الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حق وارزقنا اتباعه, وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل, وبعد:
فالدليل على أن من اشترى عبداً ومعه مال ولم يشترط المشتري أن مال العبد للبائع حديث: ( من باع عبداً وله مال فماله لسيده إلا أن يشترط المبتاع ), يعني: ماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع؛ لأنه خارج عن نفس العبد, وعن الملكية؛ منفصل عنه فصار ملكه للبائع, فكأن البيع إنما صار لنفس المعقود عليه وهو العبد, (إلا أن يشترطه المبتاع)؛ لأن المبتاع إذا اشترط الفرع دخل في الشرط, مثل من باع نخلاً بعد تأبيرها، فالأصل أن النخلة التي أبرت -يعني: طلع فيها الثمر- ليست داخلة في أصل النخلة, فصار البيع على أصل النخلة, فالثمر للبائع إلا أن يشترطه المبتاع.
فإذا اشترى المشتري المعقود عليه واشترط فلا يخلو من بعض الأمور: إما أن يقبض المعقود عليه أو لا يقبضه, فإذا لم يقبضه فإن العقد يكون باطلاً، والمعقود عليه على ضمان البائع؛ لأن المشتري لم يقبض, هذا قول عامة أهل العلم خلافاً لـمالك إلا في الطعام.
القسم الثاني: أن يشترط المبتاع أو يشترط البائع أو يشترطان ويقبضه المشتري, لكنه فيه شرط, فهذا مبني على الخلاف وهو ملكية المعقود عليه زمن الخيار لمن تكون فقيل: إذا كان الخيار للمشتري أو لهما فالضمان على المشتري, وقيل: إنه موقوف, وقيل: إنه للبائع, هذه ثلاثة أقوال, والراجح -والله أعلم- أنه على المشتري؛ لأن الخراج بالضمان.
فإذا تلف المعقود عليه بعد قبض المشتري فكأن الخيار انتهى, وإذا انتهى الخيار يكون العقد لازماً, فكأنه هلك بعد انتهاء الخيار, هذا الفرق, ومعنى ذلك أنه يكون الضمان على المشتري.
الخيار الرابع وهو خيار التدليس وقد أخذ به جمهور الفقهاء وهم المالكية والشافعية والحنابلة, خلافاً للحنفية, ومن خيار التدليس ما قال به عامتهم, وهو ما إذا كان في المعقود عليه عيب قام البائع بستره, فيثبت الخيار؛ لوجود العيب, لا لوجود الستر, فإن خيار العيب ثابت باتفاق الأئمة الأربعة.
النوع الأول: أن يدلس بما يزيد به الثمن غالباً, كأن يعلف الدابة حتى تنتفخ, فيظن المشتري أن ذلك سمنة, فهذا ليس بعيب وإنما ظن المشتري أنها سمينة بأكل الدابة العلف, فيزيد في الثمن غالباً, فالسمن ليس مثل الضمور والجوع.
أو الرحى وهو خشب يوضع على النهر، كلما وقع ماء النهر عليه دار فيقولون: يجمع الماء لا بحيث إذا جاء وقت البيع أو الاستئجار يطلقه فيسرع الماء بقوة, فيكون الرحى عندئذٍ سريع الدوران, إذ لو كان الماء جارياً بطبيعته فبسبب ضعف هذا الرحى فربما يكون دورانه ضعيفاً, فيحبس الماء حتى إذا جاء المشترون أطلق الماء فسارع الرحى, وهذا مراد المؤلف عندما قال: (وجمع ماء الرحى), أو يقوم بتسويد شعر الجارية؛ لأنها ربما تكون كبيرة, فيقوم بتسويده حتى يظن أنها ليست كبيرة, وربما بلغت أربعين سنة، وبعضهم يقوم بوضع النحلة على وجه الجارية حتى يأتي الزمبول فيقرصها, فينتفخ خدها فيظن أنها سمينة, وهذا مثل ما يوجد عندنا اليوم إبر البوتكس, التي تضرب على الشفتين, أو على الخد, أو فوق الجفون حتى ينتفخ, وهذا من باب التدليس, فهذا كله إنما دلس بما يزيد به الثمن غالباً, فحكمه أنه يثبت فيه الخيار وهو مذهب جماهير الفقهاء خلافاً لـأبي حنيفة .
وحديث المصراة متفق عليه, وهو أصل بذاته, خلافاً لـأبي حنيفة فإن الحنفية وخاصة المتأخرين منهم حاولوا أن يردوا حديث أبي هريرة بعلل واهية, من ذلك أن أبا هريرة ليس بفقيه, والعبرة في خبر الراوي إذا لم يكن فقيهاً برده, فإن كان فقيهاً ولم يخالف الأصول قبل, وإذا خالف الأصول يرد إذا كان خبر آحاد أو كان راويه ليس بفقيه, وهذا بلا شك قول باطل؛ ولهذا أشار أبو عمر ابن عبد البر إلى أن أكثر ما عنف به السلف على الحنفية كان بسبب ردهم خبر الآحاد, والسبب لردهم حديث المصراة هو قوله: (ورد معها صاعاً من تمر), وقد قال الأئمة رحمهم الله كما أشار إلى ذلك أبو عمر ابن عبد البر في الاستذكار والتمهيد: إن رد الصاع ليس لأجل اللبن الذي يحلبه المشتري خلال الثلاثة أيام, فإن هذا لا علاقة له، فإن المشتري إنما جاز له ذلك؛ لأن الخراج بالضمان, فجاز له أن ينتفع باللبن خلال الأيام الثلاثة؛ لأنه لو هلك المبيع فضمانه على المشتري, فصار الخراج بالضمان, وإنما الصاع من التمر في مقابلة اللبن الموجود وقت إبرام العقد, فإن المصراة هي أن تحبس الدابة, بأن يلف على ضروعها أو تبقى لا تحلب, فإذا أراد بيعها بعد يوم أو يومين كان الضرع منتفخاً, فيظن المشتري أن هذا بسبب كثرة اللبن, فقالوا: إن الصاع من التمر هو حكومة للبن الموجود وقت إبرام العقد, ومثله ما جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة في قصة المرأة التي ضربت جارتها فسقط ما في بطنها, فحكم صلى الله عليه وسلم: أن على المرأة الضاربة غرة عبد أو وليدة, ومعنى غرة: خمس الدية, ولم ينظر هل الجنين نفخ فيه الروح أو لم ينفخ فيه الروح, صغيراً أم كبيراً, ذكراً أم أنثى, لم ينظر في ذلك كله, فصار ذلك حكومة, ومعنى الحكومة: أنه مبلغ محدد في هذا الأمر, وهذا هو الراجح والله أعلم.
ولهذا قال المؤلف: (من أقسام الخيار خيار التدليس من الدلسة وهي الظلمة), والدلس الخديعة, فالبائع يقوم بخديعة المشتري ليظن شيئاً لم يكن في المعقود عليه, مثال (كتسويد شعر الجارية وتجعيده, أي: جعله جعداً وهو ضد السبط) من باب أن شعرها بهذه الطريقة.
يقول: وجمع ماء الرحى, أي: الماء الذي تدور به الرحى, وإرساله عند عرضها للبيع) أو الإجارة (لأنه إذا أرسله بعد حبسه اشتد دوران الرحى حين ذلك, فيظن المشتري) أن الرحى جديد وأنه سريع الدوران وأن ذلك عادته وما علم المشتري أن ذلك بسبب قوة دفع الماء الذي حبسه البائع؛ لأجل أن يرسله وقت إبرام العقد, فيزيد ثمن الرحى لقوته وشدة دورانه, فإذا تبين له التدليس, ثبت له الخيار عند جمهور الفقهاء, أما أبو حنيفة فقال: إن البائع يأثم بفعله, لكن ليس للمشتري الخيار, والراجح هو مذهب جماهير أهل العلم.
وأما مسألة اللبن هل يثبت له به الصاع أم لا؟ الذي يظهر -والله أعلم- أنه لا حرج بأن يجعل له أيضاً صاعاً ولو كان اللبن ليس بطاهر, لكن لما جاز بيع الحمار جاز بيع ما في ضرعه, فهو ينتفع به, فمثله مثل الصقر الصغير, فإنه ينتفع به في الحال أو المآل؛ ولهذا جاز والله أعلم.
وصلى الله على النبي محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر