ليس كغيره كما في السابق توضع من ضمن الأوراق والكتب التي توضع في حزمة من ضمن عامة السلع، فهذا هو الذي فيه نوع من الإهانة، فنحن حينما نجوز بيع المصحف، نشترط تقديره وحرزه وحمايته.
قال المؤلف رحمه الله: (ومفهوم التنقيح والمنتهى يصح بيعه لمسلم)، يعني: شخص يبيعه لمسلم ظاهر أنا عندي أنا أنه قول خلاف المذهب الثاني، فيكون قولاً آخر.
وهنا سؤال: هل كتب التفسير تأخذ حكم المصحف في البيع والشراء؟
فالجواب: لا، كتب التفسير غير؛ لأنها علم، يدخل في مسألة الورق وغيرها، الإشكال في المصحف نفسه.
وذهب جمهور الفقهاء: إلى أن شعر ميتة غير الخنزير والكلب طاهر، ولأجل هذا جاز جز الصوف والشعر الذي في الحيوان حال حياته، ولو كان نجساً لما جاز جزه؛ لأنه ما أبين من حي فهو كميتته، ولا شك أن الشعر طاهر، لكن يدخل في ذلك كل ما لا تتبعه الحياة، أو ما ليس فيه دم أو ما فيه دم كما هو مذهب أبي حنيفة واختيار أبي العباس بن تيمية رحمة الله تعالى على الجميع، إلا أن أبا العباس رأى أن العظم ليس بنجس، والذي يظهر -والله أعلم- أن العظم يأتيها الدم، وتتبعه الحياة، لكن السن والقرن والشعر طاهر، وعلى هذا: فليس كل أجزاء الميتة نجسة والله أعلم.
وأما الجلد: فقد سبق وقلنا: إن الراجح في الجلد أن ما يؤكل لحمه يطهر بالدبغ، وعلى هذا فلا بأس ببيعه قبل الدبغ؛ لأن كل ما ينتفع به في الحال أو المآل يجوز بيعه، كما جاز بيع السباع التي تصلح للصيد حال صغرها، فإنها وإن كان لا ينتفع بها في الحال، لكن ينتفع بها في المآل.
هذه مسألة اختلف العلماء فيها، فيما يسمى لعب الأطفال، فبعضهم جوزها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة في الخيل ذوات الأجنحة، والذي يظهر -والله أعلم- أن التماثيل الموجودة هذه لا ينبغي التوسع فيها، مثل أن يوجد حصان أو أسد أو غير ذلك ولو كانت للصغار؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رخص لعائشة حينما كانت من العهن أو الصوف، ومن المعلوم أن العهن والصوف ليس فيها من المضاهاة ما في البلاستيك الموجود الآن.
والقاعدة الأصولية تقول: هل يجوز القياس على الرخص أم لا؟ والقاعدة الأخرى تقول: أنه ما جاز للرخصة فلا يجوز أوسع منها، فمن المعلوم أنه إذا جاز في العهن وهو الصوف والقماش، فإنه يجوز في ما كان مثله أو دونه، ولا يجوز ما هو أعلى منه، ومن المعلوم أن البلاستيك أعلى من العهن، وهذا الذي يرجح والله أعلم: أنه يجوز في العهن ما لا يجوز في التماثيل التي على هيئة أخشاب، أو بلاستيك، فإنه ليس ثمة حاجة إذاً، ومن هنا: فإني أرى منع بيع مثل هذه الأشياء للصغار، وهي إلى التحريم عندي أقرب والله أعلم.
نقف عند هذا، والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر