الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ ولا يصح بيع مغصوب من غير غاصبه أو قادر على أخذه من غاصبه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه، فإن باعه من غاصبه أو قادر على أخذه صح؛ لعدم الغرر، فإن عجز بعد فله الفسخ ].
قول المؤلف رحمه الله: (ولا يصح بيع مغصوب من غير غاصبه)، وإنما قال: (من غير غاصبه)، ونهى عن بيع العبد الآبق؛ لأن الغاصب قابض للمعقود عليه، فإمكان التسليم حاصل، قالوا: إنه لا يجوز بيع المغصوب من غير غاصبه، أما بيع المغصوب من غاصبه فيجوز؛ لأنه عند بيع المغصوب من الغاصب نفسه فإن القدرة على التسليم حاصلة، وأما بيعه من غير غاصبه فإن القدرة على التسليم متوقعة يمكن أن يستطيع ويمكن ألا يستطيع؛ فلأجل هذا منع الحنابلة من ذلك.
وذهب بعض العلماء إلى أن بيع المغصوب يجوز مما يغلب على الظن القدرة عليه، مثل: شخص غصب سلعة فباعها المغصوب منه على مسئول أمين في الغالب يقدر على التسليم فيجوز، وعلى هذا فالنهي إنما هو منوط بإمكانية التسليم، فإن أمكن وقدر صح العقد ومضى، وإلا فله الفسخ، ولهذا إن كان له الفسخ فلا بد من وجود مدة لأجل الغرر؛ لأن المدة الطويلة يختلف فيه المعقود عليه ويقترف مأثماً فلا بد من وجود مدة، والله أعلم.
ولهذا قلنا: إنه يجوز بيع المغصوب من غير غاصبه إذا غلب على الظن استنقاذه منه، فإن لم يقدر فله الفسخ، وقلنا: إن كلمة (فله الفسخ) لا بد فيها من مدة؛ لأجل ألا يدخل في الغرر؛ ولأجل ألا يختلف المبيع؛ ولأجل عدم تغير سعره. والله أعلم.
ولهذا قال المؤلف رحمه الله: (أو قادر على أخذه من غاصبه؛ لأنه لا يقدر على تسليمه)، يعني: أن البائع هو الذي لا يقدر على تسليمه للمشتري، فإن باعه من غاصبه أو قادر على أخذه صح، لعدم الغرر؛ ولأن بيعه من غاصبه بيع فيما يمكن رؤيته ومعرفته وتسليمه فينتفي الغرر إذاً.
قال المؤلف رحمه الله: (فإن عجز بعد فله الفسخ)، له الفسخ؛ لأنه علم أن المعقود عليه لا يقدر على تسليمه فيكون غرراً، والغرر باطل في العقد. والله أعلم.
الشرط السادس: وهو (أن يكون المبيع معلوماً)، وهذا الشرط -وهو معلومية المعقود عليه- متفق عليه في الجملة، وقولنا: في الجملة -كما قلت مراراً وتكراراً- أن هذا الشرط متفق عليه لكن يختلف العلماء في ما الذي يمكن أن يكون الشيء فيه معلوماً، وما الذي لا يمكن أن يكون معلوماً؟ كما سوف يأتي، لكنه في الجملة أن يكون المعقود عليه معلوماً، فلا يصح أن تبيع جملاً فيتبين أنك تظن أنه جمل فإذا هو شاة، أو شاة فإذا هي لعبة وغير ذلك، فلا بد من معلومية المعقود عليه من جنس ونوع وقدر وصفة، وإنما اشترط المعلومية لأن عدم المعلومية غرر؛ لأنك تشتري الشيء ولا تعلم ما هو فيكون مجهولاً، وقد ( نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الحصاة ) وهو أن يقذف إنسان الحصا فمتى وقع على شيء فثمنه بكذا، فيمكن أن يقع على معقود عليه قيمته عالية أو ليست بعالية، ويمكن أن يقع على قماش أو يقع على شيء من السلع.
قال المؤلف رحمه الله: (ويلحق بذلك ما عرف بلمسه أو شمه أو ذوقه)، يعني: أحياناً أشم دهن العود، فأقول لك: أريد دهن العود الهندي فأعطيتني فعرفت أن هذا من العود الهندي، أو الورد الطائفي فلا يلزم رؤيته؛ لأنه أحياناً تكون القارورة واحدة، واللون واحداً، فإذا عرف شمه فهذا لا بأس به، والله أعلم.
هذا الكلام: وصفاً منضبطاً يمكن معرفة المعقود غالباً، استعاض عنها المؤلف بقوله: (تكفي في السلم)، الذي بيع المعقود عليه موصوفاً، السلم: أن تبيع شيئاً موصوفاً وصفاً منضبطاً، فيكون هذا الوصف قام مقام الرؤية في بيع ما يجوز في السلم خاصة؛ لأن بيع ما لا يمكن وصفه ولا رؤيته لا يجوز، يقولون: مثل العقار، فالعقار لا يمكن وصفه، دعنا نضرب مثلاً في حي الفلاح، لأن حي الفلاح فيه وديان وأرض عزاز وأرض سهلة، وأحياناً أرضيتين متجاورتين بعضها سهل وبعضها عسر، فيقال: العقار لا يجوز السلم فيه؛ لأنه لا يمكن وصفها، والوصف مما لا تختلف فيه أجزاؤه غالباً، إذا ثبت هذا فمن أمثلة ذلك: أني أبيعك سيارتي الكامري أو سيارتي الكراون فكتوري فتقول أنت: أنا ما رأيتها، فأقول: سيارتي الكامري لونها فضي موديلها كذا نوعها كذا فهذه الأوصاف تجليها عما في ذاتها، وهذه التجلية صارت بمثابة الرؤية.
ولهذا بيع الصفة ينقسم إلى قسمين: بيع موصوف معين، وبيع موصوف غير معين، فبيع الموصوف الغير معين مثل أن أقول لك: أبيعك سيارتي الكامري، وما عندي إلا كامري واحدة، صار معيناً، أما لو قلت: أبيعك سيارة كامري موديل كذا، وعندي أنا عشرات من هذا النوع التي مثلها فهذا موصوف في الذمة، فهناك فرق بين المعين والموصوف في الذمة، لكن لا أريد أن أدخل فيه؛ حتى لا تختلط علينا الأوراق.
قال المؤلف رحمه الله: (أو صفة تكفي في السلم فتقوم مقام الرؤية في بيع ما يجوز السلم فيه خاصة)، وإذا تبين أن ما وصف خلاف الواقع فيجوز فيه الفسح.
الأنموذج: كما في كتاب المصباح المنير: بضم الهمزة وهو ما يدل على صفة الشيء، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: [بأن يريه صاعاً مثلاً ويبيعه الصبرة على أنها من جنسه].
فمنع الحنابلة بيع الأنموذج؛ لأنه يختلف عن حقيقته وأصله؛ لأن هناك فرقاً بين أن أريه بعض المعقود عليه أو أن أريه شبيهه؛ لأن شبيهه غير وصفه فيمكن أن يحصل فيه غرر، وهذا مذهب الحنابلة، والذي يظهر -والله أعلم- أن ما كان شبيهه بمثابة وصفه جاز بيعه، ولهذا القول الثاني: أن بيع الأنموذج لا بأس به؛ لأنه بمثابة بيع الشيء بالصفة.
وبيع الأنموذج مثلما عندنا نقول: العينة المونة، مثل: لو وضعت شيئاً وقلت: أريد شيئاً يؤكل مثل هذه العلبة، هذا يسمى: بيع الأنموذج.
وقد يدخل فيه الجوالات، إلا أن الجوالات تختلف؛ لأنها توصف أحياناً بوصف منضبط، لكن الأنموذج أحياناً يختلف، الآن الصناعات اختلفت، لكن في السابق الصناعة ليست مضبوطة، وأحياناً تختلف، لكن هم قصدوا بذلك أنه إذا كان بيع الأنموذج يمكن أن يكون مختلفاً فهذا الاختلاف يؤدي إلى اختلاف في الثمن، والاختلاف في الثمن يؤدي إلى التنازع؛ ولأجل هذا صار غرراً والله أعلم.
يعني: كما أنه يجوز توكيل الأعمى في البيع والشراء عن البصير فكذلك يجوز بيعه وشراؤه؛ لأن هذا مما يكون فيه معرفة المعقود عليه فلا بأس.
الآن قلنا: إنه من شروط البيع أن يكون المعقود عليه معلوماً، فمعلوميته يمكن أن تكون برؤية، ويمكن أن تكون بوصف، لكن ليس كل وصف يكفي، لا بد أن يكون وصفاً منضبطاً يكفي في معرفة المعقود عليه في الغالب، وهو ما يسمى بما يكفي في السلم.
الحنابلة وهو مذهب مالك أيضاً قالوا: إن معلومية المعقود عليه تكون بأمرين: إما برؤيته وإما بوصفه.
الشافعي قال: لا، تكفي الرؤية إلا أن يكون موصوفاً في الذمة فلا بأس، أما المعين فلا بد أن تعلم بالرؤية.
وذهب مالك و أحمد كما هو في المذهب أن المعين يكفي فيه رؤيته أو وصفه المنضبط، فإن باع ما لم يره ولم يوصف فإن العقد باطل، وهذا أحد القولين لـابن تيمية .
والقول الثالث: في المسألة وهو مذهب أبي حنيفة واختيار ابن تيمية في آخر قوله وهو رواية عند أحمد قالوا: أن بيع الشيء الذي لا يراه المشتري ولم يوصف له يجوز بشرط خيار الرؤية؛ لأن المعقود عليه مع وجود خيار الرؤية ينتفي فيه الغرر، والبائع لن يبيعه إلا بسعر السوق، والمشتري ينتفي منه خوف الغرر بوجود الخيار، فقالوا: يجوز بيع ما لم يره المشتري ولو لم يوصف له بشرط الخيار، والدليل: قالوا: لأن المنع إنما هو لأجل الغرر، ولا غرر في ذلك؛ ولأن هذا وجد في عهد الصحابة، فقد روى عبد الرزاق، و الدارقطني، و البيهقي أن عثمان بن عفان باع قصراً له بالكوفة من طلحة بن عبيد الله ولم يره طلحة ، فقال طلحة: لي الخيار، لأني اشتريت ما لم أره، فقال عثمان: لي الخيار لأني بعت ما لم أره، فتقاضيا عند جبير بن مطعم فجعل الخيار لـطلحة ، فوجه الدلالة: أنه صحح العقد؛ لأن وجود الخيار دليل على صحة العقد والله أعلم.
يقول ابن تيمية: وهذا قول الصحابة ولا يعرف له مخالف، وقد قضى به جبير بن مطعم على ملأ من الصحابة ورضي الجميع بذلك، وهذا هو الراجح والله أعلم.
لعلنا نقف عند هذا، والله أعلم وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر