الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ السادس من أقسام الخيار: خيار في البيع بتخيير الثمن متى بان الثمن أقل أو أكثر مما أخبره به، ويثبت في أنواعه الأربعة في التولية، وهو بيع برأس المال، وفي الشركة: وهي بيع بعضه بقسطه من الثمن وأشركتك ينصرف إلى نصفه، وفي المرابحة: وهي بيعه بثمنه وربح معلوم، وإن قال: على أن أربح في كل عشرة درهماً كره، وفي المواضعة: وهي بيعه برأس ماله، وخسران معلوم، ولا بد في جميعها أي: الصور الأربعة من معرفة المشتري والبائع رأس المال؛ لأن ذلك شرط لصحة البيع، فإن فات لم يصح وما ذكره من ثبوت الخيار في الصور الأربع تبع فيه المقنع، وهو رواية، والمذهب أنه متى بان رأس المال أقل حط الزائد ويحط قسطه في مرابحة وينقصه في مواضعه ولا خيار للمشتري، ولا تقبل دعوى بائع غلطاً في رأس المال بلا بينة ].
إذاً عندنا أربع صور، وهذه الصور الأربع لم تتأت للمشتري إلا بعد معرفته برأس المال الذي اشتراه البائع، وهذا ما يسمى من بيوع الأمانات.
مثاله: لو أن البائع اشترى السلعة بمائة ألف مؤجلة، ثم قال للمشتري: أبيعك برأس مالها وخمسين ألفاً، فرأس مالها مائة ألف مؤجلة، ولكنه لم يخبر بذلك، فحينئذٍ يكون البائع قد غر المشتري؛ لأن مائة ألف لو كانت مؤجلة لكان هذا سعرها، لكنه لو أراد أن تكون حالة لكانت بثمانين ألفاً، فأغر البائع المشتري بذلك، فحينئذٍ يجب أن يكون الإخبار برأس المال حقيقياً وبسعر التكلفة التي دخلت عليه، ولا مانع بأن يكون إخباره بالثمن زائداً على نفس القيمة إذا اشترط على المشتري الذي هو البائع الثاني إذا اشترط عليه نقلها من ثمنه، فلو كان سعرها بتسعين ألفاً، لكن نقلها يتكلف مالاً، فاشترط البائع الأول على المشتري الذي هو البائع الثاني بأن النقل يكون عليه، فصارت تسعين ألفاً، وعشرة آلاف قيمة النقل، فصارت مائة ألف، البيع حصل بتسعين، لكن العشرة الآلاف صارت قيمة النقل، فلو قال البائع الثاني للمشتري الثاني: أني أبيعك بمائة ألف وزيادة أو بمثلها لم يكن ذلك تغريراً؛ لأنه أخبر بالتكلفة التي دخلت عليه، وسوف يذكر المؤلف رحمه الله صوراً في هذا.
قول المؤلف: (وإن قال: على أن أربح في كل عشرة درهماً كره).
أجمع أهل العلم على أن بيع المرابحة صحيح، وهو أن يقول: أبيعك برأس مالها وكذا، يعني: ثمن، هذا محل إجماع، لكن بعض أهل العلم كرهه من باب ألا يدخل البائع في ذمته، وإلا فإن الأصل أن العقد صحيح بإجماع الفقهاء، لكن بعض أهل العلم كالإمام أحمد رحمه الله، ونقل عن مالك أنه كره بيع البيع بإخبار البائع برأس ماله وربح خوفاً يقول أحمد : أحب المماكسة، يعني: يحب أن يماكسه، يحب أن يبيعه بالبيع والشراء، لا يخبر البائع بمثل ما اشتراه، خوفاً من أن يكون دخل في أمانته.
أنا أقول: كراهية الإمام أحمد رحمه الله ربما يكون في زمان فيه وجاهة، لكن في زماننا هذا أصبح التلاعب هو الأصل فإخبار المشتري برأس المال مهم جداً؛ لأن التغرير واضح، فأحياناً يشتري المصرف سيارة بخمسين ألف ريال، لكن البطاقة الجمركية لهذه السيارة هي خمسة وخمسون ألف ريال، فزاد خمسة آلاف، فإذا أراد أن يبيع على عميله بالتقسيط، يقول: أبيعكها بالبطاقة الجمركية ونسبة خمسة بالمائة لكل سنة، فيقول: كم تريد سنة؟ يقول: خمس سنوات، يقول: خمس سنواتها ربحها خمسة وعشرون بالمائة، إذاً اشتراها فيجعل الشراء كأنه خمسة وخمسون ألفاً، ثم يجعل النسبة خمسة وعشرين ألفاً لجميع السنوات، فيكون الربع خمسة آلاف وهو أكثر مما اشتراها، فواقع الحال هل ربح خمسة بالمائة لكل سنة وإلا أكثر؟ فالجواب أنه ربح أكثر من خمسة بالمائة، ولهذا الآن أصبحت مؤسسة النقل تلزم البنوك بمعرفة إذا باعه مرابحة أن يخبر بنفس المشترى وطريقة الربح، وإن كان بعض الفقهاء المعاصرين في المجامع الفقهية يكره هذا خوفاً من أن يكون شبيهاً بالربا، لكن نقول: في هذا الزمان الإخبار طيب؛ لأجل أن أكثر الناس خاصة في بيوع المرابحة يشتغلون؛ لأنهم يريدون الثمن، فهم لا يبالون في هذا، فيغتر كثير من العملاء بتصرفات البنوك، وعندهم من الحيل ما عندهم.
ولـأحمد رواية أنه إن باعه بنفس ما يبيع به في العادة فلا بأس، وهذا اختيار ابن تيمية رحمه الله، فإنه قد يرضى بأن يبيعه بنفس ما اشتراها، فيقول: أبيعك بما يتبايع به الناس، أو أبيعك بما يبيع به فلان، فإن هذا الأقرب -والله أعلم- صحته وجوازه، وهذا هو الذي يظهر والله أعلم.
يقول ابن تيمية : لأن بعض الناس قد لا يحسن أن يماكس، فإذا قال: أريدك أن تبيعني بمثل ما تبيع للوكيل الفلاني أو الزبون الفلاني، أو المحل الفلاني، فإنه يرضى به؛ لأنه قد يكون هذا المحل يحسن المماكسة ويحسن المبايعة، فلأجل هذا فالراجح -والله أعلم- جوازه، ولو لم يعلم البائع بشرط أن يعلم رأس المال بعد ذلك، أما إذا لم يعلم صار فيه جهالة فإذا كان معرفة رأس المال يعلم قريباً فلا حرج إن شاء الله والله أعلم.
ولهذا يقول ابن تيمية : فإن الجهالة هنا مغتفرة لأنها تئول إلى العلم والله أعلم. ولهذا قول المؤلف عندما قال: (من معرفة المشتري والبائع رأس المال)؛ لأن ذلك شرط لصحة البيع، وقد مر في الشرط السابع من شروط البيع معرفة الثمن، وقلنا: أنه إذا باعه بما يتبايع به الناس، وإن كان فيه عدم معرفة الثمن عند إبرام العقد، لكن الجهالة تئول إلى العلم قريباً والله أعلم.
والراجح هو القول الأول؛ لأن المشتري قد يرضى بأن يربح البائع مثلاً عشرة بالمائة، إذا قال: أبيعك بمائة ألف وعشرة آلاف، قد يرضى بأن يكون ربح البائع في السلعة عشرة بالمائة، لكن إذا كان البائع قد غره برأس المال، ثم بان بأنه اشتراها خمسين فيكون قد ربح ستين بالمائة، قد لا يرضى، ولو حط عن ذلك، فإنه يحس بأن فيه نوع غبن، وعدم مصداقية، فيكره ذلك؛ لأن بعض الناس يكره أن يستغل في بيعه وشرائه، فإذا أحس بأنه استغل فإنه يكره السلعة مطلقاً حتى ولو حطت بذلك، وهذا القول أقرب، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولهذا قال المؤلف: [ والمذهب أنه متى بان رأس المال أقل حط الزائد ويحط قسطه في مرابحة، وينقصه في مواضعة، ولا خيار للمشتري، ولا تقبل دعوى بائع غلطاً في رأس المال بلا بينة ].
يعني: إذا تبين إن قال له: ربحي عشرة، ورأس مالي مائة، صار ربحه عشرة بالمائة، ثم بان بأنه خمسين فينظر، فيقول: ليس لك إلا رأس المال خمسين وربحه عشرة بالمائة تقريباً خمسة ريالات، فيقول: لك خمسة ريالات، ولا خيار للبائع، ولكن الراجح والله أعلم أن المشتري ليس له إلزام البائع بالحق؛ لأن تغرير البائع يمكن أن يتفادى بحق المشتري بالفسخ، وأما أن يلزم البائع بأن يحط جزءاً من رأس المال فهذه معاوضة جديدة لا بد فيها من رضا الطرفين، والضرر لا يزال بمثله، والضرر الذي فعله البائع لا يزال بمثله بأن يلزم البائع بعد العلم برأس المال، والقاعدة أنه: ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه )، والله أعلم.
وعلى هذا فقول المؤلف: (ولا خيار للمشتري) فإن الراجح أن للمشتري خياراً، وهو القول الأول.
وقوله: (ولا خيار للمشتري) يعني: ولا أيضاً البائع.
والقول الثاني: لا خيار للمشتري ولا للبائع، فلو قال البائع: أبيعك بمائة ألف، وربح عشرة، صار عشرة بالمائة، ثم تبين أنه اشتراها بخمسين فليس لك حق أيها البائع إلا ربح عشرة بالمائة من الخمسين، فلا حق للبائع، ولا حق للمشتري بالفسخ، والراجح هو القول الأول وهو مذهب الجمهور، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
قول المؤلف: (ولا تقبل دعوى بائع غلطاً في رأس المال بلا بينة) يعني: لو أن محمداً قال لي: أبيعك السيارة برأس مالها مائة ألف وربح خمسة آلاف، فلما تم البيع جاء محمد فقال: يا عبد الله! أنا أخطأت فرأس مالها صراحة هي مائة وخمسة آلاف، بعد ما تم البيع هل يقبل دعوى بائع غلطاً في رأس المال، الراجح أنه لا يقبل بلا بينة؛ لأن قوله الثاني ليس بأصدق من القول الأول؛ لأن القول الثاني الذي قاله البائع ليس بأولى من القول الأول إلا ببينة، فإن أتى البائع ببينة مثل الفاتورة التي اشتراها به فلا حرج، فإن خشي المشتري بأن تكون الفاتورة ليست حقيقية طلب يمينه، والله أعلم؛ لأن الفواتير أحياناً ما تكون حقيقية، فيقول هذا: أبيعك بسعر الفاتورة، والفاتورة أحياناً أكثر من السعر الذي اشتراها به، فحينئذٍ للمشتري أن يطالب البائع بأن يحلف والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
وصلى الله وسلم على نبينا على محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر