الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكذا تعليق القبول، أو يقول الراهن للمرتهن: إن جئتك بحقك في محله وإلا فالرهن لك لا يصح البيع؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( لا يعلق الرهن من صاحبه ) رواه الأثرم وفسره أحمد بذلك، وكذا كل بيع علق على شرط مستقبل غير إن شاء الله وغير بيع العربون بأن يدفع بعد العقد شيئاً ويقول إن أخذت المبيع أتممت الثمن وإلا فهو لك فيصح لفعل عمر رضي الله عنه والمدفوع للبائع إن لم يتم البيع والإجارة مثله، وإن باعه شيئاً وشرط في البيع البراءة من كل عيب مجهول) أو من عيب كذا إن كان ( لم يبرأ ) البائع فإن وجد المشتري بالمبيع عيباً فله الخيار؛ لأنه إنما يثبت ].
المؤلف رحمه الله ذكر القسم الثالث من الشروط الفاسدة، وهذه الشروط الفاسدة هي تفسد العقد؛ لأن كل شرط يحول دون تنجيز العقد فإنه يكون شرطاً فاسداً والعقد يفسد معه، وهو شرط تعليق العقد، وتعليق العقد معناه: أن يعلق إيجابه أو قبوله في صيغة العقد على أمر مستقبل، مثاله: أن يقول: بعتك إن جاء زيد، فكلمة (بعتك) إيجاب، لكن هذا الإيجاب معلق بمجيء زيد، أو قبلت إن رضي محمد، فقد علق قبوله برضا فلان، فذهب جمهور الفقهاء وهو مذهب الأئمة الأربعة إلى أن التعليق في عقد البيع شرط فاسد مفسد للعقد، وذلك لأمور:
الأمر الأول: قالوا: لأن الأصل في العقود التنجيز، فأي شرط خالف هذا التنجيز فهو شرط مخالف لمقتضى العقد، وجوابه كما مر، أنه ثمة فرق بين مقتضى العقد ومقصود العقد، فإن كان مقتضى العقد هو ما كان الأصل في إيجاده فلا ضير، وقد جاء في الأثر ما يدل على عدم بطلان العقد، كما جاء عند عبد الرزاق وغيره في قصة عبد الله بن مسعود مع امرأته، أنه اشترى من امرأته جاريةً على أنه متى ما باعها فهي أحق بالثمن، فقد قيد مقتضى العقد ومع ذلك صح العقد، قالوا: فإن كان يخالف مقصود العقد فهذا باطل، وليس ثمة خلاف في مقصوده.
الأمر الثاني: وهو أقوى دليل في مسألة التعليق: قالوا: ولأن التعليق العقودي فيه غرر؛ لأنه لا يدري متى يرضى زيد، أو متى يقدم المسافر، وزيادة المبيع من عدمه ومجيء زيد من عدمه كل ذلك مجهول العاقبة، والأصل أن النبي صلى الله عليه وسلم: ( نهى عن الغرر ) كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة ، والغرر هو مجهول العاقبة كما قال السرخسي و أبو العباس بن تيمية ، وهذا أقوى دليل لمن قال بمنع التعليق.
والواقع أن التعليق فيه غرر.
وذهب أبو العباس بن تيمية و ابن القيم وهو رواية عند الإمام أحمد إلى أن التعليق في العقود لا بأس به، واستدلوا بأدلة.
الدليل الأول: أن الأصل في الشروط الصحة ما لم يخالف الكتاب والسنة، استدلالاً بحديث بريرة .
الدليل الثاني: قالوا: فإذا جاز ذلك في الولايات العامة فتجويزه بين طرفين من باب أولى، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن قتل
واستدلوا أيضاً بقصة موسى عليه السلام حيث قال: فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ [القصص:27]، وقال: أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوَانَ عَلَيَّ [القصص:28]، فقد علق نكاح موسى على الثمان أو العشر، وقد ذكر ابن القيم هذا الدليل في أعلام الموقعين وقال: فإذا جاز ذلك في عقد النكاح الذي هو الأصل فيه حماية الأبضاع، فلأن يجوز في غيره من باب أولى، وقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عقبة: ( إن أحق الشروط أن توفوا به ما استحللتم به الفروج ) فإذا وجب الوفاء في الشروط في غير النكاح فالنكاح من باب أولى، وإذا جاز التعليق في النكاح فدونه من باب أولى، وهذا من حيث النظر الذي يسمونه قياس الشمول قوي، إلا أنني لم أجد لـأبي العباس بن تيمية ولا لـابن القيم تقييد هذا الأمر بمدة، لم أجد لهما كلاماً في ذلك وقد بحثته ولم أجده، ولهذا قال صاحب مطالب أولي النهى شرح المنتهى وهو الرحيباني : ويتوجه جواز التعليق في العقود بشرط وجود مدة، وهذا التقييد حسن، وهو أننا نقول: إن التعليق في العقود صحيح بشرط وجود مدة تعرف في العادة في المبيع، ومدة العادة في المبيع مثل شراء طعام، هذا الطعام يفسد في العادة في مدة، فإذا حدده في مثل هذا فلا حرج, مثل ما يتبايع الناس اليوم في توزيع الألبان، فإنه بعد يومين أو ثلاثة، يقول: أبيعك على أنه متى ما نفق المبيع وإلا فلي رده، فهذا نوع من الجهالة، لكن لو قال: بعتكه إن صرفته وإلا رده علي، فإنه بمجرد وجود السلعة في يد البقال، فهو ملك للبائع، فمتى باع فإنه يكون قد رضي بالبيع.
إذاً ابن تيمية يقول: متى ما نفق المبيع وإلا فرده، ولم أجد لـابن تيمية أنه حدد المدة، والظاهر أنه لا بد منه؛ لأنه ذكر أمثلة من عادة هذا أنه يعرف بمدته، لكنه لم يذكر ذلك بمدة، ولا ابن القيم ، ولهذا تقييده بمدة لا بد منه، وهذا الظن فيهما رضي الله عنهما ورحمهما، وهو تحديده بمدة، وهذا القول قوي.
واليوم في ظل توسع الناس في التجارة لا بد منه، ومن أمثلة ذلك في الواقع المعاصر هي الإجارة المنتهية بالتمليك، فإن آجره مدة معلومة، وقال له: إن قمت بتسديد جميع الأقساط فقد بعتكه بعشرين ألفاً، أو فقد بعتكه بسعر السوق، وهذا على القول بجواز التعليق خاصة إذا حدد بمدة، لا أرى فيه بأساً، والله أعلم.
أما إن قال: أبيعك متى ما نفق المبيع وإلا ليس لي رده قلنا: الصحيح جواز ذلك، وهو ملك لصاحب البقالة.
إذا ثبت هذا فإن الذي يظهر -والله أعلم- جواز التعليق في العقود بشرط وجود مدة.
وعليه فإذا قال: بعتك إن جئتني بكذا أو إن رضي زيد بكذا وكذا، يعني: علق الإيجاب أو علق القبول فهو شرط وعقد فاسد على المذهب، وهو قول جمهور الفقهاء من الأئمة الثلاثة، والراجح جواز ذلك بشرط معلومية قدوم زيد في العادة، فإن كان زيد قد حج فإن العادة أن الحاج يعرف مجيئه، والسؤال: إذا قلنا بصحة التعليق، فالمعقود عليه ملك من زمن التعليق هل هو ملك للبائع أو هو ملك للمشتري بأثر رجعي، أو هو موقوف؟
ونماؤه هذه المدة هل يكون للبائع أم يكون للمشتري أم هو موقوف، فإن رضيه المشتري فإن نماءه له، وإن لم يرضه فإن نماءه للبائع؟
الذي يظهر -والله أعلم- أن العقد الموقوف ما زال في ملك البائع؛ لأن الإيجاب والقبول لم يتم بعد، وعليه فالأصل أن الملك ملك ما كان قبل وجود الصيغة، وعليه فالنماء لا بد فيه من رضا إذا كان نماءً زائداً، فإذا كان النماء متصلاً فإنه يلحق بالمعقود عليه، وإن كان النماء منفصلاً فإنه يعود إلى البائع، هذا هو الذي يظهر -والله أعلم- أن النماء إن كان منفصلاً فإنه يذهب إلى البائع، وإن كان متصلاً فلا بد فيه من رضا الطرفين وقت مجيء زيد أو وقت معلومية المعلق، مثال: لو اشترى شاةً هزيلةً، فقال: أبيعك إن رجع زيد من الحج، وأكلت برسيماً ثم حسن حالها، فزادت قيمتها مائتي ريال، فهذه الزيادة ملك من؟ الذي يظهر والله أعلم: أنه إن جاء زيد فلا بد من تحديد الزيادة، فإن قال: بعتك قبل زيادته، والزيادة لها قيمتها، فإن رضيا وإلا فلا بيع بيننا، هذا الذي لا يسع الناس غيره، وإنما قلت ذلك؛ لأنه أحياناً تتم العقود بعقود كبيرة، فأحياناً إحدى الشركات المحلية تقوم بشراء شركة معينة، مثل ما حصل في شركة حائل مع شركة أخرى قبل شراء المراعي لها، فإنه قيل: مذكرة تفاهم، وأبرم جزء من هذا الأمر، هذه الزيادة لمدة ستة أشهر ملك من؟ لا بد فيه من تحديده حتى تتضح الأمور ولا يكون فيه غرر.
والجواب على ذلك أن يقال:
أولاً: إن حديث ( لا يغلق الرهن على صاحبه ) رواه الإمام مالك و الشافعي في مسنده و عبد الرزاق وغيرهم من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلاً، وقد رواه الدارقطني والشافعي وغيرهما موصولاً من طريق الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه، وقد صحح المرفوع ابن حبان و أبو عمر بن عبد البر وغيرهما، والذي يظهر -والله أعلم- أن الحديث اختلف فيه على الزهري، وأن الأقرب أن الحديث مرسل، وأن وصله زيادة شاذة، ولو صح فإن معناه: أن نماء الرهن ملك للراهن فلا يغلق على صاحبه إلا بإذنه وقد أذن، وأن ملك الرهن إنما هو للراهن، فلا يغلق على صاحبه إلا بإذنه وقد أذن، والله أعلم.
ثانياً: الغلة والعين، العين ملك لصاحبها، فإن رضي صح، والغلة ملك لصاحبها فإن رضي صح، وهذا هو الذي يظهر، وعليه فقد جاء عن أحمد رواية اختارها أبو العباس بن تيمية رحمه الله وصاحب الفائق وهو ابن قاضي الجبل، أن قول: إن جئتك بالثمن وإلا فالرهن لك، قالوا: إنه جائز، وقد صنعه أحمد ، حيث إنه أعطى نعليه صاحب الدكان، وقال: إن جئتك بالثمن وإلا فالنعلين لك، قال: وقد صنعه أحمد .
فالبائع حينما يقول: وإلا فالرهن لك، فإنه رضي أن يكون الرهن بمثابة ثمن المعقود عليه، فإذا رضيه فلا حرج، فإن الرضا هو القاضي في كل شيء، فهو الذي رضي بذلك.
والأفضل أن يبيعه بلا شرط، يبيعه بالتأجيل، لكن بعض الناس لا يرضى، يقول: أنا الآن لو أعطيتني هذا الرهن فسوف أتطلب أن أذهب إلى المحاكم وأقول للقاضي: بع هذا الرهن، فيشكل عليه كثيراً، فهم يحولون هذا الرهن باسم المرتهن، ويقول: إذا تأخرت المدة عن ثلاثة أشهر ولم تسدد فلا حق لك بالرهن وهو ملك لي، لي حق التصرف فيه، وهذا الشرط حسن جداً في ظل تأخر الناس.
ومراسيل سعيد بن المسيب ليست حجة، إنما الحجة في رواية سعيد عن عمر ، ولكن رواية سعيد بن المسيب عن النبي صلى الله عليه وسلم هي أحسن حالاً من غيرها، ولا يصح المرسل، لكن في الغالب أن المراسيل لها ما يعضدها من فعل الصحابة، وهذا الذي أراده عمر ، أما المرسل فهو من أقسام الضعيف، لكن الشافعي في الرسالة قال: إن المرسل يقبل إذا جاء ما يعضده من فعل الصحابة أو من حديث ضعيف آخر يشد بعضه بعضها.
أما الأثر المرسل عن سعيد إذا قالوا: سعيد عن عمر هذا صحيح فيقصدون رواية سعيد عن عمر فقط، أما مراسيل سعيد فهي أحسن حالاً من مراسيل عطاء وأحسن حالاً من مراسيل الحسن ، لكنها ليست صحيحة، بمعنى أنها حجة مثلها مثل الحديث الموصول.
فالرواية الموصولة عن الزهري عن سعيد ليست صحيحة.
إذاً مقتضى عقد الرهن: أن الراهن إذا لم يسدد فإن الحاكم هو الذي يقوم بالبيع، يرفع عليه قضية، لكن هو ملكه أولى من الغرماء، الغرماء ليس لهم حق، فأنا حقي هنا المرتهن أولى من الغرماء، لكن ليس لي حق ببيعه إلا بإذن الحاكم، وفي ظل تأخر القضايا وكثرة القضايا على القضاة تجعل بعض المشترين والباعة يوجد هذا الشرط، وبالمناسبة من الأفضل عند كتابة العقود أنه إذا كتب يذكر الطرفان أنهما اختارا أحد القولين واختارا هذا الشرط عن علم وإدراك، وهذا مهم جداً بحيث إذا جاء القاضي لا يبطله، ما يقول: أنا لا أرى هذا الشرط وهو المذهب، فهذا مهم جداً في كتابة العقود، يقال: وقد دخل الطرفان على علم بهذا ولم يختارا ما اختاره الجمهور، أو كذا بحيث يكون الدخول على علم ودراية، وقد رضيا في مسائل الخلاف، حينئذ ما يقضي القاضي بخلاف ذلك.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر