الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، اللهم انفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علماً وعملاً يا كريم! وبعد:
فقد قال المؤلف رحمه الله: [ وإن اشترى السلعة بثمن مؤجل، أو اشترى ممن لا تقبل شهادته له كأبيه وابنه وزوجته، أو اشترى شيئاً بأكثر من ثمنه حيلة أو محاباة لرغبة تخصه، أو موسم فات، أو باع بعض الصفقة بقسطها من الثمن الذي اشتراها به، ولم يبين ذلك للمشتري في تخييره بالثمن فلمشتر الخيار بين الإمساك والرد كالتدليس ].
ومن ذلك إذا اشتراها حيلة، مثل أن يكون زيد استقرض من بكر مبلغاً من المال، فأراد بكر أن يبيع السيارة على زيد الذي هو المستقرض لسيارته فيقول المستقرض: أشتريها منك بمائة ألف والواقع أن قيمة السيارة ثمانون ألفاً، لكن جاء المستقرض فاشتراها بأعلى حيلة لأجل أن يربحه بالقرض، فلا يجوز لزيد بعد ذلك أن يقول: اشتريتها بمائة ألف، وإنما اشتراها بمائة ألف حيلة؛ لأجل أن يربح المقرض ثمن القرض، ولأجل هذا انظر فقه السلف وفقه الأئمة وفقه الفقهاء حينما علموا التحايل الذي يحصل في هذا الباب والله أعلم، ولهذا قال: (حيلة أو محاباة أو لرغبة تخصه) مثلما ذكرنا في الأرض التي تجاور البائع.
صورة المسألة: لو اشترى شيئين صفقة واحدة، ثم أراد البائع أن يبيع أحدهما بتخبير الثمن، فلا يجوز أن يقول بنصفها؛ لأن الشيئين ربما يكون له قيمة غير قيمتها مقسطة، فلو قال لك: إن اشتريت بواحدة قيمتها عشرة، وإن اشتريت ثنتين أعطيك إياها بخمسة عشر، فإذا قال بهذه الطريقة، فإنه لا يجوز له أن يبيع بعد ذلك الواحدة على أنها بعشرة؛ لأنه إنما اشترى اثنتين بخمسة عشر، فيجب عليه أن يقول: سبعة ونصف، أما أن يقول: بعشرة بناء على أن الناس يتبايعون بعشرة، فهذا لا يجوز؛ لأنه لم يكن منصفاً في هذا والله أعلم.
والقول الثاني الذي أشار إليه البهوتي صاحب الروض: أنه ليس له إلا حق الثمن الذي زيد به بقسطه يعني: بالنسبة، والله أعلم.
ولهذا قال: [والمذهب فيما إذا بان الثمن مؤجلاً أنه يؤجل على المشتري، ولا خيار لزوال الضرر كما في الإقناع والمنتهى].
يعني: المذهب عند الحنابلة كما في الإقناع والمنتهى أنه إذا تبين أن البائع قد اشتراها مؤجلة، ثم باعها على المشتري حالة، ثم علم المشتري بأن البائع اشتراها مؤجلة، فيجب على البائع أن يكون بيعه على المشتري بعد ذلك مؤجلاً، ولا خيار للمشتري، واعلم أن المذهب عند متأخري الحنابلة هو إذا اتفق الإقناع والمنتهى على شيء فإنما هو المذهب، وإن اختلفا يعني: صاحب الإقناع الذي هو موسى الحجاوي على رأي، و ابن النجار الفتوحي صاحب المنتهى على رأي فأيهما المذهب؟ فقال بعضهم: إن المذهب ما اختاره مرعي الكرمي الحنبلي في غاية المرام، وقال بعضهم: إن المذهب هو ما في المنتهى، وهذا هو أظهر عمل المتأخرين، وإذا كان كذلك فلا أثر لأن نقول: إذا توافق الإقناع والمنتهى فالمذهب هو ما توافقا عليه؛ لأننا إذا كان المرد في النهاية إلى المنتهى فنقول: المذهب هو ما في المنتهى.
وبالمناسبة فإن صاحب المنتهى في منتهاه قد أحكم عبارته، وسبك بيانه، فهو أفضل سبكاً وعبارة مما في الإقناع، وإن كان ما في الإقناع وشرحه وهو كشاف القناع أكثر مسائل من المنتهى وشرحه دقائق النهى، و منصور البهوتي صاحب الروض شرح زاد المستقنع وشرح الإقناع للحجاوي كلاهما للحجاوي الإقناع والزاد وشرح المنتهى بما يسمى بدقائق أولي النهى شرح المنتهى والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
انظر إلى دقة الإخبار، وهذا الذي جعل الإمام أحمد يكره أن يبيعه ببيع الأمانة، لو أن البائع الذي هو الثاني اشترى الأرض خيار المجلس أو خيار الشرط اشتراها بمائة ألف على أن له الخيار، ثم خشي البائع الأول أن يفسخ المشتري الذي هو البائع الثاني السلعة، قال له: يا فلان! أنا سوف أحط عنك عشرة آلاف، فصارت تسعين، هذا الحط في خيار المجلس أو خيار الشرط يجب على المشتري الذي أصبح بائعاً إذا أراد أن يبيعها ببيوع الأمانة فلا يجوز أن يقول: أبيعك برأس مالها وهي مائة ألف؛ لأنه قد حط عنه عشرة آلاف، وقل مثل ذلك بالزيادة، فإذا أراد أن يشتريها بمائة ألف فخشي أن البائع الأول يبطل البيع، فقال: أزيدك عشرة آلاف، فلا بأس أن يبيعها بعد ذلك بمائة وعشرة؛ لأن هذا هو التكلفة الفعلية للأرض، ولهذا العبارة الدقيقة عندنا الآن أن يبيعه برأس المال وهو التكلفة الفعلية.
قول المؤلف: (وما يزاد في ثمن أو يحط منه أي من الثمن في مدة خيار مجلس أو شرط أو يأخذ أرش العيب أو الجناية عليه أي على المبيع ولو بعد لزوم البيع يلحق برأس ماله).
يعني: لو اشترى السيارة بمائة ألف، ثم بانت معيبة، فعلى المذهب أن للمشتري الذي سوف يكون بائعاً أن يمسك السلعة ويحط عن قيمة الأرش كما هو مذهب الشافعي والحنابلة، وقد قلنا: إن الراجح أنه لا يلزم البائع بدفع الأرش، لكن على المذهب أنه لو ألزم البائع بحط قيمة الأرش فإن المشتري الذي أصبح بائعاً لا يجوز أن يبيعه برأس المال الذي أبرمه أولاً، بل يجب عليه أن يحط قيمة الأرش، وحينئذٍ يلحق برأس ماله، والله أعلم، ولهذا قال المؤلف: (ويجب أن يخبر به كأصله).
خذ مثالاً: جابر رضي الله عنه حينما باع جمله للنبي صلى الله عليه وسلم بدراهم واشترط حملانه، فقال صلى الله عليه وسلم بعد ما وصل إلى المدينة: (أتراني ماكستك، خذ جملك ودراهمك)، فيقول جابر بعد ذلك: أبيعك بسعر كذا الذي اشتراه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك؛ لأن ذلك إنما كان نوعاً من الهدية فلا يسوغ، والله أعلم.
قول المؤلف: (وكذا ما يزاد في مبيع أو أجل، أو خيار، أو ينقص منه في مدة خيار فيلحق به)، ولهذا قلت لكم: إن قيمة النقل إن اشترطت على المشتري فإنه يضيفها على رأس المال، والله أعلم، وقل مثل ذلك: إذا اشترى السلعة مصدرة، يعني: جاءت من الخارج عن طريق فتح الاعتماد، فاضطر المشتري أن يدفع أجرة التخزين، فإنه إذا أراد أن يبيعها فلا بأس أن يقول: أبيعك برأس مالها، ويضيف عليها أجرة التخزين؛ لأن هذه هي الأجرة التي دخلت عليه والله أعلم.
قول المؤلف: (وإن كان ذلك) يعني: الحق أو الزيادة بعد لزوم البيع، ومعنى بعد لزوم البيع أي: بعد فوات خيار المجلس، أو انتهاء مدة خيار الشرط، فقد ثبت البيع، فإن أراد المشتري أن يزيد البائع بعد ذلك بعشرة من باب أنه حس أن البائع بحاجة فلا يجوز له بعد ذلك إذا أراد أن يبيعها أن يذكر هذا الثمن؛ لأن هذا إنما هو نوع هدية وليس بثمن في المعقود عليه، وهذا إنما يتأتى في غير الأرش العيب، وفي غير الجناية، فإن الجناية من ضمنها، ومعنى الجناية يعني: لو أنه اشترى دابة، ثم جنت تلك الدابة في الليل، فإنه ينقص ويلزمه أن يدفع جناية الليل؛ فقد قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدابة يجب على أصحابها أن يحرسوها في الليل، وأما في النهار فإن جرحها جبار، يعني: ساقط، والله أعلم.
يقول: وإن أخبر بالحال بأن يقول: اشتريته بكذا، ولكن زدته بكذا، أو أنقصته كذا فهذا حسن؛ لأنه أبلغ في الصدق، ولكن لو أراد أن يجمع الكل فيقول: بعت برأس مالي كذا وجمع الكل، فلا حرج أيضاً والله أعلم.
قول المؤلف: (ولا يلزم الإخبار بأخذ نماء)، يعني: ما يلزم أن يقول: أنا الآن استثمرته يعني: أخذت مثل من اشترى عمارة مؤجرة وأخذ ريعها بسنة، ثم أراد أن يبيعها بعد السنة، فيقول: أبيعك برأس مالها، لا يقول: وزيادة الريع؛ لأن هذا ما له دخل؛ لأن هذا ليس له شأن البتة، وقل مثل ذلك: إذا اشترى الجارية، وكانت الجارية ثيباً ثم وطئها، فإن وطء الثيب لا ينقص القيمة، فلا يلزم أن يقول: وطئتها كذا مرة؛ لأن ذلك لا يؤثر، لكن إن اشترى الجارية على أنها بكر، ثم أراد أن يبيعها وقد وطئها، فلا بد من إخبارها؛ لأن قيمتها بكراً تختلف عن قيمتها ثيباً والله أعلم، ولهذا قال: (إن لم ينقصه)، يعني: بأخذ نماء واستخدام ووطء إن لم ينقصه).
قال المؤلف: [وإن اشترى شيئاً بعشرة مثلاً، وعمل فيه صنعة أو دفع أجرة كيله أو مخزنه أخبر بالحال] يعني يقول: الآن المصارفة ويقول: الكيال على المشتري، ثم اشترى السلعة ودفع قيمة السلعة وقيمة الكيل، فلا بأس أن يخبر بقيمة الكيل والسلعة؛ لأنها رأس المال، وإن أخبر بالحال نفسه، فيقول: اشتريتها بمائة ريال وعشرة ريالات قيمة الكيل، فهذا أفضل وهو أحسن، وهو أبرأ للنفس، والله أعلم.
قال المؤلف: [ولا يجوز أن يجمع ذلك ويقول: تحصل عليّ بكذا]، يعني: ولا يجوز أن يجمع فيقول: التكلفة الفعلية كذا، هذا المذهب، والقول الثاني في المسألة: إنه لا حرج في ذلك شريطة ألا يكون الكيال قيمتها بأكثر من سعر المثل، أو قيمة النقل بأكثر من سعر المثل، فإذا كانت هي نفس قيمة المثل بحيث لو أراد المشتري أن يشتريها فإنه يتكلف مثلما يتكلف البائع، فالذي يظهر -والله أعلم- أنه لا حرج أن يجمع ذلك؛ لأنه إنما لم يحابي الكيال ولم يحابي الحمال، ولا المكارئ ولا غير ذلك، والله أعلم.
هنا فائدة! كل عبارة أشكلت عليك في الروض فابحثها في كشاف القناع، فإن كشاف القناع أكثر بسطاً، فعبارة: (وما باعه اثنان مرابحة، فثمنه بحسب ملكيهما لا على رأس ماليهما) يعني: اثنان باعا شيئاً مرابحة، قال: أبيعك برأس ماله وربح، يقول المؤلف: (فثمنه بحسب الملك لا بحسب رأس المال الذي للطرفين)، فالعبارة هنا ليست دقيقة، وفي كشاف القناع عبر بعبارة أطول وأوضح فقال: ولو اشترى اثنان ثوباً بعشرين، ثم بذل فيه اثنين وعشرين، فاشترى أحدهما نصيب صاحبه بذلك السعر المبذول أخبر في المرابحة ونحوها بواحد وعشرين، عشرة ثمن نصيبه الأول، وأحد عشر ثمن نصيب صاحبه لا باثنين وعشرين؛ لأنه كذب، انظر الدقة، العبارة التي ذكرها صاحب الكشاف أكثر تفصيلاً من عبارة صاحب الروض، فمثلاً: أنا وسلطان اشترينا سيارة بعشرين ألفاً، ثم جاء محمد وقال: أريد أن أشتريها منكم بخمسة وعشرين ورفضنا، فجاء سلطان، وقال: يا عبد الله! أنا أشتري نصيبك، فقال: بذل خمسة وعشرين، قال: أنا سأشتريه على أنه بثلاثة وعشرين؛ لأنه اشترى نصيبه.
فيقول: أنا أشتريه، فاشتراه بعشرة وألفين وخمسمائة، فصارت اثني عشر ألفاً ونصف، فاشتراها سلطان مني بناءً على الربح الذي بذل لنا، فإذا أراد سلطان بعد ذلك أن يبيعه فلا يقول: رأس مالي خمسة وعشرون؛ لأن وقت المشاركة يختلف؛ لأن الخمسة والعشرين إنما كانت للشخصين، وليست للشركة، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولهذا قال: أخبر بثمنه بحسب ملكيهما يعني: بحسب قيمتهما جميعاً لا بحسب رأس ماليهما، وحينئذٍ يكون قد غر سلطان بهذه الطريقة؛ لأنه إنما اشتراها بناءً على رأس ماله لا بناءً على ما دخلت عليه السلعة بينهما، والله تبارك وتعالى أعلى وأعلم.
ولعل في هذا كفاية، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر