الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فكنا قد وصلنا إلى بعض المسائل المنهي عنها في البيوع، حيث أن المؤلف ذكر لها فصلاً بعد توفر شروط البيع فيها, إلا أنه قد جاء النهي عنها باعتبار آخر ليس داخلاً في ماهية العبادة ولا وصفه الذي لا ينفك عنها.
وقد ذكرنا أن الوصف الذي لا ينفك عنها غالباً هي شروط الماهية، مثلاً: إذا قال العلماء: أن النهي يكون داخلاً في الماهية أو في الوصف الذي لا ينفك عنها، والماهية يقصدون بها أصل الشيء الذي هو الصيغة والأركان والشروط، فشروطها هي التي يسميها العلماء الوصف الذي لا ينفك عنه غالباً, والله أعلم.
أما هذا الفصل فهو في الأمور الخارجة عن هذين الأمرين عن الماهية وعن الوصف الذي لا ينفك عنها غالباً, والله أعلم.
قال المؤلف رحمه الله: [ولا يصح بيع عصير ونحوه ممن يتخذه خمراً؛ لقوله تعالى: وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، إذا وجد ذلك يباع، ويصح أيضاً النكاح وسائر العقود كالقرض والرهن، ولا بيع سلاح في فتنة بين المسلمين؛ لأنه صلى الله عليه وسلم نهى عنه, قاله أحمد , قال: وقد يقتل به، وكذا بيعه لأهل حرب أو قطاع طريق؛ لأنه إعانة على معصية، ولا بيع مأكول ومشموم لمن يشرب عليهما المسكر، ولا قدح لمن يشرب به خمراً، ولا جوز وبيض لقمار ونحو ذلك ].
وهما: حرمة الفعل من حيث الأحكام التكليفية وعدم الصحة من حيث الأحكام الوضعية، ذلك أن كل حكم وضعي يدل على الفساد فإنه يدل على التحريم غالباً، وكل حكم تكليفي يدل على التحريم فلا يلزم منه أن يدل على الفساد غالباً، وعلى هذا فبينهما عموم وخصوص من وجه, والله أعلم.
وحكم بيع العصير ممن يتخذه خمراً محرم؛ لأن الخمر محرم, ولا يجوز للإنسان أن يعين شخصاً على فعل المحرم، فهذا يسمى من باب تحريم الوسائل، وهو ما يسمى قاعدة سد الذرائع, وهي مشهورة عند المالكية وعند الحنابلة, وإن كانت موجودة في أصحاب المذاهب الأربعة, لكنهم يتفاوتون.
فـأبو حنيفة و الشافعي رحمهما الله لا يأخذون بها على سبيل الإطلاق، إنما يجوزونها في صور، ويمنعونها في صور, وإن كان اعتبار المآل عندهم ملحوظ من وجه, وعلى هذا فالأخذ بسد الذرائع في الجملة هو مذهب الأئمة الأربعة, وليس بالجملة، وفرق بين الأمرين.
وقاعدة سد الذرائع ثابتة؛ وذلك لقول الله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2]، وقول الله تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108].
فمن المعلوم أن مسبة الطواغيت وبيان ضلالهم مقصد من مقاصد الشرع، إذ لا يتحقق الكفر بالطاغوت إلا بسبهم، ولكن لما كان ذلك يترتب عليه مفاسد وربما تكون هذه المفاسد أعظم من تحقيق المصلحة السابقة منع منها: كما قال تعالى: وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ [الأنعام:108]، والأدلة في هذا كثيرة، إلا أن قربها وبعدها من هذا المقصد الملحوظ جعلت أهل العلم يختلفون، فـمالك و أحمد يأخذون بها لكن بشروط.
واليوم تجد أن بعض طلاب العلم يأخذون بقاعدة سد الذرائع لكن ليس على منهج مالك و أحمد إنما هي أشد، في حين أن مبدأ سد الذرائع يتركها كثير منهم في هذا العصر حتى لم يأخذ بها أبو حنيفة ولا الشافعي، ولهذا أشار الإمام الشاطبي و القرافي و أبو العباس بن تيمية رحمهم الله إلى شروط وضوابط الأخذ بقاعدة سد الذرائع, فهي إذا ترجحت مصلحة الشيء أبيح وإن كان ثمة مفسدة، وإن ترجحت مفسدة الشيء حرم وإن كان ثمة مصلحة.
إذاً: قاعدة سد الذرائع هي أقرب ما تكون إلى قاعدة: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح، والقاعدة هذه تؤخذ إذا تساوت المصلحة والمفسدة فهذا موطن اجتهاد، وإذا غلبت المصلحة المفسدة فتقدم المصلحة، وإذا تقدمت المفسدة على المصلحة يقال: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
وعلى هذا فالمصالح ربما تكون في آحاد الناس وليست موجودة في آحادهم, فتباح لطرف ولا تباح لطرف؛ لأنه ليس من أهل الاحتياج.
وقد ذكر الإمام الشاطبي و عبد الوهاب المالكي ضوابط لمعرفة متى تترجح المفسدة أو متى تترجح المصلحة, وهي على ثلاثة شروط, وإن شئت فقل: شرطان:
الشرط الأول: أن تكثر التهمة ويكثر العمل بها لهذه التهمة فتمنع سداً للذرائع، ما معنى تكثر التهمة؟ يعني: فعل الناس لها غالباً على المحظور، وإن كانت صورة المسألة على الجواز فتمنع من باب سد الذرائع، فإذا كثرت التهمة وجرى العمل على غالب فعل المحظور منعت.
وعليه فإذا كان كشف الوجه عند بعض المالكية مباحاً في الأصل فإنه ممنوع إذا كثرت التهمة، واليوم خروج المرأة كاشفة وجهها في الأصل تكثر التهمة.
الشرط الثاني: إذا وجدت حاجة من عدمها فمتى وجدت الحاجة لمثل هذا الأمر فقد يباح، ومتى لم توجد حاجة مع وجود التهمة فقد يمنع؛ ولهذا أشار الإمام أبو العباس بن تيمية و ابن القيم إلى أن ما حرم تحريم وسائل قد يباح للضرورة أو للحاجة، والحاجة تقدر بقدرها.
وعلى هذا فغالب الأحكام الشرعية التي أشار العلماء إلى أنها تتغير بحسب الزمان والمكان لا تخلو من أمور، أولاً: إما أن تكون مبنية على سد الذريعة، وسد الذريعة تختلف من زمن لزمن, ومن بلد لبلد.
الثاني: ما كانت مبنية على العرف.
الثالث: ما كانت مبنية على المصلحة، فهذه الأشياء الثلاثة هي التي أشار العلماء فيها إلى أن الأحكام تتغير على حسب الزمان والمكان، أما الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة، أو التي جاء النص فيها فإنها لا تتغير لا بزمان ولا مكان.
ووجودها وإثباتها من أعظم مقصود الشرع، قال الإمام الشاطبي : امتثال المأمور من أعظم مقاصد الشرع لخروج المكلف من طائلة الهوى.
إذاً: الأحكام التي تتغير حسب الزمان والمكان ثلاثة.
أنا ذكرت هذه القاعدة لأجل أن نعلم أن قاعدة سد الذرائع ليست هي مذهب طائفة دون طائفة, بل هي مذهب الأئمة الأربعة في الجملة.
الشرط الثالث: أن الأخذ بسد الذرائع ليست مناطة على تخوف المفتي من عدمه, إنما هي مبنية على وجود المصلحة من المفسدة، فإن بعض الذين يفتون اليوم متى ما رأى أن هناك مفسدة قال: حرام أو يمنعها، في حين أن ترتب المصالح هي أعظم لقلة أو عدم وجود المفاسد، فيقال لهؤلاء: أنت موقع عن رب العالمين, فكما أنه محظور إباحة ما حرم الله فكذلك في إيجاب ما أحل الله.
واليوم خاصة المعاملات المالية تحتاج من المفتي أن يقدر الحاجة، يقول ابن تيمية: وما منع مما يحتاجه الناس وليس فيه نص على التحريم من كتاب الله ولا سنة رسوله إلا جاءوا بإباحته من باب الحيل.
يقول: ليس هناك طائفة تمنع شيئاً مما يحتاجه الخلق وليس فيه تحريم في الكتاب والسنة إلا جاءوا إليه من باب الحيل، وكلما احتاج الناس إليه وليس فيه نص بالكتاب والسنة على التحريم فالأصل فيه الإباحة.
وعلى هذا فقد نجوز في بلد ما لا نجوزه في بلد آخر من باب سد الذريعة، فإذا كان في بلد إسلامي المباحات كثيرة والمعاملات الشرعية مباحة كثيرة قد نمنع هذا من إبرام عقد غالبه مباح إذا كان فيه مباح، مثل لو أن شخصاً يريد أن يشتري بقالة، غالبها مباح، لكن فيها بعض المحرمات نمنع هذا؛ لأن المباح موجود، هنا بقالات توجد فيها المباح فلا يجوز أن يبرم العقد مع هذا، والإسلام عالٍ وقوي في هذا البلد فحينئذ نقول: لا يجوز، ولو كان المعقود عليه غالبه مباح؛ لأنك سوف تبرم اتفاقية في جزء من أجزاء المحرم كالدخان أو لحم الخنزير أو الخمر وغير ذلك.
أما في بلد غالبه حرام, وقد لا يتأتى الحلال المحض, فقد نقول لهذا التاجر المسلم الذي يعيش بين ظهراني المشركين ولا يستطيع أن يرجع إلى بلده: إن إبرام هذه الصفقة جائز بشرط أن تخرج هذا الحرام, ولا يكون من ضمن مالك؛ لأن تعذر الحلال المحض في هذا البلد متعذر، والحصول على الحلال المحض متعذر، ولا ينبغي أن يكون المسلمون ذليلين لغيرهم من الكافرين.
وهذا مع أنه ينبغي أن يتقي الله المفتي ولا يتسرع في الفتوى, أيضاً لا يجوز له أن يضيق على المسلمين، والأمثلة في هذا كثيرة.
إذا ثبت هذا فإن بيع العصير ممن يتخذه خمراً محرم عند عامة أهل العلم, وهو مذهب الحنابلة والمالكية والشافعية, وخالف في ذلك أبو حنيفة ؛ لأن المعقود عليه مباح, وحصول الخمر فيه ظني، ولا تباح المحرمات بالظن، يقول: شراء العصير قد يشربه وقد لا يشربه, وقد يحصل فيه خمر, وقد لا يحصل فيه خمر, فهذا ظني، هذا مذهب أبي حنيفة .
وذهب الجمهور إلى المنع, وهذا هو الراجح, إذ أن اعتبار القصود في العقود معتبرة، وقد تضافرت أدلة الشرع على اعتبار القصود في العقود، وأنها تؤثر في صحة العقد وفي فساده وفي حله وفي حرمته.
وأنت ترى أن غالب الأشياء تحرم لأجل حصول مقصود أعظم، فحرم النظر خوفاً من الزنا، وحرم حمل الخمر ومشاهدتها من باب الخوف من الوقوع في الخمر والمتاجرة فيه، وهذا قول أبي العباس بن تيمية.
والرواية الثانية: أن الظن معتبر؛ لأن الأحكام الشرعية مناطة بالظن في غالب الأحكام، فإذا ظن البائع أن المشتري سوف يستعمله في الحرام ولو لم يتيقن فإنه يمنع، أما إذا غلب على ظنه أنه سوف يستخدمه في حلال وشك في وقوع الحرام فإنه لا بأس بذلك. والقول بالمنع بالظن رواية عند الإمام أحمد واختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله.
والقول بالمنع أقرب, والفساد أقرب؛ لأننا نقول: إن كان يئول إلى معقود عليه محرم بالإجماع فإن العقد يكون باطلاً؛ لأن العصير حينئذ لم يكن في المآل هو المعقود عليه, إنما المعقود عليه هو الخمر، وحينئذ نقول: لا يصح.
وأما إن كان المعقود عليه سوف يستعمل في حرام لكن المعقود عليه مباح فإننا نقول: هو محرم ويجب عليه أن يطهر ماله ولكن المعقود عليه صحيح، مثل: لو أن شخصاً باع جوالاً لمن يستخدمه في الحرام، هل الجوال محرم لذاته؟ لا، فالعقد صحيح لكنه مع الإثم؛ وذلك لأن قول الفساد يترتب عليه أمور كثيرة يصعب معها الرجوع، فحينئذٍ يكون الحرام مبنياً على القصود وليس مبنياً على المعقود عليه، ولعل هذا القول أقرب في الجملة, والله أعلم.
وهذه مسألة مشكلة فهي في التنظير سهلة, لكنها في التطبيق صعبة، أرأيت التاجر الذي لا يريد أن يتاجر في الأسهم؛ لأنها شبهة عنده، ولا يريد أن يتاجر في البقالات لوجود الشبهة عنده، فيريد أن يتاجر في العقار.
لو وجدت عقارات وشقق مفروشة أو شقق غير مفروشة، أحياناً يضطر المستأجر إلى وضع شيء، هل تلزمه أن يلاحق صاحب الإيجار، وعنده ربما في الرياض وفي جدة وفي مكة؟ يصعب نقول: المعقود عليه ما حكمه؟ مباح، لكن هذا المباح سوف يستعمل ربما في الممنوع شرعاً، فنقول: إذا غلب على ظنك فهذا بالجملة العقد صحيح، أما الحرمة من عدمها فيبقى مسألة العسر واليسر، العذر وعدم العذر, والعلم عند الله، لكن الفساد مشكل.
ولهذا نقول: الأصل أن العقد صحيح؛ لأن المعقود عليه مباح، فإذا كثرت هذه المفسدة في بلد قد يباح فيه لعدم حصول مستأجر إلا بالحرام، وإذا غلب على بلد عدم وجود هذا الحرام يمنع، فهذا مبني على المصلحة والمفسدة كل بحسبه، وإذا كثر مال الإنسان فقد يباح له ما لا يكون في المال القليل؛ لأن القول بأنه ممنوع مطلقاً صعب؛ لأنه في بلد أحياناً يكون إسلامياً ويصعب أن ينفك الإنسان عنه.
والذي جعلني أقول هذا؛ لأن الإمام أحمد نص على الجواز وإن كان ذلك مكروهاً فقد جوز أن يؤجر الإنسان بيته على الذمي، والذمي سوف يكفر بالله تعالى في هذا البيت ومع ذلك جاز؛ لأن المعقود عليه حكمه مباح، فإذا كان لا ينفك غالباً عن هذا الأمر قلنا مكروه أو محرم أو جائز على حسب واقعة الحال، والله أعلم.
أنا طولت في هذا لأجل أن تتضح الصورة ولا يعرف الفقيه حقاً إلا في بيان هذه المسائل، يعني: مثل فتح حساب جاري في بنك ربوي هذا ممنوع، لكن في حق التاجر الذي يحتاج إلى سيولة ليتعامل مع الناس بيعاً وشراءً لو طالبناه أن يفتح حساباً جارياً فقط في حساب إسلامي لربما كانت الشيكات التي يبيع بها بضاعته في غير هذا البنك يعني في بنك ربوي، فيضطر إلى أن ينتظر لأجل حصول سيولة هذا البنك إلى ثلاثة أو أربعة أو خمسة أيام, وهذا مضرة عليه في حقه، لكنه لو فتح حساباً جارياً في ذلك البنك لأجل أنه يحصل على سيولة الشيك مباشرة ثم يسحبها أو لا يستعمل بها لقلنا: جائز؛ لأن فتح الحساب الجاري لم يحرم لذاته؛ لأن البنك الربوي (70%) منه أو (60%) من تعاملات البنك ليست ربوية، ولا يغلب على الظن يقيناً أن هذا المال الذي في الحساب الجاري يتعامل به بالربا، بخلاف حساب التوفير حساب الودائع لأجل, فإن البنك يتعامل فيها بالربا، أما الحساب الجاري فقد يتعامل وقد لا يتعامل بالربا، وإلا سوف يستفيد منها قطعاً، فحينئذ غلبت مصلحة هذا الأمر، أما المفسدة فكانت مظنونة, فيقول: ما ترجحت مصلحته أبيح وإن كانت ثمة مفسدة.
فيكون مذهب الجمهور و شيخ الإسلام أن بيع العصير لمن يتخذه خمراً محرم وفاسد.
سواء كان ظناً أو يقيناً هذا في الحرمة, وفي الفساد يكون فاسداً؛ لأن أصل العقد هنا فإنه يئول إلى الحرام قطعاً، فقلنا: إن هذا المباح لم يكن هو المقصود أصلاً؛ إنما المقصود هو الخمر فنمنعه، كما أنك تبيع بيضة الباز ولا تقصد البيضة، إنما تقصد ما يئول إليه من صيد وطير, والله أعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر