الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: (وخيار التدليس على التراخي).
يعني: لو علم المشتري بالتصرية بإخبار البائع أو وكيله بعد عقد البيع فهل يثبت له خيار الرد على الفور, أم يقال له: حتى لو علمت فلك الخيار ثلاثة أيام؟ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ثلاثة أيام ), الظاهر -والله أعلم- أن خيار التصرية لا يثبت على الفور؛ وذلك لأمور:
الأمر الأول: لظاهر الحديث: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), فالشارع جعل للمشتري الخيار, فلعل المشتري اشترى المعقود عليه وارتضاه لذاته لا للبنه, فجعل له الخيار ثلاثة أيام يشاور أمره, هل يرده؛ لوجود اللبن, أو يبقيه؛ لذات الدابة.
الأمر الثاني: ولأن الدابة أحياناً يدر لبنها في مكان ما لا يدر في مكان آخر! يعني: أن بعض الدواب إذا أبقيتها في مكان ربما لا يدر لبنها؛ لأنها تجد نفسها غير مرتاحة في هذا المكان أو في هذه الزريبة, لكنها لو وضعت في مكان آخر تجد أنها تدر؛ ولهذا يقول العوام: المغصوبة ما فيها لبن, وهذا معروف, فإن بعض الدواب تغضب من مالكها, فيحبس اللبن سبحان الله العظيم! وإذا رضيت وارتعت وبدأت تأكل ما تحب فإن اللبن يدر.
وأذكر من باب الطرائف, أن بقرة كما يذكر آباؤنا كانت عند جيرانهم وكانت لا ترضى أن تحلب إلا إذا أعطيت أكلاً, فإذا أعطيت المربوق درت, وإذا لم تعط لم تدر, حتى وضعوا لها الفلفل الحار في هذا المربوق فما أكلته بعد ذلك, وهذا يدل على أن الدواب تحبس أحياناً لبنها, فلربما حبسته عند بائعها, فإذا اشتراها المشتري درت؛ ولهذا حتى لو أخبر البائع المشتري بأنه قد صر الإبل فربما لا يكون ذلك عيباً حينما تنتقل إلى المشتري؛ فلهذا جعل له الخيار ثلاثة أيام؛ ولهذا قال: (منذ علم), يعني: لو أنه اشترى الدابة وحلبها, فلما كان اليوم الأول ما أعلفها, فجف ضرعها, فيظن المشتري أن الجفاف بسبب أنه لم يسرحها ويجعلها تأكل في المرعى, فلما كان اليوم الثاني أكلت, ولكنها ليس فيها لبن أيضاً, فظن أن ذلك بسبب جوعها في اليوم الأول, فلما كان اليوم الثالث وجد أن فيها جفافاً, فتيقن أن هذا بسبب التصرية, فيقول المؤلف: (فيخير ثلاثة أيام منذ علم), بالتصرية, فيكون له ثلاثة أيام منذ العلم بعد ثلاثة أيام من شرائها, فتصير لها عنده ستة أيام.
والقول الآخر: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), يعني: من أول ما يزول اللبن الذي في ضرعها, ولعل هذا القول أظهر, أي: القول الثاني, وليس بعد العلم؛ لأن المشتري أحياناً يكون ليس بفطن, ولا ثقف ولا من أهل هذه الصنعة, فربما لم يعلم بهذا الأمر إلا بعد زمن, فيقال له: وما يدرينا أنك لم تعلم؛ فلأجل قطع دابر الخصومة قال صلى الله عليه وسلم: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها ), فدل ذلك على أن الخيار إنما يبدأ بعد إزالة اللبن الذي في ضرعها, فتبدأ المدة التي يمكن بها معرفة ذلك, وهذا هو الراجح والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وأيضاً ربما تضرر البائع من حبسها خلال أكثر من ثلاث, والقاعدة أن الضرر لا يزال بمثله, ومن أمثلة ذلك في الواقع المعاصر, إذا اشترى الشخص المعقود عليه وصار فيه عطب, وحاول أن يدلس البائع, مثل أن يكون في مكينة السيارة دخان كثير, فيأتي مهندس السيارات فيضع على المكينة زيت, فإذا اشتراها المشتري وشغل السيارة لم يجد دخاناً في الشكمان, فيظن أن السيارة جيدة, فإذا أخذها وأسرع بها ربما تأتي الأدخنة بعد أن يحترق الزيت, فيعلم المشتري أن هذا نوع من التدليس, فالراجح -والله أعلم- أنه متى ما علم بالتدليس يثبت له الخيار, فأما المصراة فيكون الخيار فيها بعد الحلب, وأما في التدليس بما يزيد به الثمن فهو بعد أن يعلم, والله أعلم.
واعلم أن الخيار ثلاثة أيام إنما هو في الدابة, أو في ما يحتاج إلى اختبار, وأما ما لا يحتاج إلى اختبار مثل تسويد شعر الجارية فإذا غسل وأزيل علم كبر تلك المرأة, فالراجح -والله أعلم- أنه على الفور, فخيار التدليس إن كان مما يحتاج إلى اختبار كالرحى أو المصراة فهو على الخيار ثلاثاً على التراخي, وأما إن كان مما لا يحتاج إلى اختبار وتجربة فالراجح والله أعلم أنه بمجرد العلم يكون على الفورية, وعلى هذا فإذا ادعى البائع أن المشتري أبقاه عنده بعد أن علم على سبيل الرضا فليس له إلا يمينه؛ لأن القاعدة أن اليمين لأقوى المتداعيين, والعلم هنا في الغالب عند المشتري.
قول المؤلف: (بين إمساك بلا أرش ورد مع صاع تمر سليم), استدل الحنفية والمالكية ورواية عند الإمام أحمد بهذا الحديث على أن من اشترى معيباً فإنه بخير النظرين إما أن يمسكه بلا رد, وبلا مطالبة أرش, وبين أن يرده, فليس له إلا الفسخ أو الإمساك, أما أن يمسك ويطالب بأرش النقص الحاصل في المعقود عليه فهي معاوضة جديدة لا بد فيها من رضا المتعاقدين, وكون البائع ظلم المشتري يمكن إزالته بجعل الخيار للمشتري, أما أن يظلم البائع بأكثر من ذلك، بأن يملك المشتري المعقود عليه ويطالب البائع بالعوض فهذه معاوضة جديدة لا بد فيها من رضا الطرفين والقاعدة في هذا أنه: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه ), كما في حديث ابن عباس , وهذا القول أقوى وهو اختيار ابن تيمية رحمه الله خلافاً للمشهور عند الحنابلة والشافعية.
والقول الثاني: لا بد فيه من التمر، والراجح -والله أعلم- أن التمر حكومة, فإن رضي البائع بقبول اللبن جاز ذلك, فهي معاوضة بينهما, فصار اللبن المردود بدلاً عن التمر, وأما إذا لم يقبل فالأصل هو التمر, فإذا ادعى أنه ناقص ولم يثبت المشتري أنه لم يكن ناقصاً فالأصل أن البائع له التمر, فإن أثبت المشتري أن هذا اللبن هو الذي حصل به الحل وأثبت على ذلك البينة فإن له أن يرده والله أعلم.
والأمثلة التي ذكرها المؤلف هي من الأشياء التي تنقص بها قيمة المبيع في زمانهم، واعلم أن المشتري قد يشتري السلعة رغبة في شيء, فيبين له أنه غير موجود لكنه ليس بعيب, مثل أن يطلب أن تكون الدابة هملاجة, يعني: سريعة, فيتبين خلاف ذلك, فهذا ليس بعيب ولكن يسمى خيار الخلف بالصفة, فيثبت له الخيار؛ لأجل هذا.
وخيار العيب إذا ثبت أن المعقود عليه فيه عيب ثبت للمشتري الرد بإجماع الفقهاء.
الأقرب -والله أعلم- أن مطالبة المشتري بائعه بالأرش معاوضة لا بد فيها من رضا الطرفين, فإذا قال المشتري: يا بائع! تبين أن المعقود عليه فيه عيب, فإن شئت أن تعطيني النقص, وإلا رددته عليك, فإن قال البائع: أعطيك الأرش, فيجوز للمشتري أن يحبسه عنده بالأرش أو يرده؛ وذلك لأن الضرر لا يزال بمثله, وكون المشتري ضر بأن وجد في المعقود عليه عيباً فهذا الضرر يزال بقدر الإمكان كما هي القاعدة المعروفة, وضرره يزال بأن يجعل له الخيار, ومما يدل على هذا الترجيح هو حديث المصراة, فإن النبي صلى الله عليه وسلم حينما جعل للمشتري بعد العلم بالمصراة الخيار بين الإمساك بلا أرش, وبين الرد فقال: ( فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها, إما أن يمسكها وإما أن يردها ), ولم يطالب البائع بأكثر من أن أمضى المشتري المعقود عليه بلا أرش, والله أعلم.
ثم اعلم أن الأرش دليل الحنابلة فيه إنما هو دليل عقلي, وهذا ليس بظاهر؛ قالوا: لأن كل جزء في المعقود عليه الأصل فيه السلامة وافق كل جزء في ثمن المعقود عليه, فلما بان أن بعض المعقود عليه فيه عيب تبين أن الثمن لم يوافق عوضاً, فكان للمشتري مطالبة البائع بعوض ذلك الثمن, وذاك النقص.
والجواب على هذا: أن المشتري وإن كان الأصل في المعقود عليه مطلق السلامة, لكن لما كان بعض المعقود عليه فيه نقص جاز له أن يزيل هذا الضرر برده, أما مطالبة البائع بذلك فهذه معاوضة جديدة, فإن البائع لم يبعه إلا بالثمن الذي اتفقا عليه, فإن طولب البائع بأكثر من ذلك, فإن ذلك يعد إكراهاً وأخذ لمال المرء من غير رضاه والله أعلم.
الأرش ليس معناه قيمة ثمن المعيب كما يظن البعض, فلو اشترى سيارة وتبين أن مثلاً لمبة الصدام محروقة أو فيها صدمة, فليس معناه أن يقول: أعطني قيمة الصدمة أو إصلاحها, ليس هذا معناه؛ لأن الأرش في المعقود عليه ليس هو قيمة العيب, وإنما هو أن يقوم المعقود عليه سليماً من العيب, ثم يقوم معيباً بحاله, ثم ينظر الفرق بينهما, ومعنى يقوم لم ينظر إلى ذاك الشراء؛ لأن المشتري قد يشتري السلعة بأقل من قيمة المعقود عليه, أو بأكثر من قيمة المعقود عليه, فلا عبرة بما تم به العقد, وإنما العبرة بذات المعقود عليه, فعلى هذا فلو أن البائع باع سيارة بمائة ألف وفيها عيب, والسيارة قيمتها الحقيقية معيبة بثمانين, وبيعها سليمة بمائة, فكم الفرق بينهما؟ عشرون ألفاً مثلاً.
فيقال: بكم يا مشتري اشتريت السلعة؟ فيقول: اشتريتها بتسعين, نقول: إذا كنت تريد الأرش أنقص من التسعين عشرين سبعين ألفاً, فينظر المعقود عليه, إنما ينظر المعقود عليه قيمته سليماً وقيمته معيباً, والفرق بينهما هو الأرش؛ لأن البائع أحياناً يحابي المشتري بالبيع, فيقال: أصل قيمتها مائة, فيبيعها بثمانين أو العكس، وهذا هو معنى الأرش.
مثل الآن التأمين فالذي صدمت سيارته يذهب إلى المعرض فيقيمونها بثلاثة آلاف, فيذهب الصادم ويصلحها بمائتين أو بخمسمائة أو بألف, ويقول: أنا صلحتها بألف, نقول: نعم, لكن المبيع بعد الصدمة ينقص قيمته, فهذا هو الأرش, أرش المعقود عليه معيباً وليس أرش ذات العيب, وإنما هو بمجموع المعقود عليه؛ ولهذا السيارة الآن وهذا من العجائب عند أصحاب السيارات, أن السيارة المصدومة إذا لم تسمكر أغلى من السيارة التي صدمت وسمكرت, يقولون: لأنها إذا لم تسمكر نعرف أين الإشكال وهذا هو الفرق. والله أعلم.
وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد. وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر